الموت على أبواب المستشفيات..
جو 24 :
تامر خورما_ "أريد أن أتكلم عن الموت.. عن موت يحدث أمامك.. لا عن موت تسمع عنه.. إن الفرق بين هذين الطرازين من الموت فرق شاسع، لا يستطيع أن يدركه إلا من يشاهد إنسانا يتكمّش بغطاء سريره بكل ما في أصابعه الراجفة من قوّة، كيّ يقاوم انزلاقا رهيبا إلى الفناء..".
ربّما تساعد هذه الكلمات التي خطّها الشهيد غسان كنفاني في حكاية "موت سرير رقم 12"، على محاولة فهم أو تخيّل شعور من يراقب رحيل عزيز أو قريب، يبتلعه الموت ببطء يحرق الأحياء قبل أن يتمكّن من الراحلين.. الموت.. هذا الطريق الموشّح بالسواد.. التجلّي الحقيقي لكلّ ما يعنيه الرعب والفقد والوجع.. لا يمكن وصفه بمجرّد كلمات، فكيف يمكنك وصف شعور من أرغم على مراقبة من يرحل عنه لحظة بلحظة، حتّى إسدال الستار الأخير؟!
هل يمكنك أن تتخيّل؟ أم تقف عاجزة تماما أمام امتداد ظلّ الموت على جسد نجلها.. أب يراقب رحيل طفلته ببطء قاتل.. أو أخ يشهد موت شقيقه بكامل صيرورة المشهد التفصيليّة.. هل تدرك حجم الرعب في هذه الصور؟! كيف سيكون موقفك لو كانت هذه الحالات تحدث في بلدك الأردن بسبب "عدم وجود سرير"؟!
في الأمس القريب رحلت الطفلة جنى، ذات الأربع سنوات.. رحلت هكذا.. بكلّ أوجاعها وأحلامها وكامل كينونتها، بعد أن أغلقت المستشفيات أبوابها في وجه أهلها، مردّدين ذات العبارة القاتلة: "لا توجد أسرّة"!
ما كادت الصدمة تشقّ طريقها إلى دائرة استيعاب ما حصل، حتّى صفع الواقع الرأي العام بمأساة ثانية.. رحيل حسن.. كان بأمسّ الحاجة لإجراء عمليّة قسطرة، لكنّه رحل أيضا بسبب "عدم وجود سرير"! المؤسف أن وزير الصحة، سعد جابر، كان على اطّلاع كامل بتفاصيل حالة الفقيد، وحاجته الماسّة إلى سرير.. مجرّد سرير في أحد المستشفيات.. ولكن كلّ النداءات والتوسّلات التي بلغت معاليه ذهبت أدراج الرياح، ومات حسن..
حتى لو فرض العجز سطوته على أيّة محاولة لوصف الموت ومشاعر الفقد، فإنه من الممكن اللجوء لكلمتين فقط، للتعبير عن كثير ممّا يعتمل في الصدور، إثر عجز القطاع الصحي عن توفير سرير ينقذ حياة.. إثر مراقبة المسؤولين للموت وهو يختطف الضحايا على أبواب المستشفيات المغلقة، دون أن ترتعد أطرافهم، بل وربّما دون حتّى أن يكترث بعضهم.. كلمتان فقط ينبغي على كلّ من له علاقة من قريب أو بعيد بالدوار الرابع وحكومة النهضة أن يسمعهما بكلّ ما تحملانه من دلالات: الله أكبر!
"نفرح معا".. "المستقبل مبشّر".. "الأردن ينفق على الصحّة كما تنفق أوروبا".. كلاشيهات تصدّرت عناوين وسائل إعلام مردّدة عبارات رئيس الحكومة، د. عمر الرزاز، التي تحترف تنسيق الجمل الإنشائيّة، وهدر حبر الحديث عن "إنجازات" وهميّة على ورق فاضح الديماغوجيا.. كلامك منمّق يا حكومة النهضة، ولكن أرض الواقع تبتلع ضحايا الفشل وبشاعة المشهد!
إرحل! كلمة لا بدّ من قولها مباشرة وبكلّ اختصار لكلّ مسؤول عن هذا الفشل الكارثيّ.. حكومة تعجز عن تأمين سرير لمحتضر، لا تستحقّ البقاء جاثمة على صدور الناس.. على سلطة رأس المال أن تنزع نفسها عن الدوّار الرابع قبل فوات الأوان.. فشل تلو آخر أكثر فداحة، وتستمرّ المأساة حتّى يصل الأمر إلى مراقبة الموت يتجوّل على أبواب المستشفيات.. هي ليست نهضة يا أصحاب المعالي.. وإنّما غاشية!