بين مواقع إلكترونية مهنية وأخرى لـ" مطاردة الساحرات "
جو 24 : في شهر تموز (يوليو) من العام الماضي، تناقلت العشرات من المواقع الإخبارية خبر مشروع بناء يتم العمل عليه في بلدة المزار الجنوبي في الكرك، قالت إن أهل المنطقة "المستائين" "يعتقدون" أنه سيكون حسينية للطائفة الشيعية.
وإلى أن أُعلنت هذه المواقع، في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه، خبر التوقف عن البناء دون إتمامه، فإنها لم تقدّم لقراّئها، وعلى امتداد متابعاتها العديدة للقضية، معلومات حقيقية، فهي لم تخاطب القائمين على البناء، ولم تستوضح من أبناء الطائفة الشيعية المقيمين في المنطقة علاقتهم به، ولم تحسم بالتالي على وجه اليقين طبيعة هذا المبنى، ملابسات إنشائه، أو ما سيحدث بعد التوقف عن البناء، بل كان كل ما تناقلته، وعلى امتداد أشهر، هو أقاويل وتكهنات، مصاغة بلغة تحريضية، كانت الأغلبية الساحقة من هذه المواقع تنقلها (copy & paste) عن بعضها البعض.
وفي وقت لم تقم فيه هذه المواقع بالحد الأدنى من الاستقصاء المطلوب، فإنها شرعت أبوابها أمام مئات التعليقات التي هاجمت الشيعة بالمطلق، واصفةَ إياهم بـ(الكلاب، الكفرة، الأنجاس، الحقراء)، وتعليقات طالب أصحابها بالذهاب إلى المبنى وهدمه "على رؤوس أصحابه"، وقال كثيرون صراحة إنه لا ينبغي انتظار التحرك الحكومي في هذا الشأن. بل أن موقعا نشر تعليقاً حرّض على "قتل السمسار ومقاول البناء" وآخر حرّض على وضع "عبوة ناسفة ليلا في المبنى وتفجيره".
ورغم أن صحيفة الغد، نشرت في آب (أغسطس) من نفس العام، تصريحاً لمدير أوقاف الكرك، نفى فيه أن يكون المبنى حسينية، بل هو فندق استثماري، يملكه مستثمر أردني، ويأتي بناؤه في إطار خطة شاملة لإعمار المقامات والأضرحة في جميع مناطق المملكة، تشمل إنشاء مرافق وخدمات في محيط هذه المقامات، تساهم في تنشيط السياحة الدينية فيها. نافياً أن يكون لمشروع الفندق علاقة بأفراد من الطائفة الشيعية يقيمون في المنطقة، ويملكون بالفعل منذ أكثر من عشر سنوات مبنى لاستضافة الزائرين من نفس الطائفة، إلاً أنه توضيح لم ينشره أيّ من هذه المواقع، التي واصلت حربها الإلكترونية ضد الشيعة.
الحالة السابقة هي مثال نموذجي على الطريقة التي تتعاطي بها الكثير من المواقع الإخبارية الإلكترونية مع مختلف القضايا، فرغم وجود العديد من المواقع التي تتعامل ضمن معايير مهنية وأخلاقية واضحة، إلاّ أن نسبة كبيرة جداً منها تنشر أخبارها دون استقصاء أو توثيق، وبلغة تحريضية، ثم تفتح الباب أمام الجماهير للهجوم، والهجوم المعاكس.
وإذا كان التحريض ضد الآخر في الحالة السابقة قد تمّ على خلفية دينية، فإن التعبير عن مشاعر الكراهية على خلفيات عشائرية ومناطقية وإقليمية تُفرد له أيضاً مساحة واسعة في ساحات الكثير من هذه المواقع، ومنها، على سبيل المثال، التعليقات التي تُنشر على أخبار المشاجرات الجامعية. وهي أخبار لا تختلف طريقة التعاطي معها عن خبر الحسينية سابق الذكر، فهنا أيضاً لا تُقدّم، في الغالب، معلومات مفيدة توضّح الملابسات المحددة لما حدث. لكن الأبواب تُفتح، مع ذلك، لنشر تعليقات تبلغ حدّاً من القسوة لا يمكن معه نشر نصوصها هنا.
في هذه التعليقات، يتبادل مناصرو طرفي كل مشاجرة، ذمّ عشيرة أومنطقة الطرف الآخر (حسب نوعية التحشيد)، والدعوات إلى "تحطيم" و"تكسير" و"دعس" الآخر. فمثلاً، وعلى خبر عن مشاجرة في جامعة اليرموك في تموز (يوليو) العام الماضي، نُشرت تعليقات تدعو إلى "حرق" و"احتلال" المدينة التي ينتمي إليها الطرف المقابل. بل إن أحد المواقع، وعلى خبر عن مشاجرة في جامعة الزيتونة نشر تعليقا اتهمت فيه معلقة نسبت نفسها إلى إحدى المناطق، بنات عشيرة معينة بأنهن "بلا شرف"، وحذرت من الزواج منهن. علماً بأن جميع ما سبق تضمن ذكراً صريحاً لأسماء المناطق والعشائر.
تفتيت آخر يمارسه الكثير من المواقع على أساس إقليمي. وهذا لا يحتاج إلى نوعية معينة من الأخبار، فالشحن الإقليمي الذي يفرّغ (أو يُخلق) على خبر مثل فض اعتصام 24 آذار العام 2011، هو ذاته على خبر عن فستان لديانا كزون، كما على خبر شتم وزيرة سابقة لمطلقي الأعيرة النارية في احتفالات التوجيهي، وعلى خبر إعلان جماعة الأخوان مقاطعتها الانتخابات النيابية، كما على خبر عن الكونفدرالية.
ومثل تعليقات العشائرية والمناطقية، فالتعليقات الإقليمية من الطرفين هي أيضاً قاسية ومسيئة، وتتمحور دائما حول نفس الثيمات: اتهامات من ينسبون أنفسهم إلى المكوّن الأردني الأصلي للمكوّن من أصل فلسطيني بالخيانة، العمالة، وبيع فلسطين، والدعوة إلى سحب جنسياتهم وطردهم، وهناك في المقابل، اتهامات من ينسبون أنفسهم للمكوّن فلسطيني الأصل للطرف الأول بالتخلف، الكسل، و"المعايرة" بأنهم ساهموا في بناء اقتصاد البلد. وفي الأثناء يتبادل الطرفان شتائم مثل حثالة، زعران، مقمّلين، رعيان، مقطّعين.
ولا يبدو أنه في بعض المواقع هناك حدّ لانحدار حسّ المسؤولية في التعاطي مع التعليقات، فقد نشر أحدها تعليقاً يدعو كاتبه من لديه أبناء صغار السن إلى منعهم من المشاركة في اعتصام 24 آذار، لأن لدى المعتصمين فتوى بأن ... (كلمة بذيئة) بالأولاد.
الفوضى ذريعة للتدخل الحكومي
مشهد كهذا، كان، كما يقول مدير دائرة المطبوعات فايز الشوابكة، هو ما دفع الحكومة إلى فرض المزيد من القيود على المواقع الإلكترونية، كان آخرها التعديلات التي أُقرّت في أيلول (سبتمبر) العام الماضي على قانون المطبوعات والنشر، فقد تجاوز، كما يقول " الكثير من المواقع الحدود في ما تنشره، وصارت تثير النعرات الجهوية والعشائرية، وبعضها يمسّ بالحياة الشخصية للأفراد من ذمّ وقذف وتشهير، بشكل بات يشكل تهديداً للمجتمع".
لكن صاحب موقع jo24، باسل العكور يردّ بأن كل هذا الكلام عن إثارة الكراهية والنعرات والمسّ بالوحدة الوطنية كان مجرد "ذريعة" استخدمتها الحكومة لفرض المزيد من القيود التي كان "الهدف الحقيقي من ورائها هو إنهاء حالة التفاعل الحقيقية التي خلقها الإعلام الإلكتروني، والوقوف في وجه تَشكّل رأي عام حول القضايا الكبري، وتوجيه الانتقادات لشخصيات فاسدة متنفذة".
يوافقه صاحب وكالة المحرر جهاد أبو بيدر، الذي نوه إلى أن الإعلام الإلكتروني تمكّن من تحقيق ما عجز عنه الإعلام الرسمي "المقيّد"، وهو "إيصال أصوات الناس إلى أصحاب القرار في البلد".
