قمحاوي يكتب: مصير الأردن بيد الآخرين.. الولاية منهوبة والدولة هائمة
د. لبيب قمحاوي
جو 24 :
على الحكم في الأردن أن ينحني لإرادة الشعب عوضاً عن الإصرار على الإستمرار في فرض إرادته على الشعب. فالشعب مصدر السلطات، وواجب أي حاكم أن يُجَسِّد إرادة شعبِهِ وليس العكس. إن اللحظة التي ينحني فيها الشعب أمام إرادة الحاكم تكون هي لحظة النهاية، في حين أن اللحظة التي ينحني فيها الحاكم لإرادة شعبه تكون هي لحظة الإنطلاق نحو علاقة صحية وصحيحة تشكل البداية لمستقبلٍ مشرق.
ان ما إبتدأ كإعتداء خجول وصامت على الولاية الدستورية للشعب الأردني ومؤسساته الدستورية قد تحول الآن إلى مسار ونهج قد تجاوز كل حدود اللياقة واللباقة السياسية وأصول وضوابط العقد الإجتماعي في كيفية التعامل بين الحاكم والمحكوم، ليتحول من إعتداء محدود على الولاية إلى إستيلاء كامل وعلني على كافة مقدرات البلد، وبشكل يُلغي عملياً كافة المرجعيات الدستورية ويضع مقاليد الدولة بيد شخص واحد وحفنة من الموظفين لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين. لقد إستفحل هذا النهج إلى الحد الذي أقنع الأردنيين بأن الوضع الحالي قد تجاوز إمكانية الإصلاح وأن الخراب الناتج عن ذلك المسار أصبح يَسْتدعي تغيير النهج والعودة بالدستور، نصاً وممارسة، إلى الوضع الذي كان عليه عند صياغته عام 1952.
إعتداء الحكم على حقوق الأردنيين وعلى الولاية الدستورية للسلطات الثلاث هو إخلال واضح ومستمر بالعقد الإجتماعي الذي وُضِعَتْ أُسُسه بين الحاكم والمحكوم عشيه إنشاء الدولة الأردنية مروراً بمختلف المؤتمرات الوطنية الأردنية منذ عام 1928 ودستور عام 1952 وإنتهاءً بالميثاق الوطني الأردني والذي تمت صياغته عام 1990 – 1989.
الحكم لا يملك الحق ولا الصلاحية الدستورية لإختطاف ولاية الشعب الأردني على دولته وعلى مصيره ومستقبله. وإحتكار السلطة ضمن دائرة من الموظفين المحيطين بالملك والذين لا يتمتعوا بأي وضع دستوري أو صلاحيات دستورية هو أمر يبعث على العجب وعلى التساؤل والتخوف في الوقت نفسه. إن تقزيم شؤون الوطن والدولة وحصرها في أيدي قلة من الموظفين الذين لا يمكن مساءلتهم أو محاسبتهم من قبل السلطة التشريعية هي دعوة للفوضى والفساد والتسيب. والأخطر من ذلك أن الإتصالات والعلاقات والصفقات السياسية الدولية يقوم بها في الواقع إما شخص واحد أو حفنة من أولئك الموظفين دون علم أو إستشارة الحكومة صاحبة الولاية الدستورية المنهوبة. وهكذا يصبح مصير الدولة الأردنية والأردنيون بيد تلك الحفنة حيث لا يعلم أحد حقيقة الصفقات أو السياسات التي يتم الإتفاق عليها والتي سوف تحدد مصير الأردن والأردنيين ومستقبل أبنائهم . فالدولة في الواقع إما غائبة أو مغيبة عن تبعات ما يجري وما يتم الإتفاق عليه بإسم الأردن والأردنيين.
من الواضح أن الحكومات الأردنية لم تعد قادرة على صنع السياسات حيث يبدو أنها قد وافقت ضمناً وبصمت على التنازل عن ذلك الحق الدستوري علماً أنه لا يحق لها فعل ذلك. ولكن إختيار رئيس الوزراء بقرار منفرد ودون أي مرجعية شعبية جعل ذلك ممكناً. التنازل عن الولاية الدستورية حتى ولو تم بصمت هو أمر يتعارض وأحكام الدستور. ولو كان في الأردن محكمة دستورية حقيقية فاعلة لأفادت بأن التعدي على ولاية الحكومة وباقي المؤسسات الدستورية هو مخالف لأحكام الدستور ولا يحق لأحد القيام به وهو باطل في أساسه ولا يجوز الإستمرار به.
إن ما يجري في الأردن لم يقف عند حدود الولاية الدستورية، بل إمتد ليشمل حقوق المواطن الأردني بل والمواطَنَةِ نفسها. فتحويل حقوق المواطن التي كفلها الدستور والتي دفع المواطن الأردني ثمنها من خلال الضرائب والإلتزام بما عليه من حقوق تجاه الدولة ، قد تم تحويلها إلى مكرمات جعلت من حقوق المواطنة تلك عبارة عن هبات وأُعطيات لا يتم الحصول عليها إلاّ من خلال الإستجداء وفَقَدَتْ بالتالي صفتها كحق للمواطن. وأصبح رئيس الديوان الملكي مثلاً وهو موظف عادي لا صفة دستورية له، يتصرف وكأنه رئيس للحكومة يقوم بما يجب أن تقوم به الحكومة من دون استشارتها! كيف يمكن السماح لمؤسسات الدولة بالإنهيار إلى هذا الحد؟ من يحاسب رئيس الديوان إذا أخطأ؟ وما هي سلطة مجلس النواب عليه؟ كيف يتم العبث بالدولة ومؤسساتها وقوانينها إلى هذا الحد؟ لقد تم تقليص دور الحكومة إلى حدوده الدنيا مما أضعف بالتالي من إمكانية محاسبة الحكومة على تقصيرها في تلبية حقوق المواطن التي تحولت إلى مكرمات ملكية لا سيطرة للحكومة عليها ولا وضع قانوني لها، علماً أن تمويل تلك المكرمات يتم من قبل الحكومة وبأموال دافعي الضرائب، فلماذا ولمصلحة من يتم ذلك؟ إن احترام ولاية الحكومة يتطلب إلغاء كافة أنواع وأشكال المكرمات الملكية إلغاءً تاماً وعودة تلك المسؤولية حصراً إلى الحكومة صاحبة الولاية الدستورية.
