jo24_banner
jo24_banner

هل هي نهاية «الأردوغانية»؟

عريب الرنتاوي
جو 24 : “هامشيون”، “لصوص”، “رعاع”، “إرهابيون” و”متطرفون”..هذه “عيّنة” من الصفات التي أطلقها السيد رجب طيب أردوغان على المحتجين في شوارع اسطنبول وأنقرة وغيرهما من المدن التركية، معيداً إلى الأذهان القاموس السياسي لزعماء “ما قبل الربيع العربي”، ضارباً عرض الحائط، بكل نصائحه الرسمية و”الشخصية” التي سبق له وأن أسداها لكل من مبارك وبن علي وصالح والأسد.

فما أن اشتعلت الشوارع والميادين التركية بالمظاهرات والمتظاهرين، حتى سقطت دفعة واحدة، جميع “المفاهيم العقلانية” التي نهل منها الرجل في أحاديثه مع (وعن) نظرائه في العالم العربي..حتى أنه استعار من الرئيس مرسي عبارة “الأصابع الخفية” ومن سلفه مبارك حديث “المؤامرة الخارجية”..ومن ابن علي اتهاماته لقوى “متربصة”، وكل ما لا يليق بالديمقراطية الناشئة والمستقرة من توصيفات واتهامات بحق متظاهرين سلميين، أياً كانت مرجعياتهم، ومهما علا سقف مطالباتهم.

ثمة إنفعالية ميّزت أداء أردوغان، منحته في لحظة صعوده “كاريزما” استثنائية، وجعلته يختزل (أو يظن أنه يختزل) في شخصه، الحزب والحكومة والدولة..لكنه أداء نزق و”نرجسي”، سرعان ما يرتد على صاحبه، فيأكل من نصيبه ورصيده، حتى أن كثيرين يرون أن الخاسر الأكبر في الأحداث التركية، هو أردوغان شخصياً، فهذه نهاية زعيم كاريزمي على ما يبدو، حتى وإن ظل يقف على رأس حزب الأغلبية الشعبية والبرلمانية.

نعرف أن اقتلاع 12 شجرة ليس سبباً كافياً لإشعال حريق الاحتجاجات، ونعرف أيضاً أن انتحار البوعزيزي لم يكن السبب لتطاير شرارات الربيع العربي..لكننا نعرف أنه من غير الممكن أن نخلص من هاتين الحقيقتين إلى استنتاج يعيد الاعتبار لـ”نظرية المؤامرة” و”الأصابع الخفية” كما فعل أردوغان وغيره من القادة العرب، بدل أن يبحث ويبحثوا في الأسباب والتراكمات التي تجعل حدثاً، يمكن أن يحصل مثله عشرات الأحداث يومياً، سبباً كافياً لإشعال ثورة أو انتفاضة شعبية..وثمة في تركيا، تحت سطح “المعجزة الاقتصادية”، الكثير من الدوافع والأسباب الكافية، لإشعال غضب شرائح وفئات واسعة من المجتمع التركي.

لقد حظي أردوغان وحزبه، بدعم قطاع واسع من الأتراك (نصفهم وفقاً لصناديق الاقتراع)، ولم يكن جميع هؤلاء من “إسلاميي تركيا”، فثمة علمانيين كثر، صوتوا له ولحزبه، بما هو برنامج لـ”دمقرطة” تركيا ونهضتها الاقتصادية والاجتماعيه، وبما هو برنامج لـ”تصفير المشاكل” مع دول الجوار..فمن الذي تخلى عن الآخر، ومن الذي الذي نكث بوعوده وخرج عن “صراط تركيا القويم”؟..لقد نجح أردوغان وحزبه، لأنه ببساطة حفظ التوازن بين الأصالة والحداثة، الإسلام والعلمانية، المدني والعسكري، وكل الثنائيات التي اختل ميزانها وتوازنها في عالمينا العربي والإسلامي..وهو النجاح الذي جعل من تركيا قبلة الإسلام السياسي، ومن تركيا تجربة تُدرَس وتُدرّس، علماً بأن كثيرين تعاملوا مع التجربة بوصفها النموذج للمصالحة بين هذه الثنائيات، والاختبار الأقوى لتجرب العيش المشترك بين الإسلام من جهة، وكل من العلمانية والديمقراطية من جهة ثانية.

