معركة الكرامة… أيام خالدة في سجل الشرف والمجد والبطولة
في ذكرى معركة الكرامة الخالدة يتجدد الموعد مع التضحية والمثابرة والصمود والتكافل والعزيمة التي تفوقت على كل الظروف المحيطة، وخلقت واقعاً جميلاً أعاد التذكير بحضارة الأمة وكرامتها، وبنت قواعد متينة صلبة انطلقت عبرها إلى مستقبل زاهر وزاخر بالخير والعطاء، متسلحة بالمبادئ العظيمة التي أوصلتها إلى مواطن المجد ومواقع الريادة.
في هذا اليوم الأشمّ تتجسد القيم والمعاني السامية، الصبر والنصر والشهادة، تبعث فينا الأمل، وتزيدنا عزاً وفخاراً بشهدائنا الأبرار وأبطال الكرامة الأحرار الذين لبّوا نداء الحق والواجب، فزرعوا في أرض الكرامة نصراً، ورفعوا رايات المجد عالياً، جباه سجدت لربها وجادت بأرواحها، حملت لواء المجد والتضحية.
ولذكرى الكرامة في أنفسنا خلود، ولبوح مسك الشهادة في قلوبنا وفاء وعهود، ومعان وقيم ستظل خالدة فينا، نكبر بها ونسمو، وسيظل أشاوس الجيش العربي قادرين على تحويل الصعاب والتحديات إلى طاقات لا تعرف اليأس والكلل، منطلقين من إيمانهم بربهم ورسالتهم، يقدمون الشهيد تلو الشهيد، يبذلون دماءهم في سبيل الدفاع عن الوطن والأمة، وستبقى معركة الكرامة جزءاً من تاريخنا العسكري الذي نفتخر ونعتز به، وستظل ذكرى الحسين الراحل صانع النصر في يوم الكرامة في قلوب ووجدان الأردنيين الأحرار، وستبقى راياتنا خفاقة وهامتنا لا تنحني إلا لله عز وجل.
معركة الكرامة تاريخ مشرق ونصر وشهادةالكرامة يوم خالد في تاريخ أُمتنا، ولها في نفوس أبناء الأسرة الأردنية الواحدة أعظم الذكرى والاعتزاز والفخار، ففي الحادي والعشرين من آذار سطّر نشامى جيشنا العربي بدمائهم الزكية أروع ملحمة بطولية، وسجلوا أنصع نصر تاريخي على الجيش الإسرائيلي، فحطموا أسطورته وغروره، ونقشت الكرامة الخالدة بطولة جنود الجيش العربي على صفحات التاريخ وعانقت أمجاد أجدادنا في حطين واليرموك وعين جالوت، وظلَّ الجيش العربي عبر تاريخه المجيد المثل للتضحية والبطولة، تفخر به الأمة وتتباهى، فاستحق منّا التبجيل والمهابة.
معركة الكرامة سجل المجد وكتاب الخالدين، سطّر خلالها نشامى الجيش العربي أنصع البطولات وأجمل الانتصارات على ثرى الأردن الطهور، وظلت أرواح الشهداء تحوم في فضاء الأردن فوق سهوله وهضابه وغوره وجباله، وتسلّم على المرابطين فوق ثراه الطهور، ويتفتح دحنون غور الكرامة على نجيع دمهم الزكي، وتسري في العروق رعشة الفرح بالنصر ونشوة الافتخار بهذا الجيش العربي الهاشمي.
هدفت إسرائيل من غزوها للأرض الأردنية إلى تحطيم القدرات العسكرية للقوات الأردنية، وزعزعة الثقة بنفسها بعد حرب حزيران، حيث بقيت قواتنا ثابتة بحيويتها ونشاطها وتصميمها على الكفاح من أجل إزالة آثار العدوان، وكانت القيادة الإسرائيلية تعتقد أن الجيش الأردني تشتت بعد حرب حزيران، فأخطأت التقدير لأن القيادة الأردنية عملت على إعادة التنظيم بسرعة فائقة، واحتلت مواقع دفاعية جديدة على الضفة الشرقية لنهر الأردن لتبقى روح القتال والتصميم في أعلى درجاتها، ومع أن إسرائيل أعلنت قيامها بالهجوم لتدمير قوة المقاومين العرب في بلدة الكرامة، إلا أن الهدف من هذا العدوان كان مغايراً تماماً لهذا الإعلان، فالهدف كان احتلال المرتفعات الغربية من المملكة (البلقاء)، والاقتراب من العاصمة عمان للضغط على القيادة الأردنية لقبول شروط الاستسلام التي تفرضها إسرائيل، والعمل على توسيع حدودها بضم أجزاء جديدة من الأردن إليها.
كما هدفت اسرائيل إلى محاولة احتلال أراض أردنية شرقي النهر والتشبث بها بقصد المساومة عليها، نظراً للأهمية الاستراتيجية لهذه المرتفعات الأردنية ولزيادة العمق الاستراتيجي الإسرائيلي، وضمان الأمن والهدوء على طول خط وقف إطلاق النار مع الأردن، وتوجيه ضربات مؤثرة وقوية للقوات الأردنية التي كانت توفر الحماية والدعم والمساندة للمقاومين العرب، وزعزعة المعنوية لدى الأردنيين القاطنين في منطقة الأغوار ودفعهم إلى النزوح من أراضيهم ومزارعهم ليشكلوا أعباء جديدة على الدولة، وحرمان المقاومة العربية من وجود أي قواعد لها بين السكان.
إسرائيل أيضاً أرادت المحافظة على الروح المعنوية لجيشها وشعبها بسبب عدم التجانس بين الغالبية العظمى منهم في التركيبة السكانية التي جاءت على شكل هجرات صهيونية إلى أرض فلسطين، والتخوف من إحاطة العرب بهم، فأراد العدو أن يقوم بهذه العملية لإزالة حالة الرعب السائدة بين قطاعات الجيش والشعب اليهودي، وطمعها بالمرتفعات الشرقية من الناحية العسكرية والاستراتيجية والاقتصادية، فمناطق الأغوار غنية بالمصادر المائية والزراعية وتشكل مصدراً اقتصادياً استراتيجياً مهماً بالنسبة للأردن.
وصف مكان المعركة
لموقع معركة الكرامة أهميةٌ من الناحية الدينية، فهي تمثل أرض الرباط في سبيل الله ضمن منطقة بلاد الشام، امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لَا تَزَالُ طَائفَةٌ من أُمَّتي عَلَى الحَقّ ظَاهرينَ لعَدُوّهم قَاهرينَ لَا يَضُرُّهُم مَن خَالَفَهُم إلَّا مَا أَصَابَهُم من لَأوَاءَ حَتَّى يَأتيَهُم أَمرُ اللَّه وَهُم كَذَلكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَأَينَ هُم؟ قَالَ: ببَيت المَقدس وَأَكنَاف بَيت المَقدس)، بالإضافة لوجود العديد من المساجد وأضرحة الصحابة رضوان الله عليهم في منطقة الأغوار، مثل أبي عبيدة عامر بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ومعاذ بن جبل.
أما أهمية هذه المنطقة الجغرافية والاستراتيجية، فإنها تشكل نقطة المركز في قلب الوطن العربي، فهي أشبه ببوابة تعبر منها الجيوش الذاهبة إلى فلسطين، سواء أكانت هذه الجيوش قادمة من الشرق أم من الغرب، من الشمال أم الجنوب، وقد كانت مسرحاً لمعارك فاصلة في التاريخ الإسلامي، وبوابة للانتصارات التي حققت للأمة هيبتها وكرامتها ومكانتها ونشر رسالة الحق والعدل والإنسانية كمعركة اليرموك وحطين وعين جالوت.
ومنطقة غور الأردن منطقة منخفضة تقع بين سلسلتين جبليتين متناسقتين، هما سلسلة الجبال الغربية وسلسلة الجبال الشرقية، وهي غنية بالمصادر الزراعية والمائية والأشجار، فتنتج الخضراوات والفواكه وهي مناطق رعوية جيدة، أما مصادرها المائية فتتمثل في نهر الأردن، بحيرة طبريا، البحر الميت، وقناة الغور الشرقية، إضافة إلى العديد من العيون المائية والبرك والآبار، ويشكل الغور عصب الحياة الزراعية والاقتصادية بالنسبة للأردن، ويقع في الغور طريق عرضاني يمتد من الحمة الأردنية وحتى العقبة، أما الطرق الواصلة بين المرتفعات الشرقية والغربية فهي جسر الملك حسين، والملك عبدالله، والأمير محمد، وتتميز المنطقة بشقيها الشرقي والغربي بصعوبة المواصلات ووعورة المسالك والارتفاعات الشاهقة ووجود الأشجار والمقاطع الصخرية المنحدرة، وهي منطقة استراتيجية معيقة لحركة الآليات في حال أي تقدم من قوات العدو.
الكرامة حطمت آمال العدو وأسطورة الجيش الذي لا يقهر
ونتيجة للمعلومات التي توفرت من مصادر الاستخبارات ومشاهدة أرض المعركة، فقد كانت القوات الإسرائيلية تقدر بفرقة مدرعة مع أسلحتها المساندة إضافة إلى سلاح الجو وكما يلي: اللواء المدرع 7، اللواء المدرع 60، لواء المشاة الآلي 80، كتيبة مظليين من لواء المظليين 35، خمس كتائب مدفعية ميدان ومدفعية ثقيلة، أربعة أسراب طائرات مقاتلة ميراج، مستير، عدد من طائرات الهيلوكبتر القادرة على نقل كتيبتين دفعة واحدة، وكتيبة هندسة مدرعة.
وتكونت القوات الأردنية من فرقة المشاة الأولى، تدافع عن المنطقة الوسطى والجنوبية ابتداءً من سيل الزرقاء شمالاً وحتى العقبة جنوباً، وكانت موزعة على النحو التالي: لواء حطين يحتل مواقع دفاعية على مقترب ناعور، لواء الأميرة عالية يحتل مواقع دفاعية على مقترب وادي شعيب، لواء القادسية يحتل مواقع دفاعية على مقترب العارضة، ويساند لواء الأمير الحسن بن طلال المدرع 60 فرقة المشاة الأولى، وكانت إحدى كتائبه موزعة على الألوية وكتيبة احتياط للجيش في منطقة طبربور، وتساند الفرقة ثلاث كتائب مدفعية ميدان وسرية مدفعية ثقيلة، وكتيبة هندسة ميدان.
وكانت المقتربات كالتالي: مقترب العارضة: من جسر الأمير محمد (داميا) إلى مثلث المصري إلى طريق العارضة الرئيس إلى السلط – عمان.
مقترب وادي شعيب:من جسر الملك حسين إلى الشونة الجنوبية، إلى الطريق الرئيسي المحاذي لوادي شعيب ثم السلط – عمان.
مقترب سويمة:من جسر الأمير عبدالله إلى غور الرامة إلى ناعور ثم إلى عمان.
مقترب غور الصافي:من جنوب البحر الميت إلى غور الصافي وغور المزرعة إلى الطريق الرئيس حتى الكرك.
واستخدم الإسرائيليون على كل مقترب من هذه المقتربات، مجموعات قتال مكونة من المشاة المنقولة بالآليات نصف المجنزرة والدبابات، تساندهم على كل مقترب مدفعية الميدان والمدفعية الثقيلة ومع كل مجموعة أسلحتها المساندة المقاومة للدروع من مدافع 106 ملم والهاون مع إسناد جوي كثيف على جميع المقتربات، ونظراً لغرور الإسرائيليين، فقد قام الحاكم العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية بدعوة رؤساء البلديات في الضفة إلى قيادته، وأبلغهم أنهم مدعوون لتناول طعام الغداء معه في عمان والسلط، وما كان لهذا الهوس أن يقهر، لولا وقفة الجيش العربي في وجه القوات المهاجمة، فقد قاتل رجاله بكل شجاعة وتضحية مستخدماً ما هو متاح له بأفضل السبل.
ونجد أن الهجوم الإسرائيلي قد خُطط على أكثر من مقترب، وهذا يؤكد مدى الحاجة لهذه المقتربات لاستيعاب القوات المهاجمة، وبشكل يسمح بإيصال أكبر حجم من تلك القوات وعلى اختلاف أنواعها وتسليحها وطبيعتها إلى الضفة الشرقية، لإحداث خرق ناجح في أكثر من اتجاه يتم البناء عليه لاحقاً ودعمه للوصول إلى الهدف النهائي.
وكانت الغاية من اتساع جبهة المعركة وتعدد المقتربات، تشتيت الجهد الدفاعي لمواقع الجيش العربي وتضليلها عن الهجوم الرئيس، وهذا يؤكد أن القوات المتواجدة في المواقع الدفاعية كانت قوات منظمة أقامت دفاعها على سلسلة من الخطوط الدفاعية، بدءاً من النهر وحتى عمق المنطقة الدفاعية، الأمر الذي لن يجعل اختراقها سهلاً أمام المهاجم، كما كان يتصور، لا سيما أن المعركة قد جاءت مباشرة بعد حرب العام 1967.
الجيش العربي ومعركة النصر والثبات
لقد لعبت المدفعية والدروع وقناصو الدروع دوراً كبيراً في معركة الكرامة، وعلى طول الجبهة وخاصة في السيطرة على جسور العبور، ما منع الجيش الإسرائيلي من دفع أي قوات جديدة لإسناد هجومه الذي بدأه، وذلك نظراً لعدم قدرته على السيطرة على الجسور خلال ساعات المعركة وقد أدى ذلك إلى فقدان القوات الإسرائيلية المهاجمة لعنصر المفاجأة، وساهم بشكل كبير في تخفيف زخم الهجوم، وعزل القوات المهاجمة شرقي النهر وبشكل سهّل التعامل معها واستيعابها وتدميرها.
وقد استمر دور سلاح الدروع والمدفعية الملكي وجميع الأسلحة المشاركة وعناصر المشاة بشكل حاسم طيلة المعركة من خلال حرمان الإسرائيليين من محاولة إعادة البناء على الجسور القديمة، وحتى نهاية المعركة، ما يؤكد أن معركة الكرامة قد خاضها الجيش العربي وهو واثق من نفسه، وأن الجهد الذي بذل خلالها ما كان جهداً ارتجالياً بل كان جهداً دفاعياً شرساً ومخططاً بالتركيز على أهم نقاط التقتيل للقوات المهاجمة لكسر حدة زخمها وإبطاء سرعة هجومها.
توقيت بدء معركة الجيش العربيبدأ الجيش العربي قتاله في معركة الكرامة منذ اندلاع شرارتها الأولى وتقدم القوات المهاجمة، حيث يقول اللواء مشهور حديثة: "في الساعة (05:20) أبلغني الركن المناوب أن العدو يحاول اجتياز جسر الملك حسين، فأبلغته أن يصدر الأمر بفتح النار المدمرة على حشود العدو”، لذلك كسب الجيش العربي مفاجأة النار عند بدء الهجوم على القوات الإسرائيلية، ولو تأخر في ذلك لأتاح للقوات المهاجمة الوصول إلى أهدافها بالنظر إلى قصر مقتربات الهجوم، في ظل حجم القوات التي تم دفعها وطبيعتها، وسرعة وزخم هجومها بالإضافة إلى سهولة الحركة فوق الجسور القائمة.
لقد استطاعت القوات الأردنية وخاصة سلاح المدفعية، حرمان القوات الإسرائيلية من حرية العبور حسب المقتربات المخصصة لها، ودليل ذلك أن القوات الإسرائيلية التي تكاملت شرقي النهر كانت بحجم فرقة وهي القوات التي عبرت في الساعة الأولى من الهجوم، وبعدها لم تتمكن القوات المهاجمة من زجّ أي قوات جديدة شرقي النهر، بالرغم من محاولتهم المستميتة للبناء على الجسور التي دمرت، ومحاولة بناء جسور حديدية لإدامة زخم الهجوم والمحافظة على زمام المبادرة، مما أربك المهاجمين وزاد من حيرتهم وخاصة في ظل شراسة المواقع الدفاعية ومقاومتها الشديدة.
طلب وقف إطلاق النار
لجأت إسرائيل إلى طلب وقف إطلاق النار في الساعة الحادية عشرة والنصف من يوم المعركة، وهذا دليل كبير على أن القوات التي واجهتهم في المواقع الدفاعية من الجيش العربي كانت بحجم التحدي وكانت المعركة بالنسبة لهم معركة وجود ومعركة حياة أو موت على الصعيد العسكري، أما على الصعيد السياسي فقد أصرّ الأردن على لسان جلالة المغفور له الملك الحسين طيب الله ثراه على عدم وقف إطلاق النار طالما أن هناك جندياً إسرائيلياً واحداً شرقي النهر، ما يثبت وبدون أدنى شك، أن معركة الكرامة كانت معركة الجيش العربي منذ اللحظة الأولى، حيث كانت قيادته العليا تديرها وتتابع مجرياتها لحظة بلحظة، وأن عدم قبول جلالة الملك قرار وقف إطلاق النار الذي طلبه الإسرائيليون بعد 6 ساعات من بدء المعركة دليلٌ على امتلاك ناصية الأمر والسيطرة على المعركة والتحكم بمجرياتها.
كانت تُرى شراسة المواقع الدفاعية للجيش العربي، الذي خطط معركته كاملة على أساس تقييم قدرات العدو المقابلة له، وحينما رفض الأردن وقف إطلاق النار كان في معمعة المعركة، ويعلم تمام العلم كيف تسير لحظة بلحظة وكيف أن قواته تسيطر عليها بحزم، وأن قيادته العليا كانت ترى النصر المؤزر قريباً ويحتاج إلى صبر ساعة، خاصة عندما فوتت هذه القيادة الفرصة على الإسرائيليين برفضها لوقف إطلاق النار، حيث أنها كانت ترى بثاقب بصيرتها وحنكتها ما يخطط له الإسرائيليون، في محاولة منهم لوقف القتال دون الوصول إلى النتائج الحتمية التي أصبحوا يعلمونها ويرونها، من أن النصر في هذه المعركة قد فاتهم وأنه أصبح دون أدنى شك في يد الجيش العربي، وعلى المدى الأبعد فإن بصيرة القيادة الثاقبة وحنكتها أيضاً تؤكد منذ البداية أن موضوع السيادة كان محسوماً على الأرض الأردنية، إذ لا يمكن لإسرائيل أن تطلب وقف إطلاق النار إلا من جهة مقابلة ذات سيادة ولها قرار سيادي وسياسي يقرر على أرض الواقع سير المعركة.
الإنزال الإسرائيلي في بلدة الكرامة ومعركة السلاح الأبيضإن عملية الإنزال التي قامت بها القوات الإسرائيلية شرق بلدة الكرامة، كانت الغاية منها تخفيف الضغط على قواتها التي عبرت شرقي النهر، إضافة لتدمير بلدة الكرامة، ولاسيما عندما لم تتمكن من زجّ أي قوات جديدة عبر الجسور، نظراً لتدميرها من قبل سلاح المدفعية الملكي، وهذا دليل قاطع على أن الخطط الدفاعية التي خاضتها قوات الجيش العربي كانت محكمة، وأسهم في نجاحها الإسناد المدفعي الكثيف والدقيق، إلى جانب صمود الجنود في المواقع الدفاعية، وفي عمقها كانت عