بالصور... أنفة بلدة لبنانية تستخرج الذهب الأبيض
يتوجه حافظ جريج كل صباح على دراجته الهوائية إلى ملاحاته الواقعة في بلدة أنفة اللبنانية في ساحل الكورة التي اشتهرت عبر التاريخ بإنتاج الملح الطبيعي.
يجول بين أحواض ماء البحر، يجمع غلته من الملح الصافي من الأجران التي جفت مياهها ويضعها داخل أكياس بلاستيكية بهدف توزيعها وبيعها في الأسواق اللبنانية وتعريف المواطنين عن مهنة أضحت من التراث اللبناني.
وتعتبر بلدة أنفة عاصمة الملح اللبناني ومنجم الذهب الأبيض، وملاحاتها ما زالت صامدة في وجه اجتياح المنتجعات السياحية للشواطئ اللبنانية.
المدرس حافظ جريج أطلق ثورة الملح الثقافية ضد إهمال هذه الصناعة وضد المشاريع العمرانية التي تريد أن تأخذ مكان هذه الملاحات وتردم البحر والشاطئ.
"سبوتنيك" التقت حافظ جريج الذي درس التربية وعلم القانون والاقتصاد والسياسة ولكن لم يمارس المحاماة بل مارس مهنة التدريس 30 سنة وهو الآن متقاعد منصرف إلى الكتابة والتأليف وإنتاج الملح.
وقال جريج: "كل يوم على دراجتي الهوائية أترك منزلي في أنفه وأتوجه إلى ملاحات رأس الناطور أو إلى ملاحتي في أنفة التي أعمل على ترميمها، وراثة من والدتي التي أوصتني متابعة العمل بها، ولدي شغف أكثر منه تجارة، عشت مع الملح منذ عمر السنتين أراقب والدتي كيف تعمل في الملاحة وكيف تنقل ماء البحر في الدلو إلى الأجران، في الأمر شقاء ولكن فيها متعة لأن كل عائلة كانت تعمل في الملح في أنفة، وكان الملح في القديم بمثابة المال يتبادلون به بالمقايضة مع أهالي الجبال الذين كانوا ينزلون محملين بالمنتوجات الجبلية وتجري المقايضة على الشاطئ بالأثقال، ثقل فاكهة بثلاثة أثقال ملح وهكذا، فحم نبيذ فاكهة كل المنتوجات الجبلية، واستمر حتى العام 1970 بعد ذلك بالتطور توقفت هذه العادة".
وتابع: "أستطيع أن أقول بأن كل عائلة في أنفة لديها مثقفين وأساتذة ومحامين ومهندسين الجميع تلقى علومه العالية بفضل عمل أهاليهم بالملح، سكان أنفه قديماً إلى العام 1966 و 1970 تقريباً جميعهم كانوا يعملون الرجال في الزراعة وصيد الأسماك بينما النساء والأولاد يعملون في الملاحات، ومعظم أصحاب الملاحات كانوا من المعلمين في المدارس، لأن الموسم يبدأ من أول حزيران لغاية تشرين ولا يتوقف إلا بسقوط الأمطار بغزارة لأن الملاحات هي معمل طبيعي في الهواء الطلق يتألف من أجران كانت قديماً محفورة في الصخر، أقنية وأجران أما اليوم فقد استعملوا طبقة من الإسمنت لتغطي الصخور ليكون إنتاج الملح أنظم والعمل أسرع ".
ولفت إلى أن قديماً كان تعبئة الملح بسلال من قصب أما اليوم فالتعبئة تكون بأكياس وكان الإنتاج بسيطاً يكفي العائلة وللمقايضة بكميات منها أما اليوم ومنذ 1970 عرف الملح فترة ذهبية وازدهاراً كبيراً فتوسعت الملاحات مساحة وإنتشاراً حتى أصبحت بعيدة عن البحر والمحركات الكهربائية تضخ من البحر إليها مسافة 2 أو 3 كلم في تلال أنفة.
وأشار جريج إلى أنه قبل العام 1075 كان يحتاج لبنان إلى 50 ألف طن من الملح البحري الطبيعي منه ما يذهب إلى التكرير إذا كان من الدرجة الثانية ومنه ما يذهب مباشرة إلى الاستهلاك.
