خارطة طريق.. صفقة غاز ولا تفاصيل وطن
جو 24 :
كتب تامر خورما -
في السياسة تبرز أهميّة كثير من المهارات والفنون، حيث تحتاج لتكامل جملة من المؤهّلات والعوامل لتتمكّن من فرض نفسك في مثل هذا الميدان، فلا يكفي لتكون سياسيّا ناجحا امتلاكك فقط لكاريزما "شعبويّة" -وإن كان هذا مفيدا في كثير من الأحيان- ولا خبرة أكاديميّة واسعة في العلوم الإنسانيّة والإجتماعيّة، أو فراسة تمكّنك من قراءة الآخرين أو تنبّؤ خفايا قادمات الأيّام..
على أهميّة كلّ ما سبق، تلحّ حاجة عامل حاسم، باعتباره المحدّد الرئيسي لاستحقاقك لقب "السياسي الناجح".. هذا العامل قد تسمّيه بالدعاية أو الديماغوجيا، أو لنقل بكلّ بساطة فنّ التسويق. جوزيف جوبلز، وزير الدعاية السياسيّة في عهد أدولف هتلر، يحدّد ما وصفه بالدعاية الناجحة بالقول إنّها يجب أن تحتوي على نقاط قليلة، وتعتمد التكرار.
والآن.. دعنا نختار من بين المصطلحات والتعابير المنتشرة في ميدان السياسة الشرق أوسطيّة ما يمكن تلخيصه بنقاط لافتة، يمكن لتكرار ذكرها، عبر نسق ما، تسويق أيّ سياسي أردني لدى الرأي العام، والترويج له على أنّه الجهبذ المرّ، الذي ستتحقّق على يديه كلّ المصالح الوطنيّة العليا.
عندما نتحدّث عن الشرق الأوسط فإن أوّل مسألة تفرض نفسها هي القضيّة الفلسطينيّة، والصراع مع العدو الصهيوني.. إذا عليك أيّها السياسي المرشّح للنجاح اختيار مصطلحاتك ضمن هذا الإطار.. هنا يمكنك اختيار كلمات من قبيل: ثورة، مقاومة، صراع، وتحرير.. وتضعها ضمن صيغة تكرار مدروس يحقّق لك شعبويّة تضمن بقاءك في قلوب الجماهير.. ولكن..
نعلم أنّه من الصعب -مع الأسف- على ساسة اليوم استخدام مثل هذه المفردات، التي تدخل في قائمة "المحظورات" في ظلّ الإصرار العربي الرسميّ على التحدّث فقط بمفردات يستسيغها الغرب، والمستخرجة من قواميس "الدبلوماسيّة" دون غيرها.. بمعنى آخر أن هدف أيّ سياسي عربي هو أن يكون مقبولا "دوليّا" قبل السماح لنفسه بتسويق ذاته على المستوى المحلّي أو الإقليمي.. فما العمل؟
في الأردن تمّ اكتشاف فنّ من أبرع الفنون السياسيّة، وهو لعبة إمساك العصا من المنتصف.. إذا بسيطة، يمكننا تسويق أيّ سياسي أردني في وزارة الخارجيّة عبر جعله يمسك العصا من المنتصف الفاصل بين المقبول دوليّا، والمطلوب شعبيّا.. كيف؟ يمكن استبدال المصطلحات السابقة -غير المرغوبة كالثورة والتحرير- بمصطلحات جديدة و"عصريّة" كمصطلح "الشرعيّة الدوليّة"، و"الحلّ العادل"، و"السلام الشامل"!
والآن.. قم عزيزي السياسي بتكرار هذه المصطلحات بإيقاع منتظم: نريد حلا عادلا للقضيّة الفلسطينيّة! المستوطنات مخالفة للقانون الدولي! الدولة الفلسطينيّة المستقلّة هي السبيل الوحيد لتحقيق السلام العادل والشامل! كرّر ذلك باستمرار، ولا نسى ذكره في كلّ محفل دولي أو محلّي أو حتّى جاهة عرس.. مبارك.. أنت الآن سياسي ناجح!
بعد تسويقك كسياسي جهبذ عقدت عليه آمال الشعب وأحلامه، وخاصّة فيما يتعلّق بسياستك الخارجيّة، يمكنك الآن التفرّغ تماما لتطبيق ما هو مطلوب منك "دوليّا"، وتجاهل التفاصيل المحليّة المتعلّقة بالمصلحة الوطنيّة العليا، أو مستقبل ومصير البلاد.. فنجاحك على المستوى الدولي هو الضامن لبقائك في منصبك.. في النهاية أنت وحدك هو الهدف.. وأنت محور الكون.. ليس تلك التفاصيل غير الضروريّة!
وزارة الخارجيّة نجحت تماما في إتقان استخدام المطلوب من المصطلحات الترويجيّة.. لم تترك أيّة مناسبة دون العزف على نوتة "الشرعيّة" و"العدالة".. والآن دعوها تتفرّغ للأمور والمسائل الكبرى، فها نحن بصدد بدء العمل بصفقة -أو لنقل ضربة- العمر.. "اسرائيل" أعلنت أنّها ستصدّر لنا الغاز بعد أيّام معدودة، وما على حكومتنا إلاّ استقبال الغد بالإحضان الدافئة بل والملتبة بهذا الغاز المسروق.
لهذه الصفقة "فوائد" لا ينكرها إلاّ من يحاول تغطية الشمس بغربال: أوّلا هي ضامن حاسم لتسويق ساستنا على أعلى المستويات الدوليّة، ما يمكنّنا من رفع رؤوسنا افتخارا بهم، كما أنّها ستحقّق لنا رضا واشنطن.. صحيح أن هذه الأخيرة نقلت سفارتها إلى القدس، ولكن كما قلنا تلك مجرّد تفاصيل، والجوهر هو رضى العم سام، الأشقر المدلّل!
ثالثا.. حسن لا يوجد ثالثا، يكفينا تحقيق مصالح ساستنا الذاتيّة، ونيل رضى الغرب وبركاته، عبر تمكين العدو الصهيوني في المنطقة كقاعدة عسكريّة، مهيمنة اقتصاديّا على حاضرنا ومستقبلنا وغد أبنائنا.. صفقة رابحة رغم كلّ شيء.. صحيح أنّها ستضع ساستنا في الدرك الأسفل الذي سيذكره التاريخ بكلّ اشمئزاز، لكنّها على الأقلّ ستدخلهم التاريخ من أوسع أبوابه، تحت عناوين من قبيل: رجال الصفقات الكبرى، أو فرسان السلام.. أمّا الوطن وأوجاعه، فتلك مجرّد تفاصيل!