لماذا يجب أن تهتم الدول العربية بـ"بريكست"؟
جو 24 :
لا تزال القارة الأوروبية تشهد حالة من الترقب وعدم التأكد بانتظار ما ستسفر عنه مسألة مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي "بريكست"، والتي من المفترض أن تشهد اكتمال حلقاتها بحلول 31 من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بيد أن الأطراف المعنية بهذه المسألة، أي الحكومة البريطانية والاتحاد الأوروبي، لا تزال بعيدة عن التوصل لاتفاق للخروج، ما يفتح الباب أمام تأجيل الخروج أو مغادرة لندن لمنظومة بروكسل دونما اتفاق.
ورغم أن تلك القضية تبدو شأنا أوروبيا خالصا، فإن تأثيراتها تمتد لمختلف الدوائر ذات الصلة بالقارة العجوز، ومنها بطبيعة الحال المنطقة العربية، والتي ينتظر أن تتأثر في جوانب سياسية واقتصادية عدة بمسألة البريكست، وهو ما يمكن إلقاء الضوء عليه فيما يلي:
التأثيرات السياسية.. إعادة ترتيب الأولويات
تميل السياسة الخارجية البريطانية عموما للتمايز عن سياسات الاتحاد الأوروبي إزاء القضايا المختلفة، ويتجلى ذلك فيما يخص شؤون المنطقة العربية مع اتجاه بريطانيا إلى بناء شراكات ثنائية للتعامل مع قضايا المنطقة كل على حدة مقارنة بالاتحاد الأوروبي الذي يبني على عمل مع المؤسسات التي تضم العديد من الدول مثل الجامعة العربية.
ومن ثم فمن المتوقع أن تظل توجهات لندن إزاء المنطقة ثابتة في بعض الأبعاد مثل الإبقاء على علاقاتها الحتمية مع بعض الدول العربية في مجال الدفاع، كما أن علاقة بريطانيا بالولايات المتحدة وحلف الناتو ستفرض عليها البقاء حليفا عسكريا مستعدا للمشاركة في أي خطوات مستقبلية في المنطقة، رغم ذلك فمن المنتظر أن يؤدي البريكست لتغيرات في كل من السياسات البريطانية والأوروبية إزاء المنطقة العربية. تتمثل التغييرات المرتقبة في الدور البريطاني في:
• ستكون المصالح قصيرة المدى لها الأولوية على أجندة لندن إزاء المنطقة، وذلك على الاستراتيجيات طويلة المدى. ومن ثم ستركز بريطانيا على قضايا الاقتصاد ومكافحة الإرهاب واللاجئين باعتبارها الأكثر إلحاحا في تهديدها.
• يمكن أن تتراجع علاقات لندن مع دول شمال أفريقيا جنوب المتوسط بشكل كبير، فلم تعد بريطانيا ملزمة بهذه العلاقة التي تشغل الاتحاد الأوروبي بشكل أكبر مع تنامي تهديدات الهجرة غير الشرعية.
• انحسار الدور البريطاني في عملية السلام في الشرق الأوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لا سيما أن هذا الدور يرتبط إلى حد كبير بعضويتها في الاتحاد الأوروبي الذي يعد أكبر المانحين للسلطة الفلسطينية. إلى جانب انحسار دورها في الأزمتين اليمنية والسورية والصراعات الإقليمية الأخرى. كما يتوقع أن يشهد دور بريطانيا انحسارًا كبيرًا في قضايا حقوق الإنسان والسلام العالمي.
أما التغير على صعيد سياسات الاتحاد الأوروبي، فيتوقع أن ينعكس عبر ما سيسفر عنه بريكست من جعل أوروبا أكثر ضعفا وأقل انخراطا في شؤون الشرق الأوسط، إذ يتوقع أن تكون الدول الأوروبية أكثر ميلا للاهتمام بشؤونها الخاصة ومحاولة إنقاذ ما تبقى من الاتحاد.
ومن ثم ستقل قدرة الاتحاد على استخدام قوته الناعمة وسينحسر دوره في تعزيز حكم القانون. كما لن يمكنه أن يقدم نموذجا يحتذى به في مجال حماية حقوق الإنسان واللاجئين والأقليات مع تغليب أوروبا لمصالحها "كما حدث عندما أبرم الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتركيا بخصوص اللاجئين". حاصل القول سيكون الاتحاد الأوروبي فاعلا مختلفا في الشرق الأوسط، يسعى للتوصل إلى صفقات مع الحكومات على حساب الشعوب بهدف الحفاظ على أمن واستقرار الحدود.
التأثيرات الاقتصادية.. الفرص تفوق المخاطر
يرى بعض الخبراء أنه يصعب تحديد الأثر الاقتصادي الكامل لبريكست على المنطقة العربية قبل مرور عامين على الأقل، ولكن يمكن تلمس الاتجاه العام للتأثيرات المحتملة من خلال قراءة بعض المؤشرات التالية:
• من المنطقي أن يدفع بريكست ببريطانيا إلى البحث عن خيارات أخرى تعوّض خسارتها في السوق الأوروبية، والبحث عن رؤوس أموال للاستثمار في أراضيها، الأمر الذي يتيح فرصا جيدة أمام بعض الدول العربية، خاصة الدول الخليجية المرشحة بقوة لأن تكون الوجهة الاستثمارية المستهدفة لبريطانيا خلال فترة ما بعد بريكست، وذلك لتمتعها بخصائص تميّزها عن بقية الدول بالنسبة لبريطانيا، أهمها الغنى المادي، والتطوّر العمراني، والاحتياط الاستراتيجي بالنفط والغاز، والحاجة الخليجية الدائمة لتطوير الطاقة والتعليم والبنية التحتية والرعاية الصحية والصناعة العسكرية.
وحددت لندن مؤخراً فرصاً استثمارية في 15 قطاعاً خليجياً، تقدّر بنحو 30 مليار جنيه إسترليني، خلال السنوات الخمس المقبلة، وبحسب بيانات حديثة، تعدّ دول الخليج أكبر مستثمر في بريطانيا، ويتراوح إجمالي استثمارات الأفراد والصناديق السيادية الخليجية بين 200 و250 مليار دولار، وتحتل نسبة الاستثمارات العقارية أكثر من 23% منها.
• ستنشغل بريطانيا بإعادة التفاوض على علاقاتها التجارية مع عدد من الدول مثل المغرب والجزائر وتونس وستقيم المنفعة الاقتصادية مع كل منها على حدة دون الدخول في اتفاقات جماعية، كما هو الحال مع الاتحاد الأوروبي.
فعلى سبيل المثال، تونس، ثاني أكبر مصدر لزيت الزيتون في العالم سعت كثيرًا لتحسين فرص الوصول إلى أسواق الاتحاد الأوروبي، لكن ضغوطا من اليونان وإسبانيا وإيطاليا، المنتجين الرئيسيين لزيت الزيتون، عرقلت وصول تونس للأسواق الأوروبية. لكن بريطانيا يمكنها أن تفتح بابا كبيرا للشراكة مع تونس في هذا الإطار بعدما تحررت من توازنات الاتحاد الأوروبي.
• وفيما يتعلق بالانعكاسات المحتملة لبريكست على الاقتصاد المصري، فترتبط بالحضور الكبير لبريطانيا على الخارطة الاقتصادية المصرية، إذ تعد أكبر مستثمر غير عربي في البلاد، وإن كان الميزان التجاري بين مصر وبريطانيا، يشهد عجزاً وفقا لإحصائيات عام 2017 بلغ حوالي 754 مليون دولار بعد خصم صادرات مصر البترولية، إذ بلغت صادراتها إلى المملكة المتحدة خلال العام الماضي نحو 840 مليون دولار في حين أن واردات مصر بلغت نحو 1,6 مليار دولار.
كما أن بريطانيا تعد أكبر مصدر لتدفقات الاستثمار الأجنبي إلى مصر بإجمالي استثمارات تبلغ 5,6 مليار دولار من خلال 1450 شركة ومشروعا، بينما تصل التقديرات البريطانية لحجم الاستثمار إلى 40 مليار بعد إدماج الاستثمارات في قطاعي البترول والغاز.
وتعد بريطانيا ثالث أكبر شريك تجاري لمصر بعد الصين وإيطاليا. من ناحية أخرى تحتل مصر المركز السادس كأكثر الدول المصدرة لبريطانيا في المنطقة.
في ضوء ذلك تذهب غالبية التوقعات إلى التأكيد على أن بريكست لن يكون له آثار سلبية حالية أو سريعة على الاقتصاد المصري، لأنه أثناء فترة الخروج التي تعتبر مرحلة انتقالية كافية لترتيب مستقبل علاقات البلدين، بل على العكس يرى البعض أن هناك مجالا كبيرا لتحسين الميزان التجاري من خلال ترتيبات أفضل مع بريطانيا فيما يخص الحصص الكمية والتعريفية مثلاً بالمقارنة بتلك القائمة مع الاتحاد الأوروبي والتي راعت حالة دول جنوب المتوسط في المنتجات الزراعية المماثلة، كما يتوقع أن تتأثر صادرات بريطانيا بالبريكست إذ ستضطر إلى تخفيض وارداتها من الخارج والاعتماد على منتجاتها المحلية بفرض جمارك لم تكن تفرض عندما كانت بريطانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي.
هناك مؤشرات عدة على حرص القاهرة ولندن على تجاوز تأثيرات بريكست الاقتصادية، فأكدت بريطانيا التزامها بأن تظل الشريك الاقتصادي الأول لمصر بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما شهد مطلع 2018 قيام المبعوث التجاري البريطاني، جيفري دونالدسون، ببعثة تجارية ناجحة لمصر برفقة أكثر من 50 شركة، فيما اعتبر أكبر بريطاني يزور مصر خلال العشرين عامًا الماضية؛ لبحث فرص التعاون التجاري في أنحاء مصر بالقطاعات التي تخلق فرص عمل كالنقل والصحة والصناعة والطاقة والتعليم.
كما استضافت القاهرة في نوفمبر الماضي وفداً بريطانياً للتباحث حول شكل العلاقة بين مصر وبريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. يدور التفكير الحالي حول الدخول في اتفاق مع بريطانيا يشمل تحرير التجارة في السلع على غرار الترتيبات القائمة مع الاتحاد الأوروبي، على أن يجري مراجعتها مستقبلاً وفقاً للحاجة.
ختاما يمكن القول إن بريكست سوف يدفع لندن لإعادة توزيع جانب من الاستثمارات البريطانية في الخارج أو أن تنقل البنوك والمؤسسات المالية البريطانية قسما من نشاطها من داخل الاتحاد إلى أقاليم العالم الأخرى.
وهنا، فقد تكون دول المنطقة العربية أمام فرصة سانحة ــ هي أحوج ما تكون إليها حاليا ــ لاجتذاب حصة من تلك الاستثمارات المتوقعة، ولكن يبقى اقتناصها مرهونا بقدرة حكومات دول المنطقة على خلق مناخ استثماري أكثر جذبا وتحسين بيئة الأعمال والترويج الاستثماري في أوساط الشركات ورجال الأعمال البريطانيين في الفترة المقبلة.