وأضاف:"الملاحة معمل طبيعي في الأجران تبخره أشعة الشمس ونحصل على الملح، صديق البيئة الملاحة جزء من الشاطئ وليست تعدي على الشاطئ والملاحات عبر كل التاريخ هي موجودة وتم تكريسها بالقانون بقرار وزارة المالية التي وضعت جداول بأسماء الملاحين ومساحات ملاحاتهم".
وعن كيفية إيصال إيصال مياه البحر الى الملاحات يقول جريج:" قديماً كانت بواسطة أقنية محفورة في الصخر من البحر إلى الملاحات ثم بأقنية من خشب متحرك من مكان إلى آخر تملئ النساء الأوعية من البحر وتصبه في طرف الاقنية الخشبية فتجري إلى البرك والأجران لتعبئتها، ثم أتى إلى دير الناطور عالم روسي سكن في إحدى غرف الدير اسمه ألكسي دويتوفسكي، كان يراسل الكثير من الصحف، وصرف حياته في غرفة كأنه ناسك، منصرف إلى الكتابة والتأليف وقد كتب تاريخ أنفه والمنطقة على ثلاثة دفاتر، ولكن للأسف خلال الحرب ضاع كل محتويات الدير ومنها هذا المؤلف، وكونه عالم في العام 1920 وضع دولاب هواء يحركه الهواء على سطح غرفته لإنارة الغرفة على الطاقة الهوائية وكان من غرفته المشرفة على البحر والملاحات يراقب الناس كيف يعملون في الملح وكيف يتعذبون بنقل ماء البحر في الدلو إلى الأجران وكم يأخذ ذلك تعب ومشقة ووقت، فنصحهم باستعمال دولاب الهواء ولكن بتركيب مضخة في أسفل الهواء كلما برم الدولاب يشفط ماء البحر ويملئ البرك فصنعوا الدواليب بداية من خشب ولكن في كل عاصفة كانت تتحطم فنصحهم باستعمال المعدن للمراوح وهكذا كان وما زالت هذه الدواليب تدور من المعدن بنصيحة وفكرة العالم الروسي".
وتابع"ميزة ملاحات أنفة عن الملح المستورد أنه ملح طبيعي لا تجرفه الجرافات بل نجرفه بأيادينا بأدوات بسيطة جداً رفش خاص لذلك وبكل نظافة وعناية وشغف، الفرق شاسع بين الجرافة واليد في العمل، ملح البحر يتألف من ملح الطعام وملح مر وملح ثقيل، والملح المر والثقيل غير صالح أو لا يجوز إدخاله بأي نوع من أنواع الصناعات الغذائية لذلك نحن بأيادينا وخبرتنا نتخلص منهما ولا نقدم إلى المستهلك إلا ملح الطعام الصافي".
ولفت جريج أنه إذا كان الهواء غربياً من جهة البحر مشبعاً بالرطوبة يولد الملح خشناً من كعب الجرن وإذا كان الهواء شرقياً من جهة الجبل جاف يولد الملح عائما على وجه الماء بشكل أزهار متصلة ببعضها هذه هي زهرة الملح أفضل أنواع الملح على الإطلاق، مشيراً إلى أن كل 33 ليتر من ماء البحر يعطي كيلو من الملح الخشن وهذا غير اقتصادي لذلك الملاحة فيها الاجران التي تنتج الملح ويحصل فيها التبخر الثاني والبرك ذات العمق متر على الأقل التي يحصل فيها التبخر الأول، يعني ماء البحر تصب في البرك الغميقة ويحصل تبخر أول وتصبح الماء في البرك أكثر كثافة في الملح ومنها نملئ الأجران ونحصل على كمية ملح أكثر في فترة زمنية أقل".
ووجه جريج نداء إلى وزارة الأشغال اللبنانية وإلى وزارة الثقافة كتراث وطني وإلى وزارة المالية كاستيفاء الرسوم تنظيم هذه الملاحات من جديد وتشجيع انتشارها وأعمالها وتشغيل الملاحات المهجورة لحماية الإنتاج الوطني وحماية ملح لبنان من الملح المستورد الذي ينافس الملح الوطني.