خمسة أعوام على إحراق الطفل أبو خضير
جو 24 : قبل خمسة أعوام، في 2/7/2014، اختطف ثلاثة مستوطنين الفتى المَقدسي ذا الأعوام السبعة عشر، واقتادوه إلى غابات القدس حيث أحرقوه حيّاً. لم تلبث محكمة الاحتلال أن أصدرت أحكامها بحقّ المستوطنين المتورّطين، فإذا بها أحكام تخفيفيّة، تبرِّر الجريمة وتحتضن مُرتكبيها.
تعليقاً على الجريمة، قال أوفير جندلمان، المُتحدّث باسم رئيس حكومة الاحتلال للإعلام العربي، في مقابلة على BBC عربية في 7/7/2014: "رئيس الوزراء نتنياهو اتّصل هذا الصباح بوالِد الفتى المرحوم محمّد أبو خضير وأعربَ عن صدمته وصدمة الشّعب الإسرائيلي برمّته إزاء الجريمة النكراء، وهي قتل إبنه. في نهاية المطاف، هذا عمل شنيع ومرفوض من قِبَل الجمهور الإسرائيلي [...] أذكّر، هذا هو عملٌ أوّل من نوعه. حتّى الآن لم يتمّ ارتكاب مثل هذه الجريمة. لذا، نحن ننظر ببالغ الخطورة إلى هذه الجريمة النّكراء [...] والجمهور الإسرائيلي برمّته يرفض هذا القتل".
هذا الكلام لجندلمان لا يمكن بأيّة حال أن يمحو تاريخاً مُتمادياً من الجرائم الإسرائيلية التي كان الإحراق جزءاً منها، شهدت عليه معامل تطوير الأسلحة التي عملت فيها عصابات "الهاجاناه" و"الإتسل" لتطوير القنابل الفسفوريّة الحارِقة التي استعملتها في النّكبة لإحراق القرى والبيوت الفلسطينيّة على رؤوس أهلها. أمّا كلام جندلمان عن رفض الحكومة الإسرائيلية والجمهور الإسرائيلي هذا القتل ، فهو لا يختلف بشيء عن إنكار الاحتلال كلّ جرائمه منذ ما قبل النكبة، إلى مجازره في لبنان وغزّة وغيرها.
وكتبتبراءة درزي الباحثةفي الشأن الفلسطيني انه وفي مُراجعةٍ سريعةٍ لجرائم الاحتلال التي قامت على الإحراق، تحضر قرية قُولة قضاء اللد، التي احتلّها الصهاينة في تموز/يوليو 1948، فشرّدوا أهلها وطردوهم منها ثمّ قتلوا مَن تبقّى فيها إما بإطلاق النار عليهم أو إحراقهم أحياء في منازلهم. سيناريو مُشابِه كرَّره الصهاينة مع مَن تبقّى من الفلسطينيين في طيرة حيفا ، إذ اقتادوهم إلى خارج القرية في باصات ثم أجلسوهم في دائرة تبعد حوالى 200 متر من طريق العفولة وسط بقايا قمح محصود ليصبّوا عليهم البنزين ويحرقوهم أحياء، ويطلقون النار على مَن حاول الهرب.
وفي مجازر الإحراق في غزّة ولبنان، صدرت قرارات تنفيذ المجازر والقصف بالقنابل الحارِقة عن حكومة الاحتلال. ففي الحروب التي شنَّها الصهاينة على قطاع غزَّة ما بين عامي 2006 و2014، لم تتورَّع قوات الاحتلال عن استعمال السلاح الحارِق، ومنه الفوسفور الأبيض، ما خلَّف الكثير من الجثث والأجساد المُحترِقة. وفي عام 2008، هدَّد ماتان فيلناي، نائب وزير جيش الاحتلال، بتحويل غزَّة إلى "محرقة كبيرة". وفي الحرب التي شنَّتها دولة الاحتلال على لبنان عام 1996، أحرق الصهاينة بقنابلهم مقـرّاً للأمم المتحدة في قانا الجنوبية لجأ إليه حوالى 100 من أهل القرى المُجاورة، ما ترك جلّهم جثثاً مُتفحّمة.
وفي جريمةٍ مُشابِهةٍ لجريمة إحراق أبو خضير، أقدم مستوطنون بعد حوالى عام، في 31/7/2015، على إضرام النّار في منزل عائلة دوابشة في قرية دوما في محافظة نابلس في الضّفة الغربيّة المحتلّة، فاستشهد الرّضيع علي، الذي لم يبلغ السنتين، وأبواه، أمّا أخوه أحمد ذو الأعوام الأربعة، فنجا من الموت على حروقٍ وتشوّهاتٍ في وجهه وجسده.
وكما أحرق الصهاينة البشر، فإنّهم لم يوفّروا الحجر، ولم تسلم المُقدَّسات المسيحية والإسلامية من جرائمهم. ففي عام 2006، حاول مستوطنان حرق كنيسة البشارة في النّاصرة عبر تفجير عبوات غاز فيها ؛ وفي عام 2010، أحرق مستوطنون كنيسة تاريخية في شارع الأنبياء غرب القدس. كذلك، أقدم مستوطنون على إحراق الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية في القدس في شباط/فبراير 2015، وكنيسة الطّابغة (الخبز والسمك) على ضفاف بحيرة طبريا في حزيران/يونيو 2015. وقد أعلن الحاخام بنتسي غوبشتاين، الذي يرأس منظمة "لاهافا" المُتطرّفة، تأييده لحرق الكنائس، وأشار إلى أنّ المسيحيّة نوع من أنواع الوثنية، ويجب مُحاربتها ومنع انتشارها.
ولم تكن المساجد بمنأى عن جرائم الإحراق، ومنها مسجد في قرية المغير قضاء رام الله في حزيران/يونيو 2011، ومسجد قصرة في قضاء نابلس في أيلول/سبتمبر 2011، ومسجد طوبا الزنغرية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1948، ومسجد عقربا جنوب شرق نابلس في نيسان/أبريل 2018. أما إحراق المسجد الأقصى عام 1969، وإن كان على يد مُتطرِّف مسيحي، إلّا أنّ الرعاية الإسرائيلية للجريمة كانت واضحة، إنْ في تسهيل دخوله المسجد وهو يحمل المُتفجرّات، ومن ثم إطلاق سراحه بزعم أنّه معتوه.
ومن جرائم الإحراق الأخرى التي ترتكبها دولة الاحتلال والمستوطنون، إحراق المحاصيل الزراعية للفلسطينيين، ويتعمَّد الاحتلال حرق مساحات واسعة من أراضهم المزروعة بالقمح والشعير، لا سيما عبر استهدافها في الصيف بالقنابل المُضيئة لإحراقها. وتكرَّرت في السنوات الماضية جرائم إحراق المستوطنين آلاف الدونمات من المحاصيل الزراعية، لا سيّما في الخليل.
ليست هذه الجرائم إلا البعض من الكلّ، وهي نموذج من سياسة ثابتة لدى الصهاينة قبل إعلان قيام كيانهم عام 1948، وإنّ جريمة إحراق أبو خضير لم تكن طارئاً أو خروجاً عن "أخلاقيات" دولة الاحتلال والمستوطنين، بل هي في صُلب عقيدتهم وقلبها، ولا يُغيّر من حقيقة ذلك شيء حتى إنكار جندلمان واستنكاره!
"الميادين"