2024-07-29 - الإثنين
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

«الزمن الباقي».. بين النكبة وحلم العودة

«الزمن الباقي».. بين النكبة وحلم العودة
جو 24 :

في الوقت الذي تعلق فيها الزينة في شوارع ما يسمى بـ«إسرائيل»، احتفالاً بتاريخ تأسيسها، والذي يحضره فنانون من دول كانت سنداً لذلك الكيان، تبكي من جانب آخر مخيمات مازالت قابعة في محلها في بلاد الشتات واللجوء، منذ ‬65 عاما، رافضة تغيير نمط حياتها الى حين العودة، وكيف لا؛ ومفاتيح المنازل مازالت معلقة على الحوائط كصور اثرية وثرية تأبى التزحزح من مكانها، خصوصاً أن توريث «المفتاح» واجب على كل بيت فلسطيني لمن ظل من أفراد العائلة على قيد الحياة.

أفلام كثيرة تحدثت عن النكبة الفلسطينية التي صادف تاريخها امس، كانت أغلبيتها وثائقية تنقل على لسان أحياء، عاشوا ظروف النكبة بتفاصيلها وما بعدها، ومن ضمن أفلام روائية عدة كان لفيلم «الزمن الباقي.. سيرة الغائب الحاضر» للمخرج الفلسطيني ايليا سليمان حضوره في هذا الوقت الذي يحيي فيه الفلسطينيون نكبتهم، وضياع أرضهم وحلمهم الى حين.

سيرته سيرتنا

هي سيرة ايليا سليمان فعلاً تتجسد في شريط سينمائي، يحكي فيه العنوان الفرعي للفيلم «سيرة الغائب الحاضر»، إذ يعود الى مدينته الناصرة التي تزينها أعلام «اسرائيلية»، ايليا طوال مدة الفيلم يمثل دوره بصمت، فلا داعي للكلمات في ظل تاريخ كامل من الانتهاكات الصهيونية، وكأنه يريد المراقبة فقط، في محاولة جاهدة لربط التفاصيل بعضها ببعض، بين ماضٍ أليم، وحاضر لا يقل ألماً.

ففي المشهد الذي يظهر فيه داخل سيارة أجرة، يتوه السائق عن المكان المرجو، ويقف ويسأل نفسه «اين أنا؟»، هذا السائق الموجود في بيت ليس بيته، ويمشي في شارع ليس شارعه، بالضرورة لن يعرف أين هو؟ حتى لو كان متمرساً في مهنته، فالمكان ليس جغرافيا تدرس في المدارس، المكان رائحة وذكريات وتفاصيل لم يعشها، لذلك من السهل عليه أن يتوه، ومن السهل ايضا أن يعرف ايليا أين هو؟ حتى لو كان غائباً لمدة طويلة.

هذا المشهد الافتتاحي هو تمهيد لمشاهد قادمة مغلفة بالسخرية الممزوجة بوجع لا يمكن التعبير عنها الا استهزاء، كصوت بائع الصحف الذي يصرخ «جريدة الوطن بشيكل وجريدة كل العرب ببلاش» أحدهم يطلب شراء «الوطن». البائع يقول له: «ما بقى فيه وطن.. ولكن كل العرب ببلاش»، هذا المشهد منوط بثلاثة شباب سيتكرر ظهورهم في الفيلم وهم يجلسون في المقهى.

شرف المحاولة

الفيلم يدور في فصول عدة مرت بها فلسطين قبيل النكبة وإبانها، الى الحاضر الذي لم يتغير كثيراً عن فيلم قدم الصورة قبل اربع سنوات، فالحكايات تشبه بعضها، والتفاصيل حاضرة في ذهن مشاهدين لا يشبعون من هذه القصص، فالفيلم يبدأ فعلياً من عام ‬1948 من خلال «فؤاد»، وهو والد المخرج مثل دوره «صلاح بكري»، وهو شخصية وطنية ومقاومة، يجلس في المقهى الذي يمر عليه رجل معه سلاح آتياً من العراق، تائهاً، يسأله فؤاد وصديقان يجلسان في المقهى عن طريقه فيجيب انه ذاهب إلى طبرية للقتال، وعندما يجيبونه بأنها سقطت فيطلب طريق حيفا فيكون الجواب «سقطت»، ويظل يذكر مناطق الشمال التي يكون الرد دائماً على انها «سقطت»، هو يريد المشاركة في تحرير البلاد بدافع قومي عربي، يريد أي مدينة لم تسقط بعد لكي يشعر بالفخر أنه شارك في تحريرها، وهذا المشهد تحديداً عبارة عن اسقاط واضح للجيوش العربية التي جاءت تحرر البلاد، من دون تخطيط مسبق.

ويظل سليمان في المشاهد الأولى من الفيلم يعود بالذاكرة الى هذه التفاصيل، كسرد حتمي لما وصلت اليه الحال.. حال ضياع البلاد.

