ويأتيك من موسكو بنبأ عظيم
عريب الرنتاوي
جو 24 : لا تخلو التصريحات والمواقف المُعقّبةِ على نتائج زيارة جون كيري لموسكو، من نبرة تفاؤل..حيث عادت أسهم الحل السياسي/ التفاوضي للأزمة السورية إلى الإرتفاع من جديد، بعد أن ظننا أن “مبادرة جنيف” قد دُفنت تحت ركام المنازل وأنقاض المدن والبلدات السورية المنكوبة، حتى أن الأخضر الإبراهيمي يختصر المشهد بتغريدة واحدة تقول: أنها المرة الأولى التي نتسمع فيها لأخبار طيبة منذ زمن بعيد.
لم تكن مفاوضات موسكو كما تشير مختلف التصريحات والتسريبات، من النوع السهل..كيري حمل معه إلى واشنطن ورقتي تسليح المعارضة بـ”أدوات فتّاكة” و”الغارة الإسرائيلية على دمشق”، في مسعى للضغط على موسكو لفك ارتباطها بالأسد ونظامه..فيما الأخيرة، التي طالما شعرت بالغدر والتهميش الأمريكيين، حرصت على تلقين زعيم الدبلوماسية الأمريكية درساً قاسياً، عندما جعلته ينتظر ثلاث ساعات في الكرملين، قبل الدخول إلى مكتب “القيصر”..لكأن المكاسرة بين العملاقين، انتقلت من ميادين حلب وريف القصير وجبل قاسيونإلى أروقة المراسم والبروتوكول.
وثمة ما ساعد على جعل حوار موسكو- واشنطن “ حوار أنداد” أيضاً، (برغم فجوة عدم توازن أو تكافؤ القوى بينهما)، وهو أن حلفائهما المحتربين على الأرض، قد بلغا نقطة توازن خطرة للغاية..بوتين مطمئن لنجاحات النظام السوري الأخيرة في الميدان، وبقائه متماسكاً طوال هذه الفترة وثبات حلفائه..وكيري مطمئن للعصا الإسرائيلية الغليظة والمال الخليجي الغزير وتسهيلات دول الجوار الإقليمي غير المشروطة.
على أن للدبلوماسية منطقها الخاص، وفعلها السحري، حين يتعلق الأمر باكتشاف المصالح والمشتركات..إذ بالرغم من اتساع الشقة بين الجانبين، إلا أنهما لم يَعدِما الوسيلة للجلوس سويةً فوق “المساحات المشتركة” التي تجذبهما للعمل سوياً..ولم تمنع الخلافات الوزير كيري من إعادة التذكير بتجربة التعاون بين الاتحاد السوفياتي والحلفاء في الحرب العالمية الثانية، مقترحاً إعادة انتاجها لمواجهة “رزمة من التحديات المشتركة”، متعهداً العمل لتعريف الشعب بتضحيات الروس الجسيمة في الطريق للانتصار على النازية في تلك الحرب..ولا ندري ما إذا كان كيري يقصد بهذه المقاربة والمقارنة الإشارة إلى عظم الأخطار وجسامة التحديات الراهنة أم إلى “مناخات التعاون” بين العملاقين في تلك الحقبة الغابرة، أم الأمرين معاً؟.
ولعل أول وأهم المشتركات، تلك المتعلقة بالحاجة لمواجهة “التطرف في سوريا”..سورية خالية من التطرف، هو الشعار الذي رفعه الجانبان..وحين نقول التطرف، فإن الأنظار تتجه مباشرة صوب جبهة النصرة وشقيقاتها من الحركات الجهادية السلفية..لكن ذلك لا يمنع من إدارج قوى أخرى في سلة التطرف، إن أرادت واشنطن التملص من تعهداتها، ومن ضمنها الأسد ونظامه، فتصبح هذه الكلمة مدخلاً للخلاف والاختلاف في تفسير التوافقات والتفاهمات الروسية-الأمريكية، تماماً مثلما حصل بعد “جنيف 1” في حزيران الفائت.
ثاني هذه المشتركات، العمل سوياً لمنع تطور الحرب الأهلية في سوريا، إلى حرب إقليمية شاملة، تأكل الأخضر واليابس، وتضع الدولتين العظميين في مواجهة بعضهما البعض..مثل هذا السيناريو، لا تريده واشنطن، وتسعى موسكو لتفاديه، لأن أياً من العاصمتين، لا تجد مصلحتها في الانزلاق إلى دروبه الوعرة والمكلفة.
خلاصة القول، أن ثمة فرصة قوية لاستئناف “مبادرة جنيف” والبناء عليها..والمؤتمر الدولي الذي توافق الجانبان على تنظيمه أواخر الشهر الحالي، وبمشاركة وفدي الحكومة والمعارضة السوريتين، هو تطور نوعي مهم من دون شك، وإن حصل والتأم شمل المؤتمرين، فإنها بداية الاختراق على دروب الحل السياسي الصعبة.
يخطئ النظام إن تردد في قبول المشاركة بالمؤتمر..عندها سيتحمل وزر تعطيل الحل السياسي الذي يعمل حلفاؤه من دون كلل أو ملل على إطلاقه وتحريكه..وعندها يكون قد رفع الحرج عن المعارضة، التي ستجد صعوبة كبرى في قبول العرض الروسي – الأمريكي من جهة، وفي الجلوس على مائدة واحدة مع النظام من جهة ثانية، وفي قدرتها على تشكيل وفدها للمؤتمر من دون المجازفة بمزيد من التشققات والاصطراعات والاتهامات المتبادلة في أوساطها، من جهة ثالثة.
هي أول فرصة منذ عام تقريباً، تلوح فيها بوادر حل سياسي للأزمة السورية، وهي وإن كانت “مفخخة” و”ملغمة” كما تشير كافة المعطيات، إلا إنها نافذة الأمل الوحيدة لوقف سفك الدم السوري، ومنع ازلاق سوريا والمنطقة في أتون حروب متناسلة ومتنقلة..وربما هذا ما يدفع حلفاء النظام للتحرك بقوة على مختلف المسارات (جولة صالحي، تحركات لافروف)، وربما هذا ما يدفع بعض أكثر العواصم “عدوانية” في التعامل مع الأزمة السورية، للبحث (ربما) عن طريق خلفي للتراجع والتهدئة، وفي هذا السياق، يمكن قراءة طلب رئيس الحكومة وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم، زيارة طهران، وقبول العاصمة الإيرانية بهذه الزيارة.
والخلاصة أن العدوان الإسرائيلي على دمشق، قد حرك الكثير من المياه الراكدة في المستنقع السوري، وقد يصح إدراجه في خانة “رب ضارة نافعة”..وقد لا نبالغ إذا قلنا أن هذا العدوان، وإن كان قاسٍ جداً من الناحية العسكرية والمعنوية، إلا أنه من الناحية السياسية يتحول لأن يصبح “خدمة جليلة” للنظام في دمشق، من حيث لم يشأ المعتدون وحلفاؤهم أو يرغبون..ألم تكن العدوانات على لبنان والمقاومة الفلسطينية تنتهي في الغالب في مكاسب سياسية للأطراف الأضعف، حتى وهي (إسرائيل) في ذروة النشوة بالنجاح العسكري والميداني..والمؤكد أن مكاسب النظام، كانت لتأتي مضاعفة، لو أنه رد التحية الإسرائيلية بأقل منها، حتى لا نقول بمثلها..عندها كانت دمشق، ستظفر بتغيير “المزاج الشعبي” العربي أيضاً، لكن الأسد فوّت الفرصة مرة أخرى.
(الدستور)
لم تكن مفاوضات موسكو كما تشير مختلف التصريحات والتسريبات، من النوع السهل..كيري حمل معه إلى واشنطن ورقتي تسليح المعارضة بـ”أدوات فتّاكة” و”الغارة الإسرائيلية على دمشق”، في مسعى للضغط على موسكو لفك ارتباطها بالأسد ونظامه..فيما الأخيرة، التي طالما شعرت بالغدر والتهميش الأمريكيين، حرصت على تلقين زعيم الدبلوماسية الأمريكية درساً قاسياً، عندما جعلته ينتظر ثلاث ساعات في الكرملين، قبل الدخول إلى مكتب “القيصر”..لكأن المكاسرة بين العملاقين، انتقلت من ميادين حلب وريف القصير وجبل قاسيونإلى أروقة المراسم والبروتوكول.
وثمة ما ساعد على جعل حوار موسكو- واشنطن “ حوار أنداد” أيضاً، (برغم فجوة عدم توازن أو تكافؤ القوى بينهما)، وهو أن حلفائهما المحتربين على الأرض، قد بلغا نقطة توازن خطرة للغاية..بوتين مطمئن لنجاحات النظام السوري الأخيرة في الميدان، وبقائه متماسكاً طوال هذه الفترة وثبات حلفائه..وكيري مطمئن للعصا الإسرائيلية الغليظة والمال الخليجي الغزير وتسهيلات دول الجوار الإقليمي غير المشروطة.
على أن للدبلوماسية منطقها الخاص، وفعلها السحري، حين يتعلق الأمر باكتشاف المصالح والمشتركات..إذ بالرغم من اتساع الشقة بين الجانبين، إلا أنهما لم يَعدِما الوسيلة للجلوس سويةً فوق “المساحات المشتركة” التي تجذبهما للعمل سوياً..ولم تمنع الخلافات الوزير كيري من إعادة التذكير بتجربة التعاون بين الاتحاد السوفياتي والحلفاء في الحرب العالمية الثانية، مقترحاً إعادة انتاجها لمواجهة “رزمة من التحديات المشتركة”، متعهداً العمل لتعريف الشعب بتضحيات الروس الجسيمة في الطريق للانتصار على النازية في تلك الحرب..ولا ندري ما إذا كان كيري يقصد بهذه المقاربة والمقارنة الإشارة إلى عظم الأخطار وجسامة التحديات الراهنة أم إلى “مناخات التعاون” بين العملاقين في تلك الحقبة الغابرة، أم الأمرين معاً؟.