في حين يذكّر أستاذ الإعلام في جامعة الحسين بن طلال، ورئيس مركز دراسات التنمية فيها، الدكتور باسم الطويسي، بأنها ليست المرة الأولى التي تتخذ فيها الحكومة من الفوضى وتدني المهنية التي تسود الساحة الإعلامية مبررا للتدخل في الإعلام فقد "فعلت ذلك كثيراً خلال العقدين الماضيين، وما زلنا نذكر ما حدث مع الصحف الأسبوعية نهاية التسعينات. فالذي يحدث الآن مع المواقع الإلكترونية هو أمر مشابه، ولكن في مشهد أوسع وأكثر تعقيداً".
إذن، كان هذا "الانفلات" هو ما قالت الحكومة إنه دافعها لإقرار تعديلات العامين2011 و2012 على قانون المطبوعات والنشر، والتي كان من أبرزها معاملة المواقع الإلكترونية معاملة المطبوعة الصحفية، ما يعني أن كل الأحكام القانونية التي كانت تُطبق على المواد الصحفية في المطبوعات، أصبحت تُطبق على المواد الصحفية في المواقع الإلكترونية.
وهو تعديل، كان، قد مُهّد له بغطاء من "المشروعية"، كما يقول الصحفي في صحيفة العرب اليوم، يحيى شقير، عندما أصدر الديوان الخاص بتفسير القوانين قراره القاضي بأن كلمة "مطبوعة" في قانون المطبوعات والنشر، تنطبق على المواقع الإلكترونية، ومن ثم أيده في هذا التفسير قرار لمحكمة التمييز.
تلقائياً، مُنِعت المواقع، وفق هذا التعديل، من نشر أي مادة صحفية تشتمل على إساءات دينية، أو تثير النعرات المذهبية أو العنصرية، أو تحرّض على العنف، أو تثير مشاعر الفرقة بين المواطنين، أو تمس بالحياة الشخصية للأفراد، أو تتضمن ذمّاً أو قدحاً أو تحقيراً لهم، أو تتضمن معلومات أو إشاعات كاذبة بحقهم.
كما أُلزِمت بأن ُتحقّق في عرضها لموادها الصحفية معايير الدقة، الموضوعية، الحياد، النزاهة، والتوازن. ووفق هذه التعديلات، أصبحت التعليقات جزءاً من المادة الصحفية، تنطبق عليها ذات الأحكام، ويتحمل مسؤوليتها كاتبها ومالك الموقع ورئيس تحريره.
ولتمكين الجهات المختصة من تعقّب مرسلي التعليقات في حال رفع دعوى، أُلزِمت المواقع بالاحتفاظ بسجل للتعليقات مدته 6 أشهر، يتضمن جميع المعلومات الخاصة بالمعلقين. وتراوحت، بشكل عام، الغرامات على مخالفة أحكام القانون ما بين خمسمئة إلى عشرين ألف دينار.
وأُلزِمت المواقع بالتالي بالترخيص، ومُنح مدير دائرة المطبوعات صلاحية حجب غير المرخص منها. ووفق الشوابكة فإنه من بين ما يقارب 500 موقع إلكتروني أردني، هناك 100 قامت بالترخيص فعلاً.
وكان هذا التعديل المتعلق بإلزامية ترخيص المواقع، وصلاحية حجبها، من أكثر التعديلات التي جوبهت بالرفض من أصحاب مواقع وناشطين، فطالبت "تنسيقية المواقع الإلكترونية"، وهي لجنة مكونة من 20 موقعاً مناهضاً للقانون، في بيان لها أصدرته عشية إقرار التعديلات باعتماد مبدأ "الإخطار" الذي تعمل به الدول الديمقراطية، وبمقتضاه يقوم الموقع بالتسجيل لدى الجهات المختصة، في إجراء يعني "إبلاغ" الجهات المعنية بتأسيس الموقع، بما يضمن ملاحقته قضائياً في حال خَرَق القانون، ولكنه لا يشترط الموافقة الحكومية المسبقة على هذا التأسيس.
القانون وإعلام "مطاردة الساحرات"
المفارقة، هي أنه، ومع أن معاملة الموقع الإلكتروني معاملة المطبوعة الصحفية صارت تعني تجريمه إن نشر مواد أو تعليقات تنطوي على ذمّ أو قدح أو تحريض على العنف والكراهية، إلا أن الملاحظ، وهذا ما يلفت إليه أبو بيدر، هو أن القانون لم ينعكس على الأداء الإعلامي للمواقع التي تمثل الانتهاكات سابقة الذكر طابعاً لأدائها، ما يدلل كما يقول على "عدم وجود إرادة حقيقية لتنظيف الساحة".
كلام أبو بيدر يؤكده المشهد الحالي للتعليقات، والتي لا يبدو للراصد أن القانون قد غيّر فيه فعلاً، فانفلات التعليقات، الذي يتجاوز انتهاك القيم الأخلاقية الاجتماعية، إلى خروقات فجة للقانون ما زال مستمراً، حتى في مواقع مرخصة، ومن أمثلتها التعليقات على مشاجرة جامعة مؤتة التي وقعت في آذار (مارس) الماضي.
فقد سمحت عدة مواقع للمتشاجرين بأن ينقلوا المشاجرة إلى ساحة التعليقات، فنجد معلقاً ينسب نفسه إلى منطقة يتوعّد أبناء المنطقة الأخرى بـ"هجوم كاسح" وبأنهم "يوم الأحد" المقبل، وهو بالمناسبة اليوم الذي وقعت فيه مشاجرة مؤتة المسلحة، يتوعّدهم بأنهم سوف يرون الأسلحة بعيونهم، ليرد عليه ابن تلك المنطقة بأنهم سيحوّلونها إلى "يوم قيامة"، فيعود معلق آخر من المنطقة الأولى ويصف أبناء المنطقة الثانية القادمين للدراسة في الجامعة في منطقتهم بأنهم "ضيف حامل سيف".
أما التفتيت الإقليمي، فإنه ما زال حاضراً بقوة، ويمكن قراءة التعليقات على الأخبار العديدة التي تناولت موضوع الكونفدرالية خلال الأشهر الأخيرة، زيارة النائب محمد العشا إلى إسرائيل، وطبعا ديانا كرزون. والقاسم المشترك هنا، هو أن الأغلبية الساحقة من التعليقات لا تناقش نهائياً الأفكار المطروحة في الخبر، بل تندفع إلى الهجوم الشخصي، الذي يكون فيه بطل الخبر مجرد وسيلة للنيل من كامل المكوّن الذي ينتمي إليه، ليستدعي ذلك هجوماً مضاداً.
وواحدة من أسوأ الانتهاكات الأخيرة، كانت تلك التي وقعت على خمسة طلبة أُلقي القبض عليهم، في آذار (مارس) الماضي في إطار ما سمي بقضية "عبدة الشيطان" في جامعة آل البيت، فبعد ساعات من القبض عليهم، قام الكثير من المواقع بتثبيت التهمة عليهم، عندما نشرت صورهم تحت عنوان "شاهد صور عبدة الشيطان"، وقد حدث هذا، ليس فقط قبل أن يصدر حكم قضائي، ولكن حتى قبل أن يُوجَّه إليهم أي اتهام رسمي. كما نُشرت تعليقات طالبت بقتلهم وحرقهم في الساحات العامة، وطالب أحدها بوضعهم في براميل من القطران المغلي في ساحة المسجد الحسيني. كل هذا في مشهد مرعب وصفه الكاتب في صحيفة الدستور باتر وردم بـ"إعلام مطاردة الساحرات". علماً بأن محكمة أمن الدولة، التي أُحيل إليها الطلبة، أصدرت في أيار (مايو) الجاري قراراً ببراءتهم، إذ أن كلّ ما كان ضد هؤلاء الشبان الخمسة، ووفق شهود النيابة العامة، هو ارتداؤهم ملابس سوداء، وسماعهم لموسيقى غربية، وتصفيفهم لشعورهم بطريقة "غريبة".
في نفس السياق، نال خبر اقتحام مجموعة أشخاص لمنزل أحد أتباع الطائفة الشيعية في بلدة المزار الجنوبي وإضرام النيران فيه، في أيار (مايو) الجاري، نال في ساعات عشرات التعليقات التي حرّض أصحابها صراحة على قتل ساكني المنزل، وتعليقات حيّا أصحابها من قام بهذا االفعل بعبارات مثل "عفية عليهم" "الله حَيهم".
ومع ذلك فإن هناك، وفق مصدر في دائرة المطبوعات والنشر فضل عدم ذكر اسمه، "مئات" القضايا المرفوعة على مواقع إخبارية.