نبش الذاكرة

الذاكرة في الفيلم عبارة عن مشاهد، ليس بالضرورة أن تكون متسلسلة، أو لها علاقة بعضها ببعض، هي مجرد حكايات مكتوبة على ورق بخط يد الاب لـ«إيليا» الذي كان يراسل أقرباءه في الشتات، فتظهر في الفيلم لقطات ضرب جنود اسرائيليين لفؤاد سليمان، المشهد مأخوذ من بعيد، لكن وقع الألم فيه قريب، وفي مشهد آخر نرى ايضا عجوزاً فلسطينيا قرر الانتحار حرقاً، وكلما أقدم على هذه الفعلة يجلس ويستكين ويقرر ابتكار طريقة أخرى، وهي اشارة الى اليأس المتمثل في امل متبقٍ ربما يحول بينه وبين إزهاق روحه بيديه، وهذا المشهد من المشاهد المكررة في الفيلم، كما مشهد الشباب في المقهى، الذين يبدوا أنهم لم يبارحوا المكان منذ النكبة، كما مشهد ايليا وهو صغير يقف أمام مدرسه «الإسرائيلي» المعتز بقدرته الديمقراطية على استيعاب الأقليات، ومن دون سابق انذار، نرى هذا الاستاذ يوقف ايليا ويوبخه: «من قال لك إن أميركا دولة إمبريالية؟»، لينتهي المشهد بصمت، لكن تكراره ما هو إلا دلالة على تسليط الضوء على تمرد هذا الطفل الصغير.

 

السخرية حاضرة

السخرية كأسلوب في ايصال رسائل كانت حاضرة بكثرة في الفيلم، وتمثلت عملياً في شخصيات عدة: «الجار الذي لا تبارح زجاجة الكحول يديه، وبائع الجرائد، والشباب الثلاثة في المقهى» كل لديه اسلوبه في السخرية.

فالجار الذي يرتدي دائماً بنطال النوم مع «فانيلة» يظهر فجأة من دون مقدمات دائما أمام منزل ايليا يصبّح عليه أو يمسيّه بالخير، حسب ظهوره، هو ومن شدة انسلاخه الذهني عن الواقع، الا أنه وفي كل اطلالة لديه يقدم بياناً ورؤية سياسية وحلاً للمشكلة على طريقته، ففي إحدى المرات، يقول إن «مشكلة العرب انهم لا يشربون الكحول فلو كانوا يشربون لأقدموا بكل شجاعة على مواجهة الإسرائيليين»، وهنا دلالة على ايجاد أي سبب بالنسبة لهذا الجار كي يعذر العرب على ضياع البلاد.

ومع أن هذا الجار هو ملح الفيلم الذي يضفي على الجو نكهة كوميدية، الا انه يشبه المهرج الذي يلطخ وجهه بالألوان، ويرسم ابتسامة تغطي ألماً لا يعرف من يضحك عليه.

مشاهد مؤلمة

تستمر المشاهد التي تعود بإيليا سليمان الى الماضي، هو كل تفكيره الوصول الى مدينته الناصرة بعد كل هذا الغياب، فنرى مشاهد كانت السبب المباشر في ترك السكان لمنازلهم: بداية من طائرة «اسرائيلية» تلقي منشورات على السكان تطالبهم بالاستسلام، مروراً بطائرة أخرى تطارد سيارة رئيس بلدية الناصرة الذي يرتدي طربوشاً، وشاب يجلس الى جانبه يلوح بعلم ابيض دلالة على استسلامه، يصلان سويا الى مبنى البلدية، قاعة مزدحمة يجلس بداخلها عناصر من الجيش «الاسرائيلي»، وعرب من دون اسلحة، ليأتي الرجل ذو الطربوش ليوقع على وثيقة الاستسلام، ولا يكتفون بذلك، بل يطلبون من الجميع الوقوف لالتقاط صورة تذكارية لهذه اللحظة الحاسمة في تاريخ بناء دولتهم المزعومة.

مشهد لا يبدد القهر فيه سوى فؤاد الذي يرفض الاستسلام، ويتحمل التعذيب ومحاولة قتله من قبل الإسرائيليين بشتى الطرق، ليأتي مشهد آخر مؤلم لمجموعة من المقاومين الفلسطينيين، يهربون من أمام الأسلحة الإسرائيلية الثقيلة، يخلعون ملابس المقاومة ويلقون بها ارضاً، ليستولي عليها الاسرائيليون، فيتنكرون بها فتراهم امرأة فلسطينية فتطلق الزغاريد شعوراً منها بأن المقاومة الفلسطينية والعربية انتصرت، لكن رصاص الغدر يحجب صوت زغرودة قهرت عندما اكتشفت الحقيقة فماتت بصمت، مشهد يلخص حال كاملة التي حدثت فعلاً في النكبة، لكن أغنية ليلى مراد «انا قلبي دليلي»، التي يعاود استخدامها سليمان أكثر من مرة كانت اشارة واضحة على انتهاء المقاومة، عندما دخل الإسرائيليون بيته وصادروا كل محتوياته، بما في ذلك مشغل الاسطوانات وساعة حائط.

بعد النكبة

من الصعب الحديث عن كل المشاهد الموجودة في الفيلم، لكن مرحلة ما بعد النكبة المنوطة بفلسطينيي الـ‬48، يمكن تلخيصها بمشهد واحد، يسلط فيه سليمان الضوء على ازدواجية التفكير، ومحاولة بائسة في الانسلاخ بواقع جديد لا يتماشى مع طبيعة العرب في كثير من الأحيان، لأنه ببساطة سيحولهم الى مسوخ، فالمرحلة الأولى انتهت في الفيلم، مع اعلان مباشر عن قيام دولة «اسرائيل» يقطع هذا الإعلان او اللبس المربوط بالعاطفة رسالة من ثريا والدة ايليا سليمان التي تبعثها الى عمته في الأردن، ايليا يدخل المدرسة، وتنال فرقة طلابية من الصغار جائزة لأفضل أغنية بمناسبة تأسيس الدولة ، يغنونها بالعبرية، ثم يغنونها بالعربية بعنوان «عيد بلادي»، لإظهار محاولات بائسة من قبل الكيان على استيعابه للعرب الذين يعيشون معهم.. اللبس هنا ليس في الحديث عن اسم الدولة، اللبس أن طول الوقت يعتقد المشاهد أن الأغنية لفلسطين لتتضح في النهاية انها لـ«إسرائيل».

وهناك مشهد متناقض ايضا، يخص الطلبة العرب وحدهم هذه المرة، يتمثل في عرض عن فيلم سبارتاكوس محرر العبيد، لتدريس الطلبة الأمل في الثورة المبنية على اسس صحيحة وحق لا يجوز التنازل عنه، لكن التناقض يظهر عندما يصل الفيلم إلى المشهد الذي يتبادل فيه سبارتاكوس القبلات مع حبيبته، هنا يجن جنون المعلمة التي تحجب هذه القبلة عن طلبتها وتقول «أخوها.. هذا أخوها».

الحاضر

التعبير عن الماضي والحاضر بالنسبة لمخرج فيلم «يد الهية» لم يكن في المشاهد فقط والذكريات، بل بالموسيقى أيضا، فهو ينقل المشاهد الى الماضي من خلال أغاني ليلى مراد، ونجاة الصغيرة، وفيروز، ومحمد عبدالوهاب، ويضعهم في الحاضر من خلال نجوى كرم واغاني الديسكو. الحاضر تمثل أيضا بدبابة اسرائيلية يخرج من نافذتها ضابط اسرائيلي ينذر الشباب بحلول وقت حظر التجول، فيما يستمر الشباب في رقصهم على أنغام وكأن مدرعة وهمية قريبة من المنزل المقام فيه حفلة تهدد هذا الفرح.

مشهد هذا الحفل واللامبالاة سبقته مشاهد تدل على عدم الاكتراث الذي وصل اليه الفلسطيني غير المهتم بوجود الرصاص بأنواعه، وصوره إيليا سليمان من خلال شاب فلسطيني يخرج ليلقي القمامة، فتتحرك دبابة نحوه، وهو يتحدث عبر هاتفه المتحرك يخطط وصديقه اقامة حفل في داره. وصوت بائع الصحف يتردد مرة أخرى «جريدة الوطن بشيكل وكل العرب ببلاش».

لقطة من الفيلم

اراد "سليمان " أن يحكي المقاومة بعد كل هذا الخذلان بطريقته، فلم يجد أمامه سوى " الجدار العازل" فيقرر بلقطة خيالية تحمل معها الحلم القفز من فوقه الى الناحية الأخرى ، من خلال عصا تستخدم في الالعاب الاولمبية في مسابقات القفز العالي ، وتنجح القفزة ، وما هي الا رسالة بأن الحال والتعايش معه ضرورة ،لكن هذا لا يعني أن المقاومة يجب ان تتوقف فهناك الملايين يريدون القفز عن الحدود لتحقيق حلم العودة.

النهاية

لايزال سليمان صامتا، يقرر أن ينهي فيلمه الذي كتب قصته وهو يجلس على أريكة خشبية، ينظر الى اللاشيء، بأعصاب باردة، لا ردود فعل على أي حدث يجري أمامه أو حوله، ويظل بهذا الإحساس بعدم الاكتراث، بينما يجلس الشباب الثلاثة في المقهى يمر من أمامهم شاب فلسطيني يرفع يده بعلامة النصر.


(علا الشيخ- الامارات اليوم)

تابعو الأردن 24 على google news