أما المواطنة فإن واقعها يتنافى وسياسة الحكم في الاستمرار بالحديث عن الأصول والمنابت وفي الممارسات والقوانين التي تعزز الجهوية والطائفية والعرقية . فالمواطنة لا تعترف الا بأردنية الأردني دون النظر إلى أصوله أو منبته أو دينه ..إلخ. والإصرار عن ذكر الأصول والمنابت مثلاً يهدف إلى الإضرار بمفهوم المواطنة وإضعافه وبالتالي إضعاف وحدة الشعب . ويبدو أن الهدف من كل ذلك هو إضعاف الوحدة الوطنية وبالتالي قدرة الشعب على مجابهة الجبروت والإستبداد الذي يتعرض له.
هنالك رفض جماهيري عربي عام لأنظمة الإستبداد ولإستمرار عهود الظلم والتفرد بالسلطة. الربيع العربي الذي اكتسح معظم دول العالم العربي منذ العام 2010 وحتى الآن قد أدى خلال تلك الحقبة إلى التغيير السلمي في بعض الدول مثل مصر وتونس، وإلى حروب أهلية دموية في البعض الآخر مثل ليبيا واليمن وسوريا أدت إلى مقتل الآلاف أو إلى تغيير دموي في الحكم. وما يجرى في الأردن منذ العام الماضي ويجري الآن في السودان والجزائر من حراكات جماهيرية مستمرة عنيدة تدعو لوقف الإستبداد والفساد وتُصِرّْ على العودة إلى النهج الديموقراطي السليم هو واقع ما زالت الأوساط السياسية في تلك البلدان تعيشه من خلال حراكاتها السلمية. إن سلميَّة الحراك الشعبي في تلك الأقطار لا يعني ضُعفاً في بنية أو أهداف تلك الحراكات بقدر ما يعني وعياً جماهيرياً بأهمية تجنب العنف وسفك الدماء، وبالتالي حرمان الأنظمة من أي عذرٍ للبطش بجماهير الحراك وتفادي مَطَالبها المحقِّة.
الإصرار على الإستبداد وما يرافقه من فساد وظلم هي ظاهرة تُمَيز معظم أنظمة الحكم العربية وإن بدرجات متفاومة. والمرء قد يتساءل في هذا السياق فيما إذا كانت الشعوب هي السبب، أم أن هنالك خللاً حضارياً ثقافياً يدفع الحاكم العربي الذي يتولى الحكم إما من خلال ثورة على الإستبداد أو تحت غطائها بأن يتحول هو نفسه وبسرعة إلى نظام مستبد يسعى إلى البقاء والخلود في المنصب منطلقاً من قناعة مريضة بأنه هو وحده القادر على حماية الوطن وتحقيق المعجزات.
يبدو أن الخلفية الثقافية الحضارية والموروث الثقافي العربي قد لعبا دوراً كبيراً في تكريس صورة القائد العربي بإعتباره شخصاً لا يمكن مساءلته أو محاسبته إنطلاقاً من الموروث القاضي بإطاعة "أولي الأمر" علماً أن تلك الطاعة مشروطه وليس مطلقة، بمعنى أن الطاعة ليست أمراً مطلقاً ومحتوماً مهما كان الوضع، ولكنها مشروطة بقدرة الحاكم على القيام بالمسؤليات المناطة به بكفاءة وإخلاص وتجرد عن المنافع الشخصية والمكاسب وعلى أن يستند كل ذلك إلى مبادئ الحاكمية الرشيدة وتلازم السلطة بالمسؤولية وتداولها سلمياً.
يأخذ البعض على العرب مطالبتهم بمفاهيم الديموقراطية بإعتبارها التصاقاً بحضارة الغرب، وهذا خطأ. وفي الواقع فإن مفاهيم مثل الحرية والاستقامة والشفافية والمحاسبة والمساءلة والمشاورة تصب في صلب المفاهيم الإسلامية وبالتالي الحضارة العربية. وهذه المفاهيم التي أصبحت جزأً من التراث الإنساني يجب أن لا يُنظر إليها بإعتبارها حكراً على حضارة ما أو على مجتمع بعينه بقدر ما هي محصلة للتراث الإنساني بمجموعه.
العرب ليسوا أقل شأناً من الآخرين، ولا يجب النظر إلى مطالبهم بإعتبارها أكثر مما يستحقون. ودور العرب، والأردنيون منهم، في حماية وإثراء الحضارة الإنسانية والثرات العالمي هو أمر مشهود له، وعلى حكام العرب قبل غيرهم الإقرار بذلك وبحق شعوبهم في التمتع بالقيم الإنسانية للحرية والديموقراطية والمساءلة والمحاسبة وتداول السلطة، بإعتبار كل ذلك حقاً طبيعياً لهم وليس مِنَّةً من الحاكم يعطيها أو يعطي جزأ منها متى يريد ويأخذها متى يريد.
lkamhawi@cessco.com.jo