فهل يعتبر هذا الكم من القضايا، التي تُحرك من قبل الدائرة عند رصدها لأي انتهاك، أو من المتضررين الذي يلجؤون إلى القضاء، مؤشراً على جدية في محاربة الانتهاكات؟
الجزم بذلك يتطلب معرفة العدد الدقيق للقضايا المرفوعة، وتحليل نوعية الجرم موضوع الاتهام، وأيضا معرفة نوعية المواقع الإلكترونية التي قوضيت، وهي معلومات لم تتمكن كاتبة التقرير من الحصول عليها، لكن المحامي المتخصص في قضايا الحريات الإعلامية، محمد قطيشات، والذي يقول إن لديه في مكتبه وحده أكثر من 120 قضية مرفوعة على مواقع إلكترونية، أكد أنه، ومن خلال القضايا التي يتابعها، فإنه يلاحظ أن هناك فعلاً "انتقائية" في رفع الدعاوي، وأن هناك مواقع معينة مستهدفة من قبل الحكومة، وأن الاستهداف يكون سببه أحياناً "شخص مالك الموقع أو توجهاته، أو قد يكون السبب هو الشخصية أو المؤسسة التي مسّتها مادة صحفية أو تعليق نشره الموقع".
القانون .. أداة للقمع
قد لا يبدو لمن يقرأ بنود قانون المطبوعات والنشر أنه يمكن أن يمثل قيداً على المواقع التي تلتزم بالمعايير المهنية والأخلاقية، وقد يتساءل كثيرون عن الخطأ في إقرار قانون يجرّم نشر الإساءات التي سبق ذكرها من ذمّ وقدح وغيرها.
لكن الحال ليس كذلك كما يقول قطيشات، فالقانون ينطوي على ثغرات تجعل منه "سيفاً مشهراً" في وجوه الجميع دون استثناء.
أبرز الثغرات كما يقول هي العبارات الفضفاضة التي ليس لها تفسير محدد، ومنها على سبيل المثال إلزام الموقع بـ"تحري الحقيقة والالتزام بالحيدة والموضوعية في عرض المادة الصحفية، والامتناع عن نشر ما يتعارض مع مبادئ الحرية والمسؤولية الوطنية وحقوق الإنسان وقيم الأمة العربية والإسلامية". وأيضا البند الذي يشترط "التوازن والموضوعية والنزاهة في عرض المادة الصحفية".
فهذه عبارات يقول قطيشات إنها "تصلح لميثاق شرف أو مدونة سلوك وليس لتشريع قانوني؛ إذ لا معايير محددة لتفسيرها، ويمكن أن يختلف هذا التفسير من قاض إلى آخر، ويمكن أن يكون أحد هذه التفسيرات مختلفاً عما قصده المشرع، فيجرم صحفي على فعل لم يكن في ذهن المشرّع، ولا يلام القضاة هنا لأن النص واسع جداً".
إضافة إلى ذلك يتساءل قطيشات عن المغزى من عدم التفرقة بين المواد الصحفية عند اشتراط الدقة والموضوعية والحياد والنزاهة "كيف نطلب من مقال رأي أن يكون محايداً، وكيف يمكن لخبر أن يكون موضوعياً، فهو إما صحيح أو غير صحيح، وكيف نحكم على كاريكاتير بأنه نزيه مثلا؟".
أما عبارة "إشاعات كاذبة"، فهي أيضاً، كما يقول، غير قابلة للتعريف، فالأصل أن "هناك معلومات، إما أن تكون صحيحة أو كاذبة، فمن يحدد أن معلومة ما هي إشاعة؟ هل إذا أطلقها شخص واحد، أم إذا أطلقها مئة مثلا؟"
من هنا، تنص القاعدة الفقهية والقانونية، كما يشدد قطيشات، على أنه "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني واضح محدد الضابط والمعيار"، أما العبارات المطاطة كهذه فهي "مخالفة دستورية، ومخالفة للمعايير الدولية في حقوق الإنسان".
في ذات السياق يلفت العكور إلى النص الذي يمنع نشر تعليقات لا يخص مضمونها موضوع المادة الصحفية، ويتساءل "قارئ وضع تعليقا موضوعه ارتفاع أسعار المحروقات على مقال عن الربيع مثلا. ولم يتضمن تعليقه أي إساءة. ما هو المنطق في اعتباره مخالفاً؟".
الشوابكة، يؤكّد أن هذا النص يخص فقط التعليقات التي تنطوي على جريمة، إلا أن قطيشات يوضح أن النص هنا واضح، وهو "يعني وبشكل مطلق منع نشر أي تعليق لا يخص مضمونه موضوع المادة الصحفية، حتى لو لم يكن مسيئاً"، فالنص القانوني "يفسر على إطلاقه، وليس وفقاً لآراء ومواقف وتوجهات صاحب القرار السياسي، ولا وفقاً لتحليل الموظف في السلطة التنفيذية".
نلاحظ هنا أن إشكالية مشابهة تتكرر في تعريف الموقع الإلكتروني الذي ينطبق عليه القانون، ففي حين يؤكد الشوابكة أن القانون لن يطبّق على المدونات الشخصية، فيس بوك وتويتر، لأن القانون حدد فقط المواقع الإلكترونية المفتوحة للعموم والتي تنشر ما يتعلق بالشؤون الداخلية والخارجية للمملكة، وهذا لا ينطبق، كما يقول، على المدونات وفيس بوك وتويتر، فهي "مواقع شخصية، ليست مفتوحة للعموم، ولن يطلع عليها إلا من يسمح له صاحبها بالدخول".
لكن الواقع هو أن المدونات الشخصية، فيس بوك وتويتر هي مواقع مجهزة فنياً بحيث يختار صاحبها أن يجعلها خاصة أو مفتوحة للعموم كأي موقع إلكتروني، وهناك عدد كبير من الصحفيين والناشطين ممن يملكون مواقع من هذا النوع ويفتحونها للعموم، وينشرون فيها أخبار تتعلق بشؤون الأردن، فهل يجعلها هذا مشمولة بالقانون؟
وفق قطيشات، فالإجابة هي نعم، ذلك أنه وفق التعريف الوارد في القانون، فإن القانون ينطبق على هذه المواقع وعلى كل موقع إلكتروني بالمطلق "وهذا يشمل حتى غوغول وياهو وغيرها، فهذه أيضا مفتوحة للعموم وتنشر أخبار وتعليقات تخص الأردن،وهي إذا ما طُبّق القانون حرفياً، مطالبة أيضاً بالترخيص ، ويملك مدير دائرة المطبوعات صلاحية حجبها إذا خالفت".
إن إشكاليات كهذه سببها كما يقول قطيشات، هو أن قانوناً يخص جرائم تُرتكب بواسطة الإنترنت، تمت صياغته دون الاستعانة بخبراء في الإنترنت.
إذن، نحن أمام قانون بعبارات فضفاضة، يحمل كل منها طيفاً واسعاً من التأويلات، ومع ما يؤشر على وجود ما سبقت الإشارة إليه من انتقائية واستهداف، فإن هذا يجعل من القانون كما يقول قطيشات "سيفا مشهراً" في وجوه الجميع، وجاهزا للاستعمال في أي وقت "وفي اللحظة التي تقرر الحكومة فيها النيل من أي موقع، فإنها ستطبق القانون بحذافيره".
إن التطبيق "الانتقائي" للقانون هو مثال على استخدام الحكومة للقانون كأداة لقمع معارضيها، كما يقول شقير، ففي حين أن المبدأ الذي يجب أن يطبق هو مبدأ سيادة القانون (rule of law)، والذي يعني أن القانون فوق الجميع، وهذا يشمل الحكومة نفسها، فإن ما هو مطبّق لدينا هو مبدأ الحكم بالقانون (rule by law)، ويعني هذا أن القانون يصبح أداة قمع مغلّفة بالمشروعية في يد الحكومة، تختار تفعليله في حالة المواقع التي تعارضها، وتجمده مع المواقع التي تسير على هواها.
هذا خلق، كما يقول أصحاب مواقع، حالة من الخوف والترقب، دفع العشرات منها إلى حجب التعليقات، احتجاجاً على القانون، وحماية للموقع والمعلقين، كما يقول العكور ، الذي ما زال موقعه يحجب التعليقات"أي موقع يحظى بنسبة مشاهدة جيدة، تصله آلاف التعليقات يوميا، ومراقبة كل تعليق للتأكد من انطباق جميع هذه الاشتراطات عليه هو أمر مستحيل. نريد أن نحمي الموقع، وأن نحمي المعلقين الذي يجبرنا القانون على تسليم البيانات الخاصة بهم، رغم وجود نص يمنح الصحفي الحق في الاحتفاظ بمصادره سرية".
لكن معظم المواقع عادت عن الحجب، فالحجب يؤثر سلباً وبشكل كبير على عدد مرتادي الموقع، في إعلام ميزته الأساسية هي أنه تفاعلي، كما يقول أبو بيدر، الذي عاد عن الحجب بعد أربعة أشهر تقريبا، ويقول إنه ينشر التعليقات بحذر شديد، لأنه يعرف أن هناك "تصيّداً". والمشكلة، كما يقول، هي تعميم المسؤولية "أنا قد أفتح الموقع صباحا لأكتشف أن الموظف المناوب في الليل قد نشر تعليقاً مخالفاً. حتى لو أزلته، سأظل شريكاً في المسؤولية".
"التنظيم" مسؤولية الجسم الصحفي لا الحكومة
الحديث عن دور الإعلام الإلكتروني في توعية المواطنين ورفع سقف حرية التعبير وتركيز الأضواء على قضايا فساد كبرى، وجميعها إنجازات تحسب بقوة له، يقترن دائماً بالإشارة إلى حالة الفوضى التي تسود المشهد الإعلامي الإلكتروني.
وهي فوضى، يشدد الطويسي، على أنها ليس حالة أردنية خاصة، فعالمياً، وفي كل مفاصل التحول سادت حالة من الفوضى، والغموض في الحدود التي يجب أن يقف عندها كل طرف، من إعلام وسلطة ومتلقين "حدث هذا عند نشوء الإذاعات، ثم تكرر مع ظهور القنوات التلفزيونية، وها هو يحدث في الصحافة الإلكترونية، وكان لكل مجتمع أدوات تعامله الخاصة مع هذه الفوضى، تبعاً لثقافته المجتمعية والقانونية".
أردنياً، فإن مشهد الإعلام الإلكتروني، كما يصفه الطويسي "بائس"؛ فقليلون هم من يعملون بمهنية، و"هناك دخول لمن هبّ ودبّ من غير المؤهلين، وهناك بشكل عام "تقاسم للأدوار، فبعض المواقع يدار من جهات رسمية، وبعضها من قوى سياسية، وأخرى من نخب متقاعدة تبحث لها عن دور. ولم تفتح أي جهة بعد ملف الإعلام والفساد، ذلك أن الإعلام الذي ينتقد الجميع، لديه حساسية كبيرة تجاه النقد".
توافقه الرأي الكاتبة في صحيفة العرب اليوم، لميس أندوني، التي تقول إن "أخطاء قاتلة" تُرتكب في الإعلام الأردني، وهذا لا ينطبق على الإعلام الإلكتروني فقط، بل ينطبق على المشهد الإعلامي الأردني بشكل عام "أكبر الأخطاء يتمثل في تدخل الأجهزة من خلال تمرير أخبار، الهدف منها تصفية حسابات بين فئات متنفذة. أي هو صراع بين مراكز قوى بأنواعها، سياسية ومالية وغيرها. وبعض وسائل الإعلام، وبعض الصحفيين يقبلون على أنفسهم أن يكونوا أدوات في هذا الصراع".
لكن في كل الأحوال لا يجب أن تكون هذه الفوضى، كما يشدد الطويسي، ذريعة للتدخل الحكومي في الإعلام، ليس فقط لأن تدخل الحكومة معركة خاسرة بالنسبة إليها، ولن تتمكن أبدا من إحكام سيطرتها على ما ينشر على الإنترنت في ظل التطوّر التكنولوجي الهائل والمتسارع، ولكن لأن التنظيم هو مسؤولية الجسم الصحفي نفسه، الذي "لم يقم إلى الآن بأي محاولة جادة لفعل ذلك، وهذا ما خلق الفجوة التي تنفذ الحكومة منها في كل مرة لفرض المزيد من القيود على حرية التعبير، وفي كل مرة، يكون ذلك بحجة حماية المهنية وحماية المجتمع".
أندوني تشير إلى آلية للتنظيم الذاتي موجودة فعلاً في الأردن، وهي ميثاق الشرف الصحفي الأردني الذي أقرته نقابة الصحفيين الأردنيين العام 2003، لكن الخلل هنا كما تقول، هو أن الميثاق ينطبق فقط على الصحفيين أعضاء النقابة، في حين أن عددا كبيراً من العاملين في المهنة، وبالتحديد في الإعلام الإلكتروني، هم من غير من منتسبي النقابة.
وحتى بالنسبة لأعضاء النقابة فإن الميثاق كما تقول أندوني "غير مفعّل، فمع كل الأخطاء التي تُرتكب في الإعلام، حتى من قِبل أعضاء في النقابة، فإن أحداً لا يذكر الميثاق، ولو كانت نقابة الصحفيين تمثل جسماُ نقابيا حقيقياً لأعلنت عن الأخطاء وعن أسماء مرتكبيها، ولكن هذا لا يحدث".
شقير، يشير إلى خلل آخر في ما يتعلق بالميثاق، وهو أنه ضُمِّن قانون المطبوعات والنشر، الذي ينص أحد بنوده على وجوب التزام الصحفي بـ"بأحكام ومبادئ ميثاق الشرف الصحفي الصادر عن النقابة"، وهذا كما يقول ينسف المبدأ الذي تقوم عليه مواثيق الشرف العالمية، وهو "الطوعية والإرادة الحرة للصحفيين. وعندما يصبح ميثاق الشرف جزءاً من القانون، الذي ينطوي على عقوبات، فإنه لا يعود ميثاق شرف بل يصبح قانوناً".
ولا يعني عدم تضمين مواثيق الشرف عقوبات، كما يلفت شقير، أن هذا يجعلها أقل تأثيراً، فعالمياً، لمواثيق الشرف سلطة كبيرة، والإعلان أن صحفيا ما خرق ميثاق الشرف الصحفي، يمثّل ضربة لمهنية ونزاهة أي صحفي أو وسيلة إعلام، تشكّل هي نفسها عقوبة كبيرة.
لكن هذا يحدث، كما تقول أندوني، عندما يولي الصحفيون ووسائل الإعلام المعايير المهنية الأهمية التي يجب أن تكون لها "وعندما يكون الصحفي، كما هو مفترض، فخوراً بنزاهته ومهنيته، فيشعر بالخجل عندما يُطعَن فيهما"، وتشير في هذا السياق، إلى نظام تتبعه صحف عالمية كبرى، وهو تعيين شخص تكون مهمته استقبال شكاوى القراء مما ينشر في الصحيفة، وإجراء تحقيق تُعلن في ما بعد نتائجه. ويترتب عليه، في حال ثبوت أن الصحفي أخطأ، إيقاع عقوبة عليه، وذلك حسب النظام الداخلي للصحيفة، وهناك الكثير من الأمثلة، كما تلفت، على صحفيين من صحف كبرى، أوقفوا عن العمل بعد ثبوت ارتكابهم لأخطاء مهنية متعمدة.
إذن، ما هو مطلوب، وفق أندوني، هو أن تنهض النقابة بدورها، وتقود عملية التنظيم الذاتي بإقرار ميثاق شرف جديد جامع لكل العاملين في المهنة، فهذا وحده ما سيحدّ من التدخّلات الحكومية في الإعلام، والتي تُوظّف لأغراض سياسية.
في نفس السياق، يشير الطويسي إلى آلية أخرى للتنظيم، متّبعةة عالمياً، وهي "مجلس" لاستقبال الشكاوى، وهو جهة تنشئها وسائل الإعلام بالتعاون مع جهات مدنية، ويكون مكوناً من أكاديميين وشخصيات محترمة محايدة وتحظى بتوافق واحترام مجتمعي، ويكون مهمتها استقبال الشكاوى من الطرفين: الجمهور ووسائل الإعلام، والتحكيم بينهما، فـ"صيغة كهذه ستحمي الجمهور من تطاول وسائل الإعلام عليه، وتحمي أيضاً وسائل الإعلام من تطاول الجمهور عليها".
يظل أن اعتماد مواثيق شرف أو أيّ من صيغ التنظيم الصحفي الذاتي، بدلاً من قانون المطبوعات والنشر، لا يعني بالطبع إعفاء الصحفيين من الملاحقة القانونية في حال تسببوا بضرر من أي نوع، فالمخالفات التي ترقى، كما يقول قطيشات، إلى مستوى الخروقات القانونية، فإن القواعد العامة التي تتضمنها القوانين السارية، ومنها قانون العقوبات، كافية جداً للتعامل معها، دون الحاجة إلى قانون خاص بالإعلام.
(مرصد الإعلام الأردني- إعداد : دلال سلامه)
وإلى أن أُعلنت هذه المواقع، في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه، خبر التوقف عن البناء دون إتمامه، فإنها لم تقدّم لقراّئها، وعلى امتداد متابعاتها العديدة للقضية، معلومات حقيقية، فهي لم تخاطب القائمين على البناء، ولم تستوضح من أبناء الطائفة الشيعية المقيمين في المنطقة علاقتهم به، ولم تحسم بالتالي على وجه اليقين طبيعة هذا المبنى، ملابسات إنشائه، أو ما سيحدث بعد التوقف عن البناء، بل كان كل ما تناقلته، وعلى امتداد أشهر، هو أقاويل وتكهنات، مصاغة بلغة تحريضية، كانت الأغلبية الساحقة من هذه المواقع تنقلها (copy & paste) عن بعضها البعض.
وفي وقت لم تقم فيه هذه المواقع بالحد الأدنى من الاستقصاء المطلوب، فإنها شرعت أبوابها أمام مئات التعليقات التي هاجمت الشيعة بالمطلق، واصفةَ إياهم بـ(الكلاب، الكفرة، الأنجاس، الحقراء)، وتعليقات طالب أصحابها بالذهاب إلى المبنى وهدمه "على رؤوس أصحابه"، وقال كثيرون صراحة إنه لا ينبغي انتظار التحرك الحكومي في هذا الشأن. بل أن موقعا نشر تعليقاً حرّض على "قتل السمسار ومقاول البناء" وآخر حرّض على وضع "عبوة ناسفة ليلا في المبنى وتفجيره".
ورغم أن صحيفة الغد، نشرت في آب (أغسطس) من نفس العام، تصريحاً لمدير أوقاف الكرك، نفى فيه أن يكون المبنى حسينية، بل هو فندق استثماري، يملكه مستثمر أردني، ويأتي بناؤه في إطار خطة شاملة لإعمار المقامات والأضرحة في جميع مناطق المملكة، تشمل إنشاء مرافق وخدمات في محيط هذه المقامات، تساهم في تنشيط السياحة الدينية فيها. نافياً أن يكون لمشروع الفندق علاقة بأفراد من الطائفة الشيعية يقيمون في المنطقة، ويملكون بالفعل منذ أكثر من عشر سنوات مبنى لاستضافة الزائرين من نفس الطائفة، إلاً أنه توضيح لم ينشره أيّ من هذه المواقع، التي واصلت حربها الإلكترونية ضد الشيعة.
الحالة السابقة هي مثال نموذجي على الطريقة التي تتعاطي بها الكثير من المواقع الإخبارية الإلكترونية مع مختلف القضايا، فرغم وجود العديد من المواقع التي تتعامل ضمن معايير مهنية وأخلاقية واضحة، إلاّ أن نسبة كبيرة جداً منها تنشر أخبارها دون استقصاء أو توثيق، وبلغة تحريضية، ثم تفتح الباب أمام الجماهير للهجوم، والهجوم المعاكس.
وإذا كان التحريض ضد الآخر في الحالة السابقة قد تمّ على خلفية دينية، فإن التعبير عن مشاعر الكراهية على خلفيات عشائرية ومناطقية وإقليمية تُفرد له أيضاً مساحة واسعة في ساحات الكثير من هذه المواقع، ومنها، على سبيل المثال، التعليقات التي تُنشر على أخبار المشاجرات الجامعية. وهي أخبار لا تختلف طريقة التعاطي معها عن خبر الحسينية سابق الذكر، فهنا أيضاً لا تُقدّم، في الغالب، معلومات مفيدة توضّح الملابسات المحددة لما حدث. لكن الأبواب تُفتح، مع ذلك، لنشر تعليقات تبلغ حدّاً من القسوة لا يمكن معه نشر نصوصها هنا.
في هذه التعليقات، يتبادل مناصرو طرفي كل مشاجرة، ذمّ عشيرة أومنطقة الطرف الآخر (حسب نوعية التحشيد)، والدعوات إلى "تحطيم" و"تكسير" و"دعس" الآخر. فمثلاً، وعلى خبر عن مشاجرة في جامعة اليرموك في تموز (يوليو) العام الماضي، نُشرت تعليقات تدعو إلى "حرق" و"احتلال" المدينة التي ينتمي إليها الطرف المقابل. بل إن أحد المواقع، وعلى خبر عن مشاجرة في جامعة الزيتونة نشر تعليقا اتهمت فيه معلقة نسبت نفسها إلى إحدى المناطق، بنات عشيرة معينة بأنهن "بلا شرف"، وحذرت من الزواج منهن. علماً بأن جميع ما سبق تضمن ذكراً صريحاً لأسماء المناطق والعشائر.
تفتيت آخر يمارسه الكثير من المواقع على أساس إقليمي. وهذا لا يحتاج إلى نوعية معينة من الأخبار، فالشحن الإقليمي الذي يفرّغ (أو يُخلق) على خبر مثل فض اعتصام 24 آذار العام 2011، هو ذاته على خبر عن فستان لديانا كزون، كما على خبر شتم وزيرة سابقة لمطلقي الأعيرة النارية في احتفالات التوجيهي، وعلى خبر إعلان جماعة الأخوان مقاطعتها الانتخابات النيابية، كما على خبر عن الكونفدرالية.
ومثل تعليقات العشائرية والمناطقية، فالتعليقات الإقليمية من الطرفين هي أيضاً قاسية ومسيئة، وتتمحور دائما حول نفس الثيمات: اتهامات من ينسبون أنفسهم إلى المكوّن الأردني الأصلي للمكوّن من أصل فلسطيني بالخيانة، العمالة، وبيع فلسطين، والدعوة إلى سحب جنسياتهم وطردهم، وهناك في المقابل، اتهامات من ينسبون أنفسهم للمكوّن فلسطيني الأصل للطرف الأول بالتخلف، الكسل، و"المعايرة" بأنهم ساهموا في بناء اقتصاد البلد. وفي الأثناء يتبادل الطرفان شتائم مثل حثالة، زعران، مقمّلين، رعيان، مقطّعين.
ولا يبدو أنه في بعض المواقع هناك حدّ لانحدار حسّ المسؤولية في التعاطي مع التعليقات، فقد نشر أحدها تعليقاً يدعو كاتبه من لديه أبناء صغار السن إلى منعهم من المشاركة في اعتصام 24 آذار، لأن لدى المعتصمين فتوى بأن ... (كلمة بذيئة) بالأولاد.
الفوضى ذريعة للتدخل الحكومي
مشهد كهذا، كان، كما يقول مدير دائرة المطبوعات فايز الشوابكة، هو ما دفع الحكومة إلى فرض المزيد من القيود على المواقع الإلكترونية، كان آخرها التعديلات التي أُقرّت في أيلول (سبتمبر) العام الماضي على قانون المطبوعات والنشر، فقد تجاوز، كما يقول " الكثير من المواقع الحدود في ما تنشره، وصارت تثير النعرات الجهوية والعشائرية، وبعضها يمسّ بالحياة الشخصية للأفراد من ذمّ وقذف وتشهير، بشكل بات يشكل تهديداً للمجتمع".
لكن صاحب موقع jo24، باسل العكور يردّ بأن كل هذا الكلام عن إثارة الكراهية والنعرات والمسّ بالوحدة الوطنية كان مجرد "ذريعة" استخدمتها الحكومة لفرض المزيد من القيود التي كان "الهدف الحقيقي من ورائها هو إنهاء حالة التفاعل الحقيقية التي خلقها الإعلام الإلكتروني، والوقوف في وجه تَشكّل رأي عام حول القضايا الكبري، وتوجيه الانتقادات لشخصيات فاسدة متنفذة".
يوافقه صاحب وكالة المحرر جهاد أبو بيدر، الذي نوه إلى أن الإعلام الإلكتروني تمكّن من تحقيق ما عجز عنه الإعلام الرسمي "المقيّد"، وهو "إيصال أصوات الناس إلى أصحاب القرار في البلد".
في حين يذكّر أستاذ الإعلام في جامعة الحسين بن طلال، ورئيس مركز دراسات التنمية فيها، الدكتور باسم الطويسي، بأنها ليست المرة الأولى التي تتخذ فيها الحكومة من الفوضى وتدني المهنية التي تسود الساحة الإعلامية مبررا للتدخل في الإعلام فقد "فعلت ذلك كثيراً خلال العقدين الماضيين، وما زلنا نذكر ما حدث مع الصحف الأسبوعية نهاية التسعينات. فالذي يحدث الآن مع المواقع الإلكترونية هو أمر مشابه، ولكن في مشهد أوسع وأكثر تعقيداً".
إذن، كان هذا "الانفلات" هو ما قالت الحكومة إنه دافعها لإقرار تعديلات العامين2011 و2012 على قانون المطبوعات والنشر، والتي كان من أبرزها معاملة المواقع الإلكترونية معاملة المطبوعة الصحفية، ما يعني أن كل الأحكام القانونية التي كانت تُطبق على المواد الصحفية في المطبوعات، أصبحت تُطبق على المواد الصحفية في المواقع الإلكترونية.
وهو تعديل، كان، قد مُهّد له بغطاء من "المشروعية"، كما يقول الصحفي في صحيفة العرب اليوم، يحيى شقير، عندما أصدر الديوان الخاص بتفسير القوانين قراره القاضي بأن كلمة "مطبوعة" في قانون المطبوعات والنشر، تنطبق على المواقع الإلكترونية، ومن ثم أيده في هذا التفسير قرار لمحكمة التمييز.
تلقائياً، مُنِعت المواقع، وفق هذا التعديل، من نشر أي مادة صحفية تشتمل على إساءات دينية، أو تثير النعرات المذهبية أو العنصرية، أو تحرّض على العنف، أو تثير مشاعر الفرقة بين المواطنين، أو تمس بالحياة الشخصية للأفراد، أو تتضمن ذمّاً أو قدحاً أو تحقيراً لهم، أو تتضمن معلومات أو إشاعات كاذبة بحقهم.
كما أُلزِمت بأن ُتحقّق في عرضها لموادها الصحفية معايير الدقة، الموضوعية، الحياد، النزاهة، والتوازن. ووفق هذه التعديلات، أصبحت التعليقات جزءاً من المادة الصحفية، تنطبق عليها ذات الأحكام، ويتحمل مسؤوليتها كاتبها ومالك الموقع ورئيس تحريره.
ولتمكين الجهات المختصة من تعقّب مرسلي التعليقات في حال رفع دعوى، أُلزِمت المواقع بالاحتفاظ بسجل للتعليقات مدته 6 أشهر، يتضمن جميع المعلومات الخاصة بالمعلقين. وتراوحت، بشكل عام، الغرامات على مخالفة أحكام القانون ما بين خمسمئة إلى عشرين ألف دينار.
وأُلزِمت المواقع بالتالي بالترخيص، ومُنح مدير دائرة المطبوعات صلاحية حجب غير المرخص منها. ووفق الشوابكة فإنه من بين ما يقارب 500 موقع إلكتروني أردني، هناك 100 قامت بالترخيص فعلاً.
وكان هذا التعديل المتعلق بإلزامية ترخيص المواقع، وصلاحية حجبها، من أكثر التعديلات التي جوبهت بالرفض من أصحاب مواقع وناشطين، فطالبت "تنسيقية المواقع الإلكترونية"، وهي لجنة مكونة من 20 موقعاً مناهضاً للقانون، في بيان لها أصدرته عشية إقرار التعديلات باعتماد مبدأ "الإخطار" الذي تعمل به الدول الديمقراطية، وبمقتضاه يقوم الموقع بالتسجيل لدى الجهات المختصة، في إجراء يعني "إبلاغ" الجهات المعنية بتأسيس الموقع، بما يضمن ملاحقته قضائياً في حال خَرَق القانون، ولكنه لا يشترط الموافقة الحكومية المسبقة على هذا التأسيس.
القانون وإعلام "مطاردة الساحرات"
المفارقة، هي أنه، ومع أن معاملة الموقع الإلكتروني معاملة المطبوعة الصحفية صارت تعني تجريمه إن نشر مواد أو تعليقات تنطوي على ذمّ أو قدح أو تحريض على العنف والكراهية، إلا أن الملاحظ، وهذا ما يلفت إليه أبو بيدر، هو أن القانون لم ينعكس على الأداء الإعلامي للمواقع التي تمثل الانتهاكات سابقة الذكر طابعاً لأدائها، ما يدلل كما يقول على "عدم وجود إرادة حقيقية لتنظيف الساحة".
كلام أبو بيدر يؤكده المشهد الحالي للتعليقات، والتي لا يبدو للراصد أن القانون قد غيّر فيه فعلاً، فانفلات التعليقات، الذي يتجاوز انتهاك القيم الأخلاقية الاجتماعية، إلى خروقات فجة للقانون ما زال مستمراً، حتى في مواقع مرخصة، ومن أمثلتها التعليقات على مشاجرة جامعة مؤتة التي وقعت في آذار (مارس) الماضي.
فقد سمحت عدة مواقع للمتشاجرين بأن ينقلوا المشاجرة إلى ساحة التعليقات، فنجد معلقاً ينسب نفسه إلى منطقة يتوعّد أبناء المنطقة الأخرى بـ"هجوم كاسح" وبأنهم "يوم الأحد" المقبل، وهو بالمناسبة اليوم الذي وقعت فيه مشاجرة مؤتة المسلحة، يتوعّدهم بأنهم سوف يرون الأسلحة بعيونهم، ليرد عليه ابن تلك المنطقة بأنهم سيحوّلونها إلى "يوم قيامة"، فيعود معلق آخر من المنطقة الأولى ويصف أبناء المنطقة الثانية القادمين للدراسة في الجامعة في منطقتهم بأنهم "ضيف حامل سيف".
أما التفتيت الإقليمي، فإنه ما زال حاضراً بقوة، ويمكن قراءة التعليقات على الأخبار العديدة التي تناولت موضوع الكونفدرالية خلال الأشهر الأخيرة، زيارة النائب محمد العشا إلى إسرائيل، وطبعا ديانا كرزون. والقاسم المشترك هنا، هو أن الأغلبية الساحقة من التعليقات لا تناقش نهائياً الأفكار المطروحة في الخبر، بل تندفع إلى الهجوم الشخصي، الذي يكون فيه بطل الخبر مجرد وسيلة للنيل من كامل المكوّن الذي ينتمي إليه، ليستدعي ذلك هجوماً مضاداً.
وواحدة من أسوأ الانتهاكات الأخيرة، كانت تلك التي وقعت على خمسة طلبة أُلقي القبض عليهم، في آذار (مارس) الماضي في إطار ما سمي بقضية "عبدة الشيطان" في جامعة آل البيت، فبعد ساعات من القبض عليهم، قام الكثير من المواقع بتثبيت التهمة عليهم، عندما نشرت صورهم تحت عنوان "شاهد صور عبدة الشيطان"، وقد حدث هذا، ليس فقط قبل أن يصدر حكم قضائي، ولكن حتى قبل أن يُوجَّه إليهم أي اتهام رسمي. كما نُشرت تعليقات طالبت بقتلهم وحرقهم في الساحات العامة، وطالب أحدها بوضعهم في براميل من القطران المغلي في ساحة المسجد الحسيني. كل هذا في مشهد مرعب وصفه الكاتب في صحيفة الدستور باتر وردم بـ"إعلام مطاردة الساحرات". علماً بأن محكمة أمن الدولة، التي أُحيل إليها الطلبة، أصدرت في أيار (مايو) الجاري قراراً ببراءتهم، إذ أن كلّ ما كان ضد هؤلاء الشبان الخمسة، ووفق شهود النيابة العامة، هو ارتداؤهم ملابس سوداء، وسماعهم لموسيقى غربية، وتصفيفهم لشعورهم بطريقة "غريبة".
في نفس السياق، نال خبر اقتحام مجموعة أشخاص لمنزل أحد أتباع الطائفة الشيعية في بلدة المزار الجنوبي وإضرام النيران فيه، في أيار (مايو) الجاري، نال في ساعات عشرات التعليقات التي حرّض أصحابها صراحة على قتل ساكني المنزل، وتعليقات حيّا أصحابها من قام بهذا االفعل بعبارات مثل "عفية عليهم" "الله حَيهم".
ومع ذلك فإن هناك، وفق مصدر في دائرة المطبوعات والنشر فضل عدم ذكر اسمه، "مئات" القضايا المرفوعة على مواقع إخبارية.
