حكاية طفلة عذّبها النازيون وغدت أسطورة بعد موتها
ما بين عامي 1939 و1945، مرّت البشرية بواحدة من أتعس فتراتها، حيث عاش العالم خلال تلك السنوات على وقع أهوال الحرب العالمية الثانية التي اندلعت يوم 1 أيلول/سبتمبر سنة 1939 إثر الاجتياح الألماني للأراضي البولندية، لتتسبب خلال ست سنوات فقط في مقتل ما يزيد عن 60 مليون شخص.
وبحسب أغلب المصادر، اعتبر المدنيون وقود هذه الحرب، حيث كان ثلثا ضحايا هذا النزاع العالمي من المدنيين، سقط جلّهم خلال إبادات جماعية ارتكبها أساسا اليابانيون والألمان والسوفيت.
في الأثناء، دوّن التاريخ قصص العديد من ضحايا الإبادات، ولعل أبرزهم الطفلة الألمانية اليهودية آن فرانك (Anne Frank)، المولودة يوم 12 حزيران/يونيو 1929، التي عاشت ويلات مراكز الإبادة النازية وفارقت الحياة في الخامسة عشرة من عمرها، وقد دوّنت هذه الطفلة اسمها بأحرف من ذهب بفضل مذكراتها التي حدّثت من خلالها عن حياتها أثناء فترة مطاردة فرق "الأس أس" الألمانية لعائلتها.
آن فرانك
ولدت آن فرانك بمدينة فرانكفورت الألمانية لعائلة يهودية ثرية، كان والدها أوتو فرانك رجل أعمال ناجح.
ومع صعود أدولف هتلر وحصوله على مقاليد الحكم بألمانيا سنة 1933، فضّلت هذه العائلة مغادرة الأراضي الألمانية للإقامة بهولندا هربا من سياسات النازيين المعادية لليهود.
وعلى إثر انتقالهم لأمستردام، افتتح أوتو فرانك مصنعا لإنتاج لوازم صناعة المربّى. وبحلول العام 1935، التحقت آن فرانك بالمدرسة لتكسب هنالك شعبية بين أقرانها بفضل تفوّقها الدراسي وطابعها المرح.
في الأثناء، لم تدم سعادة هذه العائلة بأمستردام طويلا. فبحلول شهر أيار/مايو 1940، اجتاحت الجيوش الألمانية الأراضي الهولندية، لتبدأ معاناة اليهود المقيمين بهولندا، وخلال الفترة ما بين تموز/يوليو 1942 وأيلول/سبتمبر 1944، نقلت قوات الأس أس الألمانية ما يزيد عن 100000 من يهود هولندا نحو مراكز الإبادة الجماعية.
خلال شهر تموز/يوليو 1942، تلقّت مارغوت فرانك، شقيقة آن فرانك، رسالة تدعوها لتسليم نفسها والالتحاق بأحد مراكز العمل القسري بألمانيا، وأمام هذا الوضع فضّلت العائلة الاختباء بشقّة سرية موجودة خلف المكتبة الحائطية بمصنع أوتو فرانك، ولتضليل الألمان تركت العائلة اليهودية بمنزلها رسالة أشارت من خلالها لمغادرتها الأراضي الهولندية.
في الأثناء، شهدت الأيام التالية تزايد عدد المقيمين بهذه الشقّة السرية حيث التحقت عائلة المسؤول بالمصنع هرمان فون بيلز (Hermann van Pels) اليهودية ذات الثلاثة أفراد بعائلة فرانك خوفا من الألمان.
رعب مستمر
عاشت العائلتان على وقع حالة رعب مستمر، حيث اضطر الجميع لالتزام الصمت والهدوء خلال فترة النهار، لعدم إثارة شكوك العمّال، حيث علم عدد قليل من المسؤولين بحقيقة هذه الشقّة السرية.
وقد ضحّت السكرتيرة مياب غيز (Miep Gies) بحياتها من أجل المقيمين بالمخبأ السري، حيث كانت تنقل لهم يوميا الطعام وأخبار التقدم الألماني، كما لجأت لإيواء زوجها اليهودي فريتز بفيفر بهذه الشقة السرية بعد تزايد حملات فرق "الأس أس" الألمانية بالمنطقة.
أثناء فترة إقامتها بهذه الشقة السرية، قضت آن فرانك وقتها في ملء مذكراتها، فخاطبت في كتابتها صديقة وهمية لقبتها بكيتي (Kitty)، وسمّت مكان إقامتها بالمرفق السري، وحدّثت عن قسوة الحياة داخله، وغياب الخصوصية، وعبّرت لأكثر من مرة عن مشاعر الخوف والحزن والوحدة التي تنتابها، كما نقلت جانبا من حياتها الخاصة، فحدّثت عن إعجابها بعدد من زملاء الدراسة وعلاقتها بصديقاتها وشقيقتها، كما أظهرت جانبا لافتا للانتباه تحدثت من خلاله عن الحرب والإنسانية وهويتها.
اختباء لأكثر من عامين
ظل الجميع بهذا المخبأ السري لأكثر من عامين، فيوم 4 آب/أغسطس 1944 كشف الألمان حقيقة الشقة السرية، واعتقلوا كل من فيها، ووزعوهم على مراكز إبادة مختلفة.
وقد أرسلت آن فرانك وشقيقتها نحو معسكر الإبادة بيرغن بلسن (Bergen-Belsen) بشمال ألمانيا، وفارقت الحياة مطلع شهر آذار/مارس 1945 بسبب مرض التيفوس لتدفن إثر ذلك بمقبرة جماعية.
ومن ضمن جميع الذين اعتقلوا داخل الشقة السرية، لم ينجُ سوى أوتو فرانك الذي أرسل نحو معسكر أوشفيتز.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، عاد الأخير لأمستردام ليتسلم من عند السكرتيرة مياب غيز مذكرات ابنته آن فرانك التي بقيت سليمة برفقة 300 رسالة أخرى.
وتنفيذاً لرغبة ابنته التي كانت تتمنى أن تصبح يوما ما صحافية وكاتبة، أقدم أوتو فرانك على جمع مذكرات ابنته لتنشر سنة 1947 بهولندا تحت عنوان Het Acheterhuis.
في الأثناء، رفض الأميركيون نشرها معتبرين إياها مثيرة للاكتئاب، ومملة، لكن مع حلول العام 1952 وافقت إحدى مؤسسات النشر الأميركية على طباعتها وتسويقها تحت اسم مذكرات طفلة صغيرة (The Diary of a Young Girl).
خلال السنوات التالية، كسبت مذكرات آن فرانك شهرة عالمية، فترجمت لنحو 70 لغة وبيعت منها عشرات ملايين النسخ، كما تحوّلت الشقة التي اختبأت بها سنتين لمتحف.