كيف سيرفع كورونا مناعة الناس النفسية؟.. طبيبة نفسية تجيب
جو 24 :
في ظل الاهتمام المتزايد بالصحة الجسدية في زمن فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19"، تؤكد الطبيبة النفسية ورئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية سماح جبر أن العناية بالصحة النفسية لا تقل أهمية أيضا، وأن الهلع والخوف المبالغ فيهما سيؤثران على مناعة الفرد النفسية مستقبلا.
وبينت الدكتورة في حوار خاص للجزيرة نت، أن "الأزمات فرص" وأزمة كورونا فرصة للتعلم وتقوية النسيج المجتمعي، مرجحة أن أثر المرض سيكون إيجابيا على المناعة النفسية والمجتمعية بعد انحساره، إذا تحلى الأفراد بالمسؤولية والمرونة.
بداية، ما الصحة النفسية؟ وهل تقل أهمية عن الصحة الجسدية؟
الصحة النفسية هي جزء لا يتجزأ من الصحة بشكل عام، والصحة النفسية والجسدية موجودتان على الطيف الصحي نفسه وتتأثران في بعضهما بعضا في علاقة دينامية، فإذا تحسنت الصحة النفسية تحسنت الجسدية، والعكس صحيح.
ويقصد بالصحة النفسية "مستوى الشعور بالعافية وغياب الأمراض والاضطرابات النفسية"، وهي تعكس مدى الرضى العاطفي والتكيف السلوكي وقدرة الإنسان على الاستمتاع بالحياة، وشعوره بالكفاءة والاستقلالية وتحقيق الذات والمساهمة المجتمعية.
ما الذي يهدد صحتنا النفسية في ظل انتشار مرض كورونا؟
وجود المرض والفزع الإعلامي الذي يحيط بكورونا يشعران الناس بالقلق. على المستوى الفردي يشعر الأفراد أنهم متوترون قلقون متشوشون، فتتضخم مخاوفهم، أما على المستوى الجماعي فيمكن أن يدخلوا في هلع على المستوى الشرائي خوفا من نقص مواد معينة، وهلعا من حصد الأرواح.
ويمكن أن يتحول الضغط النفسي لديهم إلى شعور بالغضب على الحكومات والقطاع الطبي والعاملين فيه، فالإنسان عندما يشعر بالتهديد والقلق يعبر عن ذلك بشكل غضب على الآخرين أحيانا.
مع كثرة الأخبار وتدفق الإشاعات والتهويلات، كيف يمكننا السيطرة على الصحة النفسية؟
قد تكون الشائعات الأمر الأكثر إضرارا بالصحة النفسية للناس، لذا يكمن حل تشوش المعلومة والاضطراب النفسي الحاصل من الشائعات في التأكد من مصادر موثوقة كالسلطة الطبية في الدولة أو منظمة الصحة العالمية، فالأشخاص الذين يتشوشون في هذه الظروف هم من تنقصهم المعلومة الطبية، فتكون مخاوفهم مبالغة بالنسبة لحجم التهديد. لكن الشعور بالقلق بشكل متناسب مع الخطورة البسيطة والواقعية للفيروس هو أمر مقبول.
وينبغي التأكيد على أن متداولي الشائعات أكثر عرضة للخطر، حيث يقعون فريسة الخوف المبالغ فيه، أو اتباع إجراءات صحية غير معتمدة طبيا وغير موثوقة كالعلاج بالميرمية والثوم والبصل وغيرها من الأمور التي لا تحمل دليلا قاطعا على نجاعتها.
ما الشعرة الفاصلة بين المسؤولية والخوف في التعامل مع "زمن كورونا"؟
المسؤولية هي شعور إيجابي جدا إذا اتبع الإنسان الخطوات المطلوبة منه وما تمليه واجباته الفردية لحماية المجتمع، ربما لا يوجد لهذا المرض دواء حالي، لكننا نملك مصلا يتمثل في الوعي الفردي والمجتمعي وشعور الفرد بالمسؤولية تجاه الآخرين، من دون مبالغة في الإجراءات الاحترازية.
هناك مجموعة من النصائح عممتها منظمة الصحة العالمية كالمحافظة على المسافة المناسبة، والابتعاد عن التجمهر، والتخلص من الأوراق والمناديل المتسخة، والعزل الصحي، وكلما زادت مسؤولية الفرد اتبع التعليمات بدقة أكثر، ورغم أن هذا الفيروس تنجو منه الغالبية العظمى من الناس بالذات من هم في جيل صغير أو ليس لديهم أمراض مناعية، فإن المسؤولية تبقى ماثلة حتى لا تنقل العدوى لذوي المناعة الضعيفة.
أما الخوف فيحدث عندما يبالغ الفرد في الإجراءات الاحترازية أو يتعطل عن أداء وممارسة حياته اليومية، فالإنسان المرن هو من يجد البدائل ويستمر في الحياة ورعاية أبنائه والتواصل مع الآخرين بطريقة نافعة مع إيجاد البديل الآمن كإلغاء الاجتماعات وإجرائها إلكترونيا.
المهم هو المحافظة على الروتين لأنه ينظم الحياة، أما الفراغ فيزيد من التشوش، لذا علينا إيجاد بدائل تساعدنا على أن نكون مرنين ومنتجين كي لا نقع ضحية لفريسة القلق والتوتر الناتج عن الفراغ.
لماذا يثير موضوع كورونا الفزع بين الناس برأيك؟
هناك بعض الأشخاص ذو شخصيات قلقة أصلا، فهؤلاء سيتفاقم القلق جليا لديهم في زمن كورونا، أنا أتلقى اتصالات هاتفية يومية ويزورني أشخاص في عيادتي لديهم أساسا وسواس قهري وقلق صحي متعلق بالأمراض في ظل وجود الفيروس في الأجواء، وكأنه أصبح محفزا لظهور أعراض وسواسية أخرى.
وإلى جانب الشائعات والتهويلات، فإن فزع الناس من كورونا ينبع من أن الإنسان يخاف مما يجهله أكثر من الأمر الذي يعرفه، وهناك نسبة من الغموض والمجهول في مرض كورونا تثير التوجس لدى الناس.
ينبع الفزع أيضا من الخوف والقلق على المدى الطويل والذي يضعف المقدرة على العمل، إلى جانب الإغلاق ومنع السفر الذي يولد خسائر وتوترات وتبعات نفسية إضافية على المجتمع حتى لو لم يصاب أفراده، فإغلاق المطاعم والمدارس والمتنزهات يشكل حالة من الضغط تفاقم الضغط والتوتر لدى المجتمعات.
لا يتوتر الناس لخشيتهم من الموت أو الضرر الجسدي فقط، بل أيضا لخشيتهم من التعطل عن العمل والانعزال والاستبعاد الاجتماعي إن أشيع أنه مريض أو محجور صحيا، فيخاف من خسارة وظيفته، ويخشى أن يكون مصدرا للعدوى، فيقوم بعضهم بالتنصل من الحجر الصحي وإخفاء قدومه من دولة استشرى فيها المرض.
هل من نصائح لكافة شرائح المجتمع بشأن إدارة الانفعالات في ظل الأزمة؟
بالنسبة للأطفال، من المهم أن تتم توعيتهم بعبارات لا تخيفهم وتتناسب مع مستواهم العقلي، وأن لا يظهر الوالدان القلق أمام أولادهم وعدم التحدث الزائد عن الموضوع. وهذه فرصة أيضا لتوعيتهم حول النظافة الشخصية، وملء أوقات فراغهم جيدا، مع مراعاة عدم انقطاعهم عن التعليم لمدة طويلة، وأن لا يبقى الطفل حبيس المنزل، أيضا يجب أن يتعرض للهواء والشمس تحت الإشراف بعيدا عن أي أطفال مرضى.
أما المسنون فيكادون يكونون أكثر رقة من الأطفال، ولديهم هشاشة صحية ونفسية أعلى من غيرهم، لذلك من المهم البقاء بالقرب مهم والتواصل معهم، مع الحرص الشديد على عدم نقل العدوى لهم، ودعمهم من الناحية المعنوية والصحية بما فيها من تغذية ورياضة وتهوية جيدة، والاهتمام بظهور أي أعراض مرضية حتى لا تتأخر الرعاية الصحية اللازمة.
هناك أيضا القطاع الطبي الذي يقدم الخدمة للمصابين، فهؤلاء يدخلون في ضغط إضافي نتيجة زيادة الأعباء عليهم، إذ عليهم أن يبتعدوا عن أبنائهم وأزواجهم وعائلاتهم، ولديهم محاذير أكثر من الآخرين، خصوصا أن بعض مقدمي الخدمة الطبية أصيبوا بالفيروس. لذلك كان لزاما الثناء على ما يقومون به ودعمهم مجتمعيا وتقديم الدعم والمشورة النفسية لهم، وعدم لومهم وانتقادهم في كل صغيرة وكبيرة. ولا يمكن إغفال شريحة أهل المريض الذين يكونون بأمسّ الحاجة للمعلومة الطبية المتزنة والمطمئنة.
كيف يشرح الأهل للطفل وضع كورونا بطريقة مناسبة ودون تخويفه؟
من المهم أن نشرح للطفل على حسب مقدرته الذهنية واللغوية بعبارات بسيطة من دون إبداء الأهل قلقا مفرطا، والتوعية بأهمية النظافة الشخصية واستخدام المناديل عند العطس أو تغطية الفم وعدم الاحتكاك بالأشخاص المرضى وتناول الطعام المطهو جيدا، وعدم لمس الفم والأنف والعينين كثيرا، واستخدام الكحول المعقم.
وأن نشرح للطفل ما هو فيروس كورونا حسب عمره، فالأطفال ليست بعيدة عنهم فكرة الجراثيم والأمراض، وأن نسمي الأسماء بمسمياتها كأن نقول لهم "إننا نمر بفترة فيها جرثومة اسمها كورونا يجب أن نتوخى الحذر منها ونحافظ على النظافة"، من دون أن يعرف أمورا صعبة ومقلقة كالأعراض المؤلمة ووفاة بعض الأشخاص بسبب المرض.
باستطاعتنا أيضا أن نقول إنه فيروس شبيه بالإنفلونزا، وعرض صور توضيحية للطفل، ونقول إن الفيروس يأتي من خارج البلاد وينتشر بسرعة، ونستحث شجاعته وقدرته على المواجهة بقولنا إن غسل يديه والمحافظة على نظافته يطرد المرض.
إن حدث وأصيب المرء بالفيروس، كيف يهتم بصحته النفسية؟
يجب فور شعوره بالأعراض أن يلجأ سريعا للمساعدة الطبية ويلتزم بالتعليمات، ولا يخاف من الإجراءات الطبية، وأن يهتم بما يمتعه نفسيا كالتواصل الإلكتروني مع الأصدقاء والأهل، وساعات النوم المتوازنة، مع الابتعاد عن الطرق غير السوية لتخفيف القلق كشرب الخمر والتدخين، والابتعاد عن الأخبار المقلقة، وأن يشتت انتباهه بالكوميديا والموسيقى مثلا، ويحافظ على تغذية متوازنة وتهوية مناسبة ويمارس الرياضة.
وأكبر تحد نفسي يواجه المصاب هو الشعور بالملل والوحدة والاكتئاب والعجز، فهذا يؤلمه أكثر من الأعراض الجسدية التي قد لا تظهر على الجميع، لذلك من المهم عدم وصم المصابين مجتمعيا، وتكثيف التواصل الإلكتروني معهم، ومنحهم بعض الاستقلالية لتخفيف وطأة العزل.
كيف تفسرين قيام بعض المصابين بالبصق والعطس متعمدين في الأماكن العامة لنقل المرض إلى غيرهم؟
هذا ما رأيناه في الثمانينيات إثر انتشار مرض الإيدز، فبقدر ما تعرض المرضى للوصمة الاجتماعية والعزلة أصبح بعضهم يحاول حقن غيره بالفيروس. التعامل مع المرضى باشمئزاز وعنصرية يمكن أن يخلق لفئة بسيطة منهم شعورا بالعدائية لتخفيف العزلة الاجتماعية التي يعيشونها.
وهذا يندرج ضمن اللامبالاة والاستهتار، فكلما كان الإنسان أنضج، أخذ مسؤولية عالية في الحفاظ على السلامة المجتمعية، وإذا كان مستهترا غير مبالٍ فهذا يعكس عدم الوعي والاكتراث والنرجسية والتمركز حول الذات.
ما أثر كورونا الإيجابي على مناعة الناس النفسية؟ وكيف يمكن أن يستغلوه؟
إضافة للمناعة النفسية التي سيكتسبها الفرد والمجتمع، سيكتسب تعلم الأمور الصحية بشكل عام، وتعلم الحفاظ على الصحة الشخصية، وتعلم المسؤولية تجاه المجتمع، وتعلم التعامل الإيجابي مع الأزمات، وتعلم المرونة الإيجابية مع تغير الروتين في الحياة وأوقات الفراغ، وتعلم الزهد في الأمور التي اعتاد الأفراد عليها واختفت مع وضع الطوارئ.
أزمة فيروس كورونا أصبحت وباء عالميا، والتعاون المجتمعي والمسؤولية الفردية سيجعل الناس يعيشون هذه الخبرة بألم نفسي وفقدان وحزن أقل، وبالمقابل سيشعرون بالفخر لما أظهروه من إيثار ومسؤولية، هناك مثل ياباني يقول "الأزمات فرص"، وهذه الأزمة هي فرصة لتعلم قيم مهمة للنسيج المجتمعي.
أنا أعتقد أنه بعد انتهاء الفيروس ستكون مناعة الناس النفسية أعلى، نحن اليوم نستلهم الشجاعة من الأزمات التي مررنا به سابقا، لكل مجتمعات أزماتها الخاصة، الأزمات تجعل الفرد والمجتمع أقوى، وتظهر صفات المجتمع الحسنة من التطوع والتعاون والمسؤولية المجتمعية، وأنا أرجح أن هذه الأزمة ستجعل المجتمعات أفضل بعد حين، سيتعلمون الحفاظ على الهدوء الشخصي، وتقديم العناية اللازمة للأشخاص المحيطين.
المصدر : الجزيرة