فهل يعتبر هذا الكم من القضايا، التي تُحرك من قبل الدائرة عند رصدها لأي انتهاك، أو من المتضررين الذي يلجؤون إلى القضاء، مؤشراً على جدية في محاربة الانتهاكات؟
الجزم بذلك يتطلب معرفة العدد الدقيق للقضايا المرفوعة، وتحليل نوعية الجرم موضوع الاتهام، وأيضا معرفة نوعية المواقع الإلكترونية التي قوضيت، وهي معلومات لم تتمكن كاتبة التقرير من الحصول عليها، لكن المحامي المتخصص في قضايا الحريات الإعلامية، محمد قطيشات، والذي يقول إن لديه في مكتبه وحده أكثر من 120 قضية مرفوعة على مواقع إلكترونية، أكد أنه، ومن خلال القضايا التي يتابعها، فإنه يلاحظ أن هناك فعلاً "انتقائية" في رفع الدعاوي، وأن هناك مواقع معينة مستهدفة من قبل الحكومة، وأن الاستهداف يكون سببه أحياناً "شخص مالك الموقع أو توجهاته، أو قد يكون السبب هو الشخصية أو المؤسسة التي مسّتها مادة صحفية أو تعليق نشره الموقع".
القانون .. أداة للقمع
قد لا يبدو لمن يقرأ بنود قانون المطبوعات والنشر أنه يمكن أن يمثل قيداً على المواقع التي تلتزم بالمعايير المهنية والأخلاقية، وقد يتساءل كثيرون عن الخطأ في إقرار قانون يجرّم نشر الإساءات التي سبق ذكرها من ذمّ وقدح وغيرها.
لكن الحال ليس كذلك كما يقول قطيشات، فالقانون ينطوي على ثغرات تجعل منه "سيفاً مشهراً" في وجوه الجميع دون استثناء.
أبرز الثغرات كما يقول هي العبارات الفضفاضة التي ليس لها تفسير محدد، ومنها على سبيل المثال إلزام الموقع بـ"تحري الحقيقة والالتزام بالحيدة والموضوعية في عرض المادة الصحفية، والامتناع عن نشر ما يتعارض مع مبادئ الحرية والمسؤولية الوطنية وحقوق الإنسان وقيم الأمة العربية والإسلامية". وأيضا البند الذي يشترط "التوازن والموضوعية والنزاهة في عرض المادة الصحفية".
فهذه عبارات يقول قطيشات إنها "تصلح لميثاق شرف أو مدونة سلوك وليس لتشريع قانوني؛ إذ لا معايير محددة لتفسيرها، ويمكن أن يختلف هذا التفسير من قاض إلى آخر، ويمكن أن يكون أحد هذه التفسيرات مختلفاً عما قصده المشرع، فيجرم صحفي على فعل لم يكن في ذهن المشرّع، ولا يلام القضاة هنا لأن النص واسع جداً".
إضافة إلى ذلك يتساءل قطيشات عن المغزى من عدم التفرقة بين المواد الصحفية عند اشتراط الدقة والموضوعية والحياد والنزاهة "كيف نطلب من مقال رأي أن يكون محايداً، وكيف يمكن لخبر أن يكون موضوعياً، فهو إما صحيح أو غير صحيح، وكيف نحكم على كاريكاتير بأنه نزيه مثلا؟".
أما عبارة "إشاعات كاذبة"، فهي أيضاً، كما يقول، غير قابلة للتعريف، فالأصل أن "هناك معلومات، إما أن تكون صحيحة أو كاذبة، فمن يحدد أن معلومة ما هي إشاعة؟ هل إذا أطلقها شخص واحد، أم إذا أطلقها مئة مثلا؟"
من هنا، تنص القاعدة الفقهية والقانونية، كما يشدد قطيشات، على أنه "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني واضح محدد الضابط والمعيار"، أما العبارات المطاطة كهذه فهي "مخالفة دستورية، ومخالفة للمعايير الدولية في حقوق الإنسان".
في ذات السياق يلفت العكور إلى النص الذي يمنع نشر تعليقات لا يخص مضمونها موضوع المادة الصحفية، ويتساءل "قارئ وضع تعليقا موضوعه ارتفاع أسعار المحروقات على مقال عن الربيع مثلا. ولم يتضمن تعليقه أي إساءة. ما هو المنطق في اعتباره مخالفاً؟".
الشوابكة، يؤكّد أن هذا النص يخص فقط التعليقات التي تنطوي على جريمة، إلا أن قطيشات يوضح أن النص هنا واضح، وهو "يعني وبشكل مطلق منع نشر أي تعليق لا يخص مضمونه موضوع المادة الصحفية، حتى لو لم يكن مسيئاً"، فالنص القانوني "يفسر على إطلاقه، وليس وفقاً لآراء ومواقف وتوجهات صاحب القرار السياسي، ولا وفقاً لتحليل الموظف في السلطة التنفيذية".
نلاحظ هنا أن إشكالية مشابهة تتكرر في تعريف الموقع الإلكتروني الذي ينطبق عليه القانون، ففي حين يؤكد الشوابكة أن القانون لن يطبّق على المدونات الشخصية، فيس بوك وتويتر، لأن القانون حدد فقط المواقع الإلكترونية المفتوحة للعموم والتي تنشر ما يتعلق بالشؤون الداخلية والخارجية للمملكة، وهذا لا ينطبق، كما يقول، على المدونات وفيس بوك وتويتر، فهي "مواقع شخصية، ليست مفتوحة للعموم، ولن يطلع عليها إلا من يسمح له صاحبها بالدخول".
لكن الواقع هو أن المدونات الشخصية، فيس بوك وتويتر هي مواقع مجهزة فنياً بحيث يختار صاحبها أن يجعلها خاصة أو مفتوحة للعموم كأي موقع إلكتروني، وهناك عدد كبير من الصحفيين والناشطين ممن يملكون مواقع من هذا النوع ويفتحونها للعموم، وينشرون فيها أخبار تتعلق بشؤون الأردن، فهل يجعلها هذا مشمولة بالقانون؟
وفق قطيشات، فالإجابة هي نعم، ذلك أنه وفق التعريف الوارد في القانون، فإن القانون ينطبق على هذه المواقع وعلى كل موقع إلكتروني بالمطلق "وهذا يشمل حتى غوغول وياهو وغيرها، فهذه أيضا مفتوحة للعموم وتنشر أخبار وتعليقات تخص الأردن،وهي إذا ما طُبّق القانون حرفياً، مطالبة أيضاً بالترخيص ، ويملك مدير دائرة المطبوعات صلاحية حجبها إذا خالفت".
إن إشكاليات كهذه سببها كما يقول قطيشات، هو أن قانوناً يخص جرائم تُرتكب بواسطة الإنترنت، تمت صياغته دون الاستعانة بخبراء في الإنترنت.
إذن، نحن أمام قانون بعبارات فضفاضة، يحمل كل منها طيفاً واسعاً من التأويلات، ومع ما يؤشر على وجود ما سبقت الإشارة إليه من انتقائية واستهداف، فإن هذا يجعل من القانون كما يقول قطيشات "سيفا مشهراً" في وجوه الجميع، وجاهزا للاستعمال في أي وقت "وفي اللحظة التي تقرر الحكومة فيها النيل من أي موقع، فإنها ستطبق القانون بحذافيره".
إن التطبيق "الانتقائي" للقانون هو مثال على استخدام الحكومة للقانون كأداة لقمع معارضيها، كما يقول شقير، ففي حين أن المبدأ الذي يجب أن يطبق هو مبدأ سيادة القانون (rule of law)، والذي يعني أن القانون فوق الجميع، وهذا يشمل الحكومة نفسها، فإن ما هو مطبّق لدينا هو مبدأ الحكم بالقانون (rule by law)، ويعني هذا أن القانون يصبح أداة قمع مغلّفة بالمشروعية في يد الحكومة، تختار تفعليله في حالة المواقع التي تعارضها، وتجمده مع المواقع التي تسير على هواها.
هذا خلق، كما يقول أصحاب مواقع، حالة من الخوف والترقب، دفع العشرات منها إلى حجب التعليقات، احتجاجاً على القانون، وحماية للموقع والمعلقين، كما يقول العكور ، الذي ما زال موقعه يحجب التعليقات"أي موقع يحظى بنسبة مشاهدة جيدة، تصله آلاف التعليقات يوميا، ومراقبة كل تعليق للتأكد من انطباق جميع هذه الاشتراطات عليه هو أمر مستحيل. نريد أن نحمي الموقع، وأن نحمي المعلقين الذي يجبرنا القانون على تسليم البيانات الخاصة بهم، رغم وجود نص يمنح الصحفي الحق في الاحتفاظ بمصادره سرية".
