لماذا يتراجع عدد السكان بوتيرة "مخيفة" في هذا البلد الأوروبي؟
أسابيع قليلة غالبا ما تفصل بين حصول كثير من طلاب جامعة صوفيا - كبرى جامعات بلغاريا - على شهادة التخرج، ومغادرتهم البلاد بحثا عن فرص أفضل للعمل أو لكسب المال أو للحياة، على بُعد مئات أو آلاف الكيلومترات من وطنهم.
ويغادر البلغاريون - وهم مواطنو أفقر الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي - بلادهم بأعداد كبيرة، ما يسهم في حدوث أسرع حركة تراجع لعدد السكان في العالم.
وبعدما كان تعداد سكان بلغاريا يصل إلى نحو تسعة ملايين نسمة في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، تراجع العدد في عام 2018 إلى أقل من سبعة ملايين، وسط توقعات بأن يقل عن الستة ملايين خلال 50 عاما.
وتشير تقديرات شعبة السكان التابعة للأمم المتحدة إلى أن ذلك العدد قد يقل بنسبة 23 في المئة بحلول عام 2050. وبفعل هذا المعدل المرتفع بشدة للانخفاض في عدد السكان، تتبارى بلغاريا مع ليتوانيا على نيل لقب الدولة الأسرع في هذا المضمار عالميا.
ورغم أن انخفاض معدلات الإنجاب، يشكل العامل الأكثر تأثيرا على هذا الصعيد، فإن ما يجعل بلغاريا مختلفة عن غيرها من البلدان الأوروبية - التي تشهد تراجعا مماثلا - هو العدد الهائل لمن يُقْدِمون على الهجرة من أبنائها.
ويقول تسفيتان دافيدكوف، أستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة صوفيا، إن "التنبؤ بالمسار الذي سيأخذه تعداد السكان في البلاد في المستقبل لا يتسم بالتفاؤل، وهذه مشكلة كبيرة بالنسبة لنا". فظاهرة هجرة العقول تؤثر - كما يؤكد - على كل القطاعات الاقتصادية، في ضوء أن غالبية البلغاريين - بدءا من الأطباء وصولا إلى عمال البناء - يعتقدون أن الفرص الأفضل تنتظرهم خارج الوطن.
- مصدر الصورةALAMY
عناصر التغيير
ويبذل بعض البلغاريين جهودا مكثفة لتغيير مسار هذا التراجع المستمر في عدد السكان، وذلك عبر تدشين برامج ومبادرات تستهدف إبقاء المواطنين داخل البلاد. من بين هؤلاء؛ أنتوني خريستوف، البالغ من العمر 58 عاما، الذي سبق له العمل مخرجا فنيا لحساب استوديوهات بيكسار للرسوم المتحركة في الولايات المتحدة، وشارك في أعمال مثل "البحث عن نيمو" و"وول-ي"، قبل العودة إلى بلغاريا بهدف مساعدة مواطنيه.
ويؤمن هذا الرجل بأن توفير فرص تلقي تعليم جيد والحصول على وظائف مجزية ودخل أعلى، يمكن أن يكون كفيلا بتغيير اتجاهات الهجرة.
وفي العام الماضي، عاد خريستوف إلى صوفيا لتأسيس أكاديمية للتعليم ما بعد الثانوي، تتخصص في تعليم الفنون وتأهيل الطلاب للعمل في مهن تتصل بالابتكار الرقمي، مثل تصميم أفلام الرسوم المتحركة وغيرها.
ويعتبر الرجل أن هذه الأكاديمية تمثل إسهامه في جهود تمكين الشبان البلغاريين الموهوبين، من أن ينعموا بتعليم يماثل في مستواه نظيره في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، إن لم يكن أفضل منه.
ويقول: "نفقد كثيرا من شبابنا عبر الهجرة، وهو ما يعني حدوث نقص خطير في المواهب. يمكن أن يكون لدينا الكثير من الشباب، لكنهم يحصلون على فرص في الخارج، حيث يتوافر مستوى أرقى من التعليم وفرص توظيف أفضل كذلك".
ومن المقرر أن تبدأ الأكاديمية - التي أسسها خريستوف - عامها الدراسي الأول في أكتوبر/تشرين الأول الجاري. ويقول الرجل إن عددا من الطلاب الـ 80 الملتحقين بها، كتبوا في طلبات الالتحاق أنهم كانوا في سبيلهم بدورهم للسفر إلى الخارج للدراسة ومن ثم العمل.