في السنوات الأخيرة، وفي ذروة الانتشاء بالمنجز الاقتصادي، وتنامي دور تركيا الإقليمي، ظنّ أردوغان أن بمقدوره أخذ تركيا حيثما يريد ويشتهي..بدأ بتصفية حساباتهالقاسية من المراكز والمؤسسات و”حرّاس العلمانية” الأتاتوركية، من جيش وقضاء وصحافة..واختط سياسة أسلمة الدولة والمجتمع، وأخذ يضرب “قواعد النظام السياسي التركي وثوابته”..وبدل أن ينجح في إغلاق ملف “المسألة الكردية”، فتح الباب على مصراعيه لتفاقم “المسألة العلوية” إثر انزياحه الشديد صوب المحور “السنّي”، خصوصاً تحت ضغط الأزمة السورية والانقسام المذهبي الحاد في الإقليم وأحلام الزعامة السلطانية..وبدل “صفر مشاكل” مع دول الجوار، انتهت تركيا في سنواتها الأخيرة إلى “صفر أصدقاء” مع الجوار العربي والإيراني واليوناني والأرميني والقبرصي..لقد اختل التوازن في السياستين الداخلية والخارجية، وانقلبت المفاهيم والمواقع والمواقف، فبدأت الأردوغانية تأتي بنقيضها، وتبني لنفسها دائرة من الخصومات والعداوات الداخلية والخارجية.

ليس السيد أرودغان بحاجة لأن يبحث عن “أصابع خفية” ولا “مؤامرات ومتآمرين”..عليه أن ينظر تحت أقدامه فقط، ليرى ما الذي ترتب على جنوحه نحو “الأسلمة” و”الزعاماتية المفرطة” محلياً وإقليمياً..هنا سيجد الأسباب التي جعلت شرارة “تقسيم” تشعل سهول الأناضول.

كنّا نتطلع لتركيا / العدالة والتنمية لتكون رافداً “مدنيا” و”ديمقراطيا” للخطاب الإسلامي العربي..كتبنا في ذلك ونشطنا على مستوى الإقليم، بحثاً عن “دروس من التجربة التركية”..لكن يبدو أن تأثير الإسلاميين العرب، بخطابهم الأصولي/ السلفي، على أشقائهم الأتراك، كان أفعل من تأثير الأتراك عليهم..فرأينا تراجعاً في المنسوب المدني/الديمقراطي لخطاب العدالة والتنمية، بدل ارتفاعه في خطاب الإسلاميين العرب.

على أية حال، من السابق لأوانه الحكم على مآلات التجربة التركية (تجربة العدالة والتنمية تحديداً)، فلهذه التجربة ديناميكياتها الكفيلة بتصحيح نفسها بنفسها، وما حصل في الأيام الأخيرة، هو واحدة من هذه الديناميكيات، حيث يقوم الشارع بقواه العلمانية والشبابية والنقابية والنسائية، بـ”تقييم” تجربة الإسلاميين و”تقويمها”، وهو الدور الذي طالما اضطلعت به “المؤسسة العلمانية” الموزعة تاريخياً ما بين الرئاسة والجيش والقضاء وإلى حد ما، الإعلام، وهذا تطور إيجابي على أية حال.

لن تنتهي أحداث تركيا إلى ما انتهت إليه “انتفاضات الربيع العربي”، بيد أنها بلا شك، ستضع حزب العدالة والتنمية أمام المفترق الأخطر منذ نشأته..فإما أن يستعيد الحزب سيرته الأولى، الأكثر اتزاناً وتوازنا في سياستيه الداخلية والخارجية، وإما أن يمضي في و”التمذهب” و”الإقصاء” و”تصفية الحسابات”، مقامراً برصيده ومنجزاته، ومهدداً التجربة التركية برمتها، بأوخم العواقب.

من يقرأ تصريحات قادة الحزب، يرى أن بعضهم يدرك المآلات الصعبة التي آلت إليها التجربة، وأحسب أن الرئيس عبد الله غول، هو أفضل ممثل لهذا التيار، فيما تقف طموحات أردوغان الشخصية (الزعاماتية) ومن خلفه “طيش” وزير خارجيته و”خفته” في التعامل مع ملفات الإقليم، في خندق التأزيم والمقامرة، وربما يكون يكون مستقبل تركيا برمتها، رهن بنتائح الجدل المحتدم داخل الحزب وفي أوساط المجتمع التركي المختلفة..ولننتظر لنر. (الدستور)
تابعو الأردن 24 على google news