لكن معظم المواقع عادت عن الحجب، فالحجب يؤثر سلباً وبشكل كبير على عدد مرتادي الموقع، في إعلام ميزته الأساسية هي أنه تفاعلي، كما يقول أبو بيدر، الذي عاد عن الحجب بعد أربعة أشهر تقريبا، ويقول إنه ينشر التعليقات بحذر شديد، لأنه يعرف أن هناك "تصيّداً". والمشكلة، كما يقول، هي تعميم المسؤولية "أنا قد أفتح الموقع صباحا لأكتشف أن الموظف المناوب في الليل قد نشر تعليقاً مخالفاً. حتى لو أزلته، سأظل شريكاً في المسؤولية".
"التنظيم" مسؤولية الجسم الصحفي لا الحكومة
الحديث عن دور الإعلام الإلكتروني في توعية المواطنين ورفع سقف حرية التعبير وتركيز الأضواء على قضايا فساد كبرى، وجميعها إنجازات تحسب بقوة له، يقترن دائماً بالإشارة إلى حالة الفوضى التي تسود المشهد الإعلامي الإلكتروني.
وهي فوضى، يشدد الطويسي، على أنها ليس حالة أردنية خاصة، فعالمياً، وفي كل مفاصل التحول سادت حالة من الفوضى، والغموض في الحدود التي يجب أن يقف عندها كل طرف، من إعلام وسلطة ومتلقين "حدث هذا عند نشوء الإذاعات، ثم تكرر مع ظهور القنوات التلفزيونية، وها هو يحدث في الصحافة الإلكترونية، وكان لكل مجتمع أدوات تعامله الخاصة مع هذه الفوضى، تبعاً لثقافته المجتمعية والقانونية".
أردنياً، فإن مشهد الإعلام الإلكتروني، كما يصفه الطويسي "بائس"؛ فقليلون هم من يعملون بمهنية، و"هناك دخول لمن هبّ ودبّ من غير المؤهلين، وهناك بشكل عام "تقاسم للأدوار، فبعض المواقع يدار من جهات رسمية، وبعضها من قوى سياسية، وأخرى من نخب متقاعدة تبحث لها عن دور. ولم تفتح أي جهة بعد ملف الإعلام والفساد، ذلك أن الإعلام الذي ينتقد الجميع، لديه حساسية كبيرة تجاه النقد".
توافقه الرأي الكاتبة في صحيفة العرب اليوم، لميس أندوني، التي تقول إن "أخطاء قاتلة" تُرتكب في الإعلام الأردني، وهذا لا ينطبق على الإعلام الإلكتروني فقط، بل ينطبق على المشهد الإعلامي الأردني بشكل عام "أكبر الأخطاء يتمثل في تدخل الأجهزة من خلال تمرير أخبار، الهدف منها تصفية حسابات بين فئات متنفذة. أي هو صراع بين مراكز قوى بأنواعها، سياسية ومالية وغيرها. وبعض وسائل الإعلام، وبعض الصحفيين يقبلون على أنفسهم أن يكونوا أدوات في هذا الصراع".
لكن في كل الأحوال لا يجب أن تكون هذه الفوضى، كما يشدد الطويسي، ذريعة للتدخل الحكومي في الإعلام، ليس فقط لأن تدخل الحكومة معركة خاسرة بالنسبة إليها، ولن تتمكن أبدا من إحكام سيطرتها على ما ينشر على الإنترنت في ظل التطوّر التكنولوجي الهائل والمتسارع، ولكن لأن التنظيم هو مسؤولية الجسم الصحفي نفسه، الذي "لم يقم إلى الآن بأي محاولة جادة لفعل ذلك، وهذا ما خلق الفجوة التي تنفذ الحكومة منها في كل مرة لفرض المزيد من القيود على حرية التعبير، وفي كل مرة، يكون ذلك بحجة حماية المهنية وحماية المجتمع".
أندوني تشير إلى آلية للتنظيم الذاتي موجودة فعلاً في الأردن، وهي ميثاق الشرف الصحفي الأردني الذي أقرته نقابة الصحفيين الأردنيين العام 2003، لكن الخلل هنا كما تقول، هو أن الميثاق ينطبق فقط على الصحفيين أعضاء النقابة، في حين أن عددا كبيراً من العاملين في المهنة، وبالتحديد في الإعلام الإلكتروني، هم من غير من منتسبي النقابة.
وحتى بالنسبة لأعضاء النقابة فإن الميثاق كما تقول أندوني "غير مفعّل، فمع كل الأخطاء التي تُرتكب في الإعلام، حتى من قِبل أعضاء في النقابة، فإن أحداً لا يذكر الميثاق، ولو كانت نقابة الصحفيين تمثل جسماُ نقابيا حقيقياً لأعلنت عن الأخطاء وعن أسماء مرتكبيها، ولكن هذا لا يحدث".
شقير، يشير إلى خلل آخر في ما يتعلق بالميثاق، وهو أنه ضُمِّن قانون المطبوعات والنشر، الذي ينص أحد بنوده على وجوب التزام الصحفي بـ"بأحكام ومبادئ ميثاق الشرف الصحفي الصادر عن النقابة"، وهذا كما يقول ينسف المبدأ الذي تقوم عليه مواثيق الشرف العالمية، وهو "الطوعية والإرادة الحرة للصحفيين. وعندما يصبح ميثاق الشرف جزءاً من القانون، الذي ينطوي على عقوبات، فإنه لا يعود ميثاق شرف بل يصبح قانوناً".
ولا يعني عدم تضمين مواثيق الشرف عقوبات، كما يلفت شقير، أن هذا يجعلها أقل تأثيراً، فعالمياً، لمواثيق الشرف سلطة كبيرة، والإعلان أن صحفيا ما خرق ميثاق الشرف الصحفي، يمثّل ضربة لمهنية ونزاهة أي صحفي أو وسيلة إعلام، تشكّل هي نفسها عقوبة كبيرة.
لكن هذا يحدث، كما تقول أندوني، عندما يولي الصحفيون ووسائل الإعلام المعايير المهنية الأهمية التي يجب أن تكون لها "وعندما يكون الصحفي، كما هو مفترض، فخوراً بنزاهته ومهنيته، فيشعر بالخجل عندما يُطعَن فيهما"، وتشير في هذا السياق، إلى نظام تتبعه صحف عالمية كبرى، وهو تعيين شخص تكون مهمته استقبال شكاوى القراء مما ينشر في الصحيفة، وإجراء تحقيق تُعلن في ما بعد نتائجه. ويترتب عليه، في حال ثبوت أن الصحفي أخطأ، إيقاع عقوبة عليه، وذلك حسب النظام الداخلي للصحيفة، وهناك الكثير من الأمثلة، كما تلفت، على صحفيين من صحف كبرى، أوقفوا عن العمل بعد ثبوت ارتكابهم لأخطاء مهنية متعمدة.
إذن، ما هو مطلوب، وفق أندوني، هو أن تنهض النقابة بدورها، وتقود عملية التنظيم الذاتي بإقرار ميثاق شرف جديد جامع لكل العاملين في المهنة، فهذا وحده ما سيحدّ من التدخّلات الحكومية في الإعلام، والتي تُوظّف لأغراض سياسية.
في نفس السياق، يشير الطويسي إلى آلية أخرى للتنظيم، متّبعةة عالمياً، وهي "مجلس" لاستقبال الشكاوى، وهو جهة تنشئها وسائل الإعلام بالتعاون مع جهات مدنية، ويكون مكوناً من أكاديميين وشخصيات محترمة محايدة وتحظى بتوافق واحترام مجتمعي، ويكون مهمتها استقبال الشكاوى من الطرفين: الجمهور ووسائل الإعلام، والتحكيم بينهما، فـ"صيغة كهذه ستحمي الجمهور من تطاول وسائل الإعلام عليه، وتحمي أيضاً وسائل الإعلام من تطاول الجمهور عليها".
يظل أن اعتماد مواثيق شرف أو أيّ من صيغ التنظيم الصحفي الذاتي، بدلاً من قانون المطبوعات والنشر، لا يعني بالطبع إعفاء الصحفيين من الملاحقة القانونية في حال تسببوا بضرر من أي نوع، فالمخالفات التي ترقى، كما يقول قطيشات، إلى مستوى الخروقات القانونية، فإن القواعد العامة التي تتضمنها القوانين السارية، ومنها قانون العقوبات، كافية جداً للتعامل معها، دون الحاجة إلى قانون خاص بالإعلام.
(مرصد الإعلام الأردني- إعداد : دلال سلامه)