jo24_banner
jo24_banner

قضية المعلمين.. ليس كل من عمل بالسياسة رَجُلُ دولة

أحمد عبدالباسط الرجوب
جو 24 :
تزاحمت لديّ الأفكار والمرئيات على وقع ما تمر به بلادنا الأردنية من ارهاصات اجتماعية اقتصادية سياسية ... والكثير من القضايا بصغرها وكبرها وما قد تخلفه لا سمح الله من حرائق قد يصعب السيطرة عليها ان استفحل امرها وعندها لا نستطيع ضرب اخماس بأسداس ولا ضرب يد بأختها (وهنا لا ينتابني التشاؤم ابداً) ولكن ينتابني القلق عن تأخر من بيده القرار للإجهاز على الفيضان قبل حدوثة وبقاء الاستقرار في ربوع بلادنا العلامة المضيئة فيما حولنا بعد أن أثبتت التجارب أن نقيض الاستقرار وتغليب صوت العقل، هو الفوضى وخسارة كل منجز، وفوق ذلك فإن إطفاء النيران أصعب بكثير من إشعالها...

حين نتابع ما يحدث في بلادنا هذه الأيام، نشعر أولاً بالطمأنينة، لأننا نثبت دوماً قدرتنا على تجاوز التحديات، وان اوضاعنا الاقتصادية، لن تأخذنا إلى ساحات الفوضى، ولن نقبل بذلك إدراكاً منا للكلفة الباهظة الناتجة عن دخول نفق غياب الاستقرار المظلم، ونحن نرى بأنفسنا ما يجري في دول الجوار وفي أكثر من مكان من حولنا...

دعونا نأخذ الأمور بواقعها وبعيدا عن ارهاصات العاطفة او الخوف من مواجهة السلطة، نقولها وبدون مواربة، لو كانت هناك قلة من رجال الدولة الممتلئين بحكمة الراي والصواب والمقدرة على إدارة الازمات لما كنا قد تعرضنا للأزمات الحادة التي نمر بها وكان التعامل مع ازمة المعلمين في مهدها ولما وصلنا الى هذا المنعطف الداكن في خطورته. صحيح أن هذه الأزمات نتجت عن أسباب متنوعة بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي، إلا أن العامل البشري، أو دور رجال الدولة، يبقى باستمرار حاضراً فيها. وبرغم كثرة تداوله، إلا أن مصطلح «رجل الدولة» يبقى ملتبساً فقضية المعلمين أظهرت بأنه ليس كل من عمل بالسياسة رجل دولة فرجل الدولة ليس موقعاً ... وإنما موقف تماماً وهو الذي يفكر للأجيال القادمة...

وللتوضيح من شواهد التاريخ فقد قرأت الكثير الكثير عن رجال الدولة الاقوياء المتمرسين في إدارة ما آلت اليهم دفة السلطة وشؤون العامة، وهنا نستذكر من تاريخنا العربي الإسلامي امير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مثبت اركان الدولة الإسلامية وانتشارها وتمدد رقعتها الى ان اصبحنا اليوم مليار ونصف المليار مسلم في هذا الكون الواسع ، كما ان هناك العديد والعديد من رجال الدولة الذين قادوا بلادهم الى مصافي الدول المقتدرة ولها الحضور على المستوى الدولي ...

رجل الدولة هو من يملك معرفة تؤهله للحكم ولإدارة القوة السياسية بشكل يحقق العدل ويضع مصلحة المواطنين في عين الاعتبار. هو من يعرف أنه يعمل لغيره لا لنفسه ويعي الحقوق التي يجب أن يؤديها لغيره والواجبات التي عليه أن يتحملها. هو أيضاً من يعرف المظالم التي يكابدها الناس والانقسامات التي تفرقهم حتى يصححها فيقيم العدل ويحقق الإنصاف...

المتابع لتاريخ بلادنا المعاصر وفي خضم الماراثونات المتسارعة على تولي المناصب الحكومية منها ما كان العجب العجاب ... يمكن ان ترمي بك الصدفة الى مجلس النواب او ترؤس وزارة او حكومة، ولكن عليك ان لا تتوهم للحظة أنك اصبحت رجل سياسة او دولة، بل هي فرصة يمكن استثمارها ايجابيا من اجل التعلم واكتساب مزيد من الخبرات والمهارات... وفي هذا الإطار فاني ادعو جميع المراهقين السياسيين في بلادنا، الى التواضع وخصوصا الى عدم المبادرة بطرح الأفكار والحلول التي تتعلق بأخذ القرارات الهامة او المصيرية بل على الاقل الاصطفاف وراء من هم اكثر منكم تجربة و حنكة سياسية و لم لا الاستقالة في بعض الحالات، حتى تجنبوا انفسكم و البلاد قاطبة من الوقوع في اخطاء و مطبات خطيرة و كارثية...