ولعل أول وأهم المشتركات، تلك المتعلقة بالحاجة لمواجهة “التطرف في سوريا”..سورية خالية من التطرف، هو الشعار الذي رفعه الجانبان..وحين نقول التطرف، فإن الأنظار تتجه مباشرة صوب جبهة النصرة وشقيقاتها من الحركات الجهادية السلفية..لكن ذلك لا يمنع من إدارج قوى أخرى في سلة التطرف، إن أرادت واشنطن التملص من تعهداتها، ومن ضمنها الأسد ونظامه، فتصبح هذه الكلمة مدخلاً للخلاف والاختلاف في تفسير التوافقات والتفاهمات الروسية-الأمريكية، تماماً مثلما حصل بعد “جنيف 1” في حزيران الفائت.
ثاني هذه المشتركات، العمل سوياً لمنع تطور الحرب الأهلية في سوريا، إلى حرب إقليمية شاملة، تأكل الأخضر واليابس، وتضع الدولتين العظميين في مواجهة بعضهما البعض..مثل هذا السيناريو، لا تريده واشنطن، وتسعى موسكو لتفاديه، لأن أياً من العاصمتين، لا تجد مصلحتها في الانزلاق إلى دروبه الوعرة والمكلفة.
خلاصة القول، أن ثمة فرصة قوية لاستئناف “مبادرة جنيف” والبناء عليها..والمؤتمر الدولي الذي توافق الجانبان على تنظيمه أواخر الشهر الحالي، وبمشاركة وفدي الحكومة والمعارضة السوريتين، هو تطور نوعي مهم من دون شك، وإن حصل والتأم شمل المؤتمرين، فإنها بداية الاختراق على دروب الحل السياسي الصعبة.
يخطئ النظام إن تردد في قبول المشاركة بالمؤتمر..عندها سيتحمل وزر تعطيل الحل السياسي الذي يعمل حلفاؤه من دون كلل أو ملل على إطلاقه وتحريكه..وعندها يكون قد رفع الحرج عن المعارضة، التي ستجد صعوبة كبرى في قبول العرض الروسي – الأمريكي من جهة، وفي الجلوس على مائدة واحدة مع النظام من جهة ثانية، وفي قدرتها على تشكيل وفدها للمؤتمر من دون المجازفة بمزيد من التشققات والاصطراعات والاتهامات المتبادلة في أوساطها، من جهة ثالثة.
هي أول فرصة منذ عام تقريباً، تلوح فيها بوادر حل سياسي للأزمة السورية، وهي وإن كانت “مفخخة” و”ملغمة” كما تشير كافة المعطيات، إلا إنها نافذة الأمل الوحيدة لوقف سفك الدم السوري، ومنع ازلاق سوريا والمنطقة في أتون حروب متناسلة ومتنقلة..وربما هذا ما يدفع حلفاء النظام للتحرك بقوة على مختلف المسارات (جولة صالحي، تحركات لافروف)، وربما هذا ما يدفع بعض أكثر العواصم “عدوانية” في التعامل مع الأزمة السورية، للبحث (ربما) عن طريق خلفي للتراجع والتهدئة، وفي هذا السياق، يمكن قراءة طلب رئيس الحكومة وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم، زيارة طهران، وقبول العاصمة الإيرانية بهذه الزيارة.
والخلاصة أن العدوان الإسرائيلي على دمشق، قد حرك الكثير من المياه الراكدة في المستنقع السوري، وقد يصح إدراجه في خانة “رب ضارة نافعة”..وقد لا نبالغ إذا قلنا أن هذا العدوان، وإن كان قاسٍ جداً من الناحية العسكرية والمعنوية، إلا أنه من الناحية السياسية يتحول لأن يصبح “خدمة جليلة” للنظام في دمشق، من حيث لم يشأ المعتدون وحلفاؤهم أو يرغبون..ألم تكن العدوانات على لبنان والمقاومة الفلسطينية تنتهي في الغالب في مكاسب سياسية للأطراف الأضعف، حتى وهي (إسرائيل) في ذروة النشوة بالنجاح العسكري والميداني..والمؤكد أن مكاسب النظام، كانت لتأتي مضاعفة، لو أنه رد التحية الإسرائيلية بأقل منها، حتى لا نقول بمثلها..عندها كانت دمشق، ستظفر بتغيير “المزاج الشعبي” العربي أيضاً، لكن الأسد فوّت الفرصة مرة أخرى.
(الدستور)