وأشاروا إلى أن الحماسة غمرتهم، عندما رأوا أن هناك مؤسسة تعليمية قد فتحت أبوابها في صوفيا، من شأنها تمكينهم من تلقي العلم والبقاء داخل وطنهم في الوقت ذاته.
ورغم أن إقامة مدارس كتلك التي أنشأها خريستوف، تشجع الشبان البلغاريين على البقاء لاستكمال تعليمهم في الداخل، فإن ذلك لن يمنع من تواصل تراجع عدد السكان كذلك، في ضوء أن هذه الشريحة من المجتمع، قد تهاجر إلى الخارج بعد التخرج، للعثور على وظائف مجزية بشكل أكبر.
فالحد الأدنى للأجور في هذه الدولة، التي كانت تخضع في الماضي لهيمنة الاتحاد السوفيتي السابق، هو الأقل على الإطلاق بالنسبة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، إذ يبلغ نحو 320 دولارا. ورغم أن الناتج المحلي الإجمالي زاد بنسبة 3.1 في المئة العام الماضي ويُتوقع أن تبلغ نسبة الزيادة فيه 3.3 في المئة خلال هذا العام، فإن معدل البطالة وصل إلى 5.3 في المئة في يوليو/تموز من العام الجاري.
وفي أغلب الأحيان تشمل حركة الهجرة - كما يقول دافيدكوف - حتى المهنيين ذوي الكفاءات العالية، ممن يرون أن بوسعهم كسب قدر أكبر من الأموال في الخارج إذا مارسوا أعمالا تتطلب مهارات أقل ومستوى أدنى من التعليم. ويمضي الرجل قائلا: "بالنسبة للغالبية من هؤلاء؛ من الأفضل للمرء أن يحصل على وظيفة سيئة في الخارج لا أن يمتهن أخرى جيدة هنا" في بلغاريا.
ومن بين العوامل الأخرى التي أدت لتراجع عدد سكان بلغاريا؛ قدرة مواطنيها على العمل والإقامة والتنقل بحرية بين دول الاتحاد الأوروبي الأخرى. ففي ألمانيا، صاحبة الاقتصاد الأكبر في الاتحاد، قفز عدد القادمين الجدد من البلغاريين من ثمانية آلاف في عام 2006 - وهو العام السابق لانضمام بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي - إلى 20 ألفا في العام التالي لذلك مباشرة.
ويرى خريستوف أن الاقتصاد البلغاري يواجه حاليا معضلة تشبه المشكلة التقليدية المعروفة باسم "البيضة أولا أم الدجاجة؟". لكن السؤال هنا يتمحور حول ما إذا كان من الضروري إيجاد فرص عمل أولا من أجل جذب المواهب وتطويرها، أم أنه يتعين تكوين قوى عاملة وموهوبة وتتسم بالكفاءة حتى تُقْدِم الشركات المحلية والأجنبية على توفير هذه الفرص؟
سمعة غير مستحقة؟
برأي خريستو بويادزييف، البالغ من العمر 33 عاما وهو أحد البلغاريين الذين عادوا لوطنهم، لا تستحق بلاده السمعة السيئة التي تَصِمُها في ذهن شعبها. وقد شارك بويادزييف في إنشاء مؤسسة غير هادفة للربح، تتولى تنظيم معارض التوظيف للعائدين، وتقديم منح دراسية كذلك، كما تعمل على نشر أخبار إيجابية بشأن تطورات جهود التنمية في بلغاريا.
ويقول: "لن يكون العنوان الرئيسي الذي سيتسنى لك أن تطالعه، إذا كنت تعيش في بريطانيا أو أي دولة أخرى، هو ذاك الذي يتحدث عن توفير شركة كبرى ألف وظيفة جديدة في مدينة فارنا البلغارية مثلا، وإنما سيكون - ربما - عن تفشٍ جديد لأنفلونزا الخنازير".
ويضيف أن الكثير من المغتربين البلغاريين - المُقدر عددهم بقرابة 1.1 مليون شخص - لا يريدون العودة إلى بلادهم، بسبب الغموض الذي يكتنف الشكل الذي ستتخذه حياتهم في هذه الحالة، وما إذا كان سيصبح بوسعهم العثور على وظائف لائقة أم لا.
ويقول بويادزييف: "لا نعمل في مجال إعادة الناس إلى بلغاريا، لكننا نريد إعطاءهم المعلومات التي يحتاجون إليها لاتخاذ هذا القرار بأنفسهم".
ورغم أنه ليس بوسع المؤسسة، التي شارك ذلك الرجل في تأسيسها، التعرف على عدد البلغاريين الذين دفعتهم بالفعل للعودة إلى وطنهم، فإن بويادزييف يقول إنه تشجع بفعل تواصل 200 ألف بلغاري مع مؤسسته عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك بسبب العدد الكبير من رسائل البريد الإليكتروني، التي تلقاها من أُناس قالوا إنهم يفكرون في العودة إلى وطنهم.
تسليط الضوء على "العائدين"
ومن بين من يعكفون على تسليط الضوء على البلغاريين العائدين إلى بلادهم؛ بيتيا كيرتيكوفا، البالغة من العمر 30 عاما والتي تعمل كمقدمة برنامج يحمل اسم "العائدون" تبثه إحدى المحطات التابعة لمجموعة "بلغاريا أون إير" الإعلامية. ويبرز البرنامج - وهو من بنات أفكار كيرتيكوفا أيضا - قصص نجاح البلغاريين من كل الأعمار، ممن قرروا العودة إلى الوطن، بعدما عاشوا في الخارج لفترة.
وحتى الآن، تناولت هذه السيدة قصص أكثر من 70 من هذه الشخصيات، ومن بينهم أطباء ومهندسون ورجال أعمال ومديرون وفنانون وخبراء في تكنولوجيا المعلومات. وتأمل كيرتيكوفا في أن تشكل قصص النجاح هذه، مصدر إلهام للآخرين. وتقول: "هذه المجموعة من الأشخاص العائدين شديدة الأهمية لبلادنا. فخبرتهم ووجهات نظرهم تكتسي بأهمية كبيرة بالنسبة للاقتصاد، وستدفع وطننا إلى الأمام".
ومع أن كيرتيكوفا تقول إن الكثيرين عادوا إلى بلغاريا بفعل شعورهم بالحنين إلى الوطن؛ فإن كثيراً من هؤلاء يريدون أيضا الإسهام في تنمية بلادهم. وتشير هذه السيدة إلى أنها تستطيع من خلال إجرائها المقابلات معهم، إبراز أن خيار العودة ممكن، كما يتسنى لها أيضا تبديد الغموض، الذي يحيط بما ينتظر البلغاريون الذين يقررون العودة.
المفارقة، أن كيرتيكوفا تشعر من هذا المنطلق أيضا، أنها تجري - غالبا - مقابلة معها هي نفسها. فقد عادت بدورها قبل عامين إلى بلغاريا بعدما عَمِلَتْ مذيعة تليفزيونية في محطة صغيرة ناطقة باللغة البلغارية في مدينة شيكاغو الأمريكية. وجاءت عودتها إلى الوطن، بعدما لمست خلال زيارة قامت بها في فترة أعياد الميلاد، ما طرأ من تحسن على طبيعة الحياة ونوعيتها في بلدها، ما أذكى في داخلها الرغبة في العودة.
وبمجرد أن غادرت الشابة البلغارية شيكاغو عائدة إلى صوفيا، رأت آخرين يسيرون على الدرب نفسه، وهنا نبتت في ذهنها فكرة إطلاق برنامج "العائدون"، نظرا لرغبتها في تمكين هذه الفئة من المهاجرين العائدين من الحديث والتعبير عن أنفسهم.
وتقول بيتيا كيرتيكوفا إن غالبية المغتربين البلغاريين، لا يرون سوى التغيرات الإيجابية التي تحدث في وطنهم، عندما يعودون إليه ويتلمسون الوضع فيه بأنفسهم. كان هذا ما حدث مع بلغاري عائد ظهر معها في برنامجها، وروى أن قراره بطي صفحة الهجرة، جاء عندما عاد يوما ما إلى الوطن لحضور حفل زفاف ليس إلا. لكنه دُهِشَ للغاية حينها من "بلغاريا الجديدة" التي رآها، ما دفعه لإلغاء رحلة عودته إلى الولايات المتحدة والاستقرار في داخل بلاده مرة أخرى.
وتخلص هذه السيدة للقول عن هؤلاء المهاجرين العائدين: "لقد كان لديهم حلم بالحياة في الخارج وقد عاشوه بالفعل. الآن أريد منهم أن يعيشوا الحلم البلغاري".
بي بي سي