وهنا نستطيع القول بأنه سواء كان في الحكم أو في المعارضة فلا يعتبر رجل دولة إلا من امتلك جملة مواصفات بعضها شكلي وبعضها موضوعي. من بينها الفصاحة والقدرة على التعبير وعرض الرأي بالحجة وليس بالغلظة والتعنيف (وخير دليل هو عدم استيعاب مطالب المعلمين يوم الخميس 5 أيلول 2019) ووصلنا الى ما نحن فيه الان، وهنا نخلص الى جملة من المواصفات الواجب أن يحملها ويتحلى بها رجل الدولة، فعلى سبيل المثال منها وليس الحصر نذكر ما يلي:

1. ينزل على حكم القانون ويجعل الأمة مصدراً للسلطات وللشرعية ولا يؤثم المعارضين ويُقدر مختلف وجهات النظر وإنما يقدر إسهاماتهم...

2. يملك مهارات التوازن ويحفظ الأمن والاستقرار دون أن يضحي بالحرية وإدارة العلاقات السياسية بشكل آمن...

3. يملك من الحنكة ما يؤهله لإدارة دفة الأمور في الداخل والخارج ويضع المصلحة العامة فوق الحسابات الذاتية...

4. يبلور رؤية ترتقي بالدولة فلا تسقط في مغامرات مكلفة أو تُسخّر لصالح فئات تالفة...

5. يملك معرفة بالتاريخ والأحوال الاقتصادية والاستراتيجية بما يؤهله لاتخاذ القرارات المناسبة.

فصل القول ...

الأمل كل الأمل بأن يبدأ أهل السياسة في بلادنا رحلة التحول إلى رجال دولة وهذا في رأينا لن يتم إلا بفتح المجال العام امام الجميع ودون استثناء على اختلاف مشاربهم والوانهم لصقل المهارات وبناء القدرات وعندها وفي الوقت الذي يكون فيه رجال الدولة على درجة من الاهلية والنضج في تحمل مسؤولياتهم ستستطيع دولتنا تفادي أكثر الأزمات الحادة بعون الله...

لقد عبرت بلادنا طوال تاريخها، أزمات وظروفاً استثنائية، وكان في كل مرة تخرج سالمة وأكثر قوة، وبتوافق بين الحاكم والشعب أثبتت الأيام تماسكنا وتغليبنا لمصلحة الوطن على ما عداها، مثلما أن حالة الوعي في الشارع الأردني يجعله مدركاً بأن لكل تعبير ومعارضة حداً يجب عدم تجاوزه، كيف لا وقد شاهدوا بأعينهم تداعيات التمادي في التعبير والاعتراض في أكثر من مكان، ولن يسمحوا بأن تمتد التجارب السوداء إلى بلدهم الذي بقي عصياً على كل المؤامرات.

ختاما ... بكل تأكيد وبعون الله سوف تتجاوز بلادنا هذا الظرف المؤقت، وفي رأيي بأن كل المؤشرات تقول إن حدة الاحتجاجات بدأت بالانخفاض، بعد القرار الصادر عن المحكمة الإدارية العليا وامتثال نقابة المعلمين للقرار الصادر بوقف الاضراب، وكما أننا نراهن دوماً على شعبنا الصابر، الذي نعلم بأن وعيه سيقف في وجه كل من يحاول بث الفوضى، مع التأكيد على أن هناك جماعات سياسية مقامرة، تستغل الأزمات الطارئة لركوب الموجة، واختطاف الأردن إلى المجهول، مثلما أن هناك أطرافاً عربية وإقليمية، تريد مد مخططاتها إلى هذا البلد العربي الآمن المطمئن المرابط على خط النار ...

آملين ان تنتهج دولتنا في خططها وبرامجها القادمة صناعة رجال الدولة للتصدي باقتدار القادة لأية أزمات او ظروف استثنائية قد تتعرض لها بلادنا لا سمح الله ولا قدر ..

باحث ومخطط استراتيجي

 
تابعو الأردن 24 على google news