jo24_banner
jo24_banner

«مقياس حمّاد للرجولة»

عريب الرنتاوي
جو 24 : لا يكاد يمضي أسبوع واحد، دون أن يصلني مشروع بيان أو “عريضة”، يقترح مرسلوها من المثقفين والناشطين الفلسطينيين في قطاع، توقيعها من عدد من المثقفين والكتاب والناشطين الفلسطينيين في الداخل والشتات..أما القاسم المشترك لهذه البيانات والعرائض، فغالباً ما يتركز حول انتهاكات حقوق الإنسان في القطاع من قبل حكومة حماس أو بعض أجهزتها وأذرعها وكتائبها.

آخر العرائض التي وقعتها، استنكرت “استدعاء” كاتب ومثقف وأكاديمي للتحقيق لدى أجهزة حماس الأمنية..الدكتور إبراهيم أبراش، ليس إرهابياً، ولا ناشطاً سلفياً متهماً بخطف جنود مصريين أو إطلاق النار عليهم في قطاع غزة، وهو ليس من العاملين لتخريب اتفاق التهدئة بين حماس وإسرائيل..الدكتور أبراش يُستدعى للتحقيق فيما يقول ويكتب، ولهذا استحق استدعاؤه، غضبنا وتنديدنا واستنكارنا.

قبل أيام، كان وزير داخلية الحكومة المقالة، “الجنرال فتحي حمّاد”، يلقي كلمة في حفل تخريج دفعة من شرطة حماس..تحدث بانفعال ونزق، حتى كادت عروقه تنفجر لفرط غضبه، على انخفاض “منسوب الرجولة” في قطاع غزة، وهو أصدر تعليماته لرجال الشرطة بمراقبة هذا “المنسوب” ارتفاعاً وانخفاضاً، وملاحقة كل من “تسوّل له نفسه” عناء العبث برجولة الغزيين، ممن قرروا إطالة شعورهم أو ارتداء “السراويل الساحلة”، أو غير ذلك مما يعتبره الرجل مسّا برجولته..ولا ندري إن كان الوزير يمتلك مقياساً محدداً للرجولة، وما إذا كان من اللائق أن نقترح عليه مقياساً للفحولة يحمل اسمه: “مقياس حمّاد للفحولة”، على طريقة ريختر ومقياسه الشهير.

وأبشع ما ورد على لسان الوزير استشهاده بالآية كريمة: “ومن المؤمنين رجالٌ..”، في سياق تبريره لحملة قياس رجولة الغزيين، مفترضاً أن الآية وضعت “تصنفيات محددة” للرجولة، كتلك التي جاهر بها، ومخرجاً في الوقت نفسه، النساء من دائرة “صدقوا ما عاهدوا الله عليه”..انظروا كيف يفضي ضيق الأفق، إلى تضييق المعاني الأوسع، حتى لأكثر النصوص الدينية انتشاراً، وأيسرها على الفهم والتوافق والإجماع.

قبل حملة “مراقبة منسوب الرجولة”، أو تمهيداً لها، كانت حماس أطلقت حملة “ارفع سروالك”، طاردت في سياقها شبّانا غزيين يرتدون “البنطلونات الساحلة”، حتى أنها مزّقت عليهم ملابسهم في الأزقة والشوارع، وبصورة مهينة ومذلة، ولا تليق بحقوق أبناء القطاع وكرماتهم وحرياتهم.

قبلها، كانت شرطة حماس، تطارد أصحاب “الشعور المسترسلة”، تشبهاً بالنساء..ألقت القبض عليهم في الشوارع، ومن كان حظه منهم عاثراً، وقع بين براثن “المطاوعة” الجدد..وتكبد الإذلال والإهانة والضرب والرفس وأقذع العبارات، فضلاً عن “نصف شعر رأسه”، حيث كان النصف الآخر يترك على حاله، إمعاناً في التشويه والإذلال..ولم يبق سوى أن تكرس شرطة حماس ومطاوعتها، يوم الاثنين من كل أسبوع (اليوم التقليدي لعطلة الحلاقين في بلادنا)، لمطاردة الحلاقين وأصحاب الصالونات، تماماً مثلما كانت تفعل طالبان في كابول وقندهار.

وانظروا في الحملات التي تشنها بعض أجنحة حماس وتياراتها، ضد الشاب الغزي محمد عساف، الذي لمع نجمه في برنامج “آراب أيدول”، بعد أن غنى لفلسطين وأعاد الاعتبار للميجنا والعتابا والمواويل الشعبية الفلسطينية، فكان سفيراً لبلاده و”قطاعه” إلى عوالم وفضاءات، لم يتعلم فقهاء الكتاتيب فنون التعامل معها والوصول إليها، بعد أن فقدوا نعمة البصر والبصيرة.

هو غيض من فيض الممارسات اللا أخلاقية (والمفتقرة للرجولة على حد تعبير ناشطة غزّية) التي تمارسها شرطة حماس بحق أبناء شعبها..هي نماذج للانتهاكات الصارخة لحرية وكرامة وحقوق المواطن الفلسطيني..هي “بروفات” لحكم الشرع والشريعة، كما تقرأه بعض أكثر تيارات حماس، غلواً وتطرفاً..لقد بدأوا بالفصل في المدارس بين الجنسين، و”تحجيب” الطالبات والمدرسات والمحاميات، و”تنظيف” الشواطئ من الزائرين الذين لم يتمكنوا من حمل “عقود نكاحهم” معهم أثناء تجولاهم على الشواطئ وفي المقاهي..أية عقلية هذه؟..أي نظام يُراد فرضه على شعبنا؟..أية هدية تقدمها حماس للإخوان المسلمين الذي مازالوا بعيدين عن السلطة؟..من ذا الذي يريد إعادة هذا النموذج؟..من ذا الذي يريد طالبان جديدة فوق رأسه؟..من ذا الذي سيصدق “خطاب الحقوق والحريات” للمعارضات الإخوانية والإسلامية عموماً، وهي التي تثبت صبح مساء، بأنها صاحبة خطاب مزدوج، واحد للمعارضة والثاني للسلطة؟.

شعب غزة، مثل شعب مصر وتونس، لن يرضخ لهذه الأحكام “البدائية” و”المتخلفة”..لن يرتضي العيش تحت سيف الابتزاز والتكفير..وها هو بمثقفيه وحقوقيه ونشطائه وجماهيره، يقاوم الظلام والظلامية، حتى أن بعض تيارات حماس وأجنحتها، بدأ يعبر علناً عن غضبه لهذه الممارسات الشاذة، ويدرجها خارج القانون وبالضد منه...شعب غزة، سيتصدر لهذه الموجة الظلامية، من دون خشية من اتهام أو ابتزاز، فقد أظهر القوم شغفاً بالسلطة والتسلط، أكبر من شغفهم بالمقاومة وتعلقهم بها..ثم من قال أن المقاومة تتعارض من إطالة الشعر أو تقصير السروال..من قال أن المقاومة لا تخاض إلا بالدشاديش واللحى المسترسلة..من قال أنهم مسلمون وأن الآخرين “كفار قريش”، من قال أن إنهم على هدى وأن الآخرين على ضلال؟.

من مصلحة حماس (ومن مصلحتنا)، أن تتوقف عن هذه الممارسات، وأن تحيل وزير داخليتها إلى “التقاعد المتأخر على أية حال”، وأن توفر ضمانات حرية الرأي والتعبير والحريات الشخصية والعامة..فالشعب الفلسطيني ظل على تعدديته لمئات السنين، وسيحفظها، وهو ليس بحاجة لفقهاء الظلام، لكي يرشدوه سواء السبيل.


(الدستور)
تابعو الأردن 24 على google news