"سيد قرطاج" الجديد.. أكاديمي فاز دون دعاية.. ما سر انتخابه؟
جو 24 :
في مشهد غير مألوف عربيا، ينتقل محمولا بأصوات الناخبين الأستاذ القانوني قيس سعيد (61 عاما) من مقاعد العمل الأكاديمي إلى قصر "قرطاج" شاغلا منصب رئاسة الجمهورية التونسية.
شارك سعيد في الجولة الثانية من الانتخابات بدون دعاية انتخابية معلنة، فخاض برصيده الأخلاقي وبساطة أسلوبه وسلاسة طرحه تنافسيات الرئاسة، ما انعكس التفافا شعبيا حوله، أهله لاكتساح الانتخابات مقابل منافسه زعيم حزب "قلب تونس" نبيل القروي.
ومن اللافت في انتخاب "سعيد" عدم قدومه من خلفية حزبية أو تأطير سياسي معروف، فأكسبته استقلاليته زخما شعبيا آخر، جعل المحللين التونسيين يرجحون بأن يكون لضجر الشارع التونسي من الأحزاب المتصارعة في الساحة السياسية عاملا حاسما ساعد الرجل في هذا الصعود.
فهذا ما يراه الصحفي التونسي صالح عطية بأن "عامل استنكاف الطبقة الشعبية عن الأداء السياسي وعدم رضاها عن الطبقة الحاكمة خلال السنوات الثمانيى التي أعقبت الثورة ساهم في صعود سعيد إلى كرسي الرئاسة".
وأكد في حديثه لـ"عربي21" بأن "الأحزاب السياسية لم ترقى إلى مستوى تطلعات الشارع التونسي، ولم تجد آذانا صاغية من الطبقة الحاكمة في الفترة الماضية، ما جعل التونسيين يبحثون عن البديل خارج هذه المنظومة".
الشخصية التونسية
كما يعتقد عطية بأن الشارع التونسي وجد في سعيد أفضل ممثل لشخصيته التي امتازت بثلاث صفات هامة هي: "الرصانة، الأب المعلم الجامعي، عدم التحزب".
وموضحا لهذه الصفات الثلاثة، يقول الصحفي التونسي: "تميز سعيد بالرصانة والهدوء والكلام المفيد، فانتخب الشارع التونسي شخصية لا يظهر عليها أثر التشنجات التي غلبت على السياسيين".
ويضيف "كما أن سعيد أستاذ جامعي يأتي من خلفية أكاديمية، هذه الفئة تعرضت للتعنيف والإقصاء من قبل السياسيين، فيما كانت أغلبية من صوتوا لسعيد هم من الشباب وطلبة الجامعات الذين يعنيهم الأستاذ الجامعي ويكنون له الاحترام".
وكون منصب الرئيس ارتبط لدى التونسيين بالأبوة الحنونة، وهو ما ترافق مع رؤوسائها السابقين وتم ترويجه عنهم، ففي حالة سعيد بأن هذه البحث "تم كسره لدى الشباب، فباتوا يبحثون عن الأب المعلم والأستاذ وليس الحنون، يريدون من يعلمهم ويرشدهم ويدعمهم" بحسب ما قال عطية.
وحول الصفة الثالثة، لفت عطية إلى أن "سعيد رجل غير متحزب، ولم يأت من حزام حزبي، بل لم يمارس العمل السياسي المتعارف عليها، فوجد الشارع التونسي فيه تفريغ ما يعتريهم من كبت تجاه الأحزاب والطبقة السياسية".
وشدد أن الشارع التونسي يريد في الرئيس الجديد "مُخَلّصا لهم من الخصام والعراك السياسي والتجاذبات التي شهدتها البلاد".
الشعب يريد
وعزى الصحفي التونسي نجاح سعيد إلى ذكائه أيضا في استثمار شعار الثورة التونسية "الشعب يريد" قائلا: "كان سعيد رجلا ذكيا عندما استثمر رغبة الشباب التونسي، وراهن على شعار )الشعب يريد(، يريد حاكما جديدا، ويريد نموذجا مختلفا".
ومن وجهة نظره فإن "الشباب التونسي وجد في سعيد نفسه"، مضيفا "سعيد رمى كرة التغيير في مرمى الشباب وقال لهم أنتم ستحددون مستقبلكم، أنتم تريدون وأنا سأقدم لكم العون اللازم لتحقيق أهدافكم".
واعتبر بأنه "صارت بين سعيد والشباب التونسي عملية كيمائية من خلال هذا الشعار، حيث استعد لأن يقدم لهم دعما لما يطرحوه من أفكار من خلال صلاحياته وموقعه السياسي".
سعيد النظيف
ومن زاوية ثانية، يؤكد الباحث التونسي سامي براهم بأن انتخاب سعيد هو "ليس انتصارا شخصيا، بل انتصار لما يمثله من مخزون أخلاقي ومن صورة طاهرة للفعل السياسي".
وأوضح براهم في حديثه لـ"عربي21" بأنه "طيلة السنوات الماضية ترسخت صورة لطبقة السياسيين هي صورة الخصام والبذاءة والمناورة والتعطيل، مؤكدا "هذه الصورة ابتذلها وضجر منها التونسي، وبدأ يبحث عن صورة السياسي الطاهر الصادق الذي لا يؤذي خصومه ومنافسيه، صاحب اليد النظيفة، وليس له شبهات فساد".
ومشيرا إلى أن سعيد لم يقدم برنامجا سياسيا نوعيا، قال براهم: "الذي قدمه سعيد أهم من البرنامج، وهو صورة السياسي النقي الصادق الصافي الذي يمكن أن يستأمن على الدستور والديمقراطية، ويحفظ الأمن من اختراقات المخابرات أجنبية".
ومن العوامل التي ساعدت في انتصار سعيد، بحسب الباحث التونسي "الحملة الانتخابية المتواضعة"، موضحا "الرجل نجح في خطابه أن يمزج بين المرجعية الإسلامية والمرجعية القانونية الحديثة والقيم الحديثة بشكل لافت".
وحول ما شاهده ليلة التصويت لسعيد، أفاد براهم "رأينا شبابا جديدا ليس شباب الأحزاب ولا شباب المجتمعات المدنية"، مضيفا: "يبدو أن هذا الشباب كان على تواصل مع قيس سعيد منذ سنوات، قيس سعيد كان يشتغل منذ سنوات بالتواصل المباشر مع الناس، في المقاهي وفي دور الثقافة وفي الشوارع وفي الأسواق، بينما كان السياسيون يتصارعون ويتخاصمون".
وأكد على ذلك بقوله: "هناك من انتخبوا قيس سعيد وليس لديهم أدنى فكرة عن برنامجه، يريدون شخص يقدر على أن يكون صادقا وعلى أن يؤمن بقية مسار الثورة والتنمية".
كسر الابتزاز
ويرى الباحث التونسي أن صورة البرغماتية والطهرانية تجلت في المناظرة بين قيس سعيد ومنافسه نبيل القروي، قائلا: "المناظرة كانت بين عقلين في السياسة، أحدهما رجل الأعمال الذي يقتضي عمله أن يناور وأن يتورط في صفقات فساد وغسيل أموال ولا يرى بأسا في التعامل مع الإسرائيليين، في برغماتية قبيحة صدمت الوجدان التونسي".
بينما ظهر سعيد كصاحب المبادئ الذي يقول الأشياء كما هي، فلم يخجل أن يقول أننا في حالة حرب مع "إسرائيل"، ولم يخجل أن يتحدث عن الشرعية الدولية.
اقرأ أيضا: هل مثل فوز قيس سعيد ضربة للتطبيع العربي مع إسرائيل؟
وتابع: "تجسد في هذه البرغماتية كل تلوثات الحياة السياسية التونسية، بما فيها استغلال فقر التونسيين لشراء ذممهم للوصول إلى موقع الرئاسة وموقع برلمان".
ومعتقدا بأن التورط في البرغماتية طالت أيضا التيار الإسلامي التونسي المتمثل في "حركة النهضة"، قال الباحث التونسي: "كان هناك مبالغة في البرغماتية من قبلهم بشكل أضر بمصالح التونسيين، من خلال المصالحة مع الفاسدين".
وأوضح "اضطرت النهضة إلى توافقات أنقذت البلد من الاحتراب الأهلي، لكنها دخلت في مربع الابتزاز، ووقع اقتلاع قوانين وإجراءات منها تحت الإكراه، فتحولت إلى سيف مسلط على الناس، وكأن النهضة استمرأت هذا المسار".
وختم بقوله: "التيار الإسلامي لم يثق في قدرة الشعب التونسي على حمايته، فاحتمى بالاتفاق مع رجال الأعمال والمنظومة القديمة"، فيما أراد الشارع التونسي "كسر هذا الابتزاز الذي تعرضت له الإسلاميون بانتخاب سعيد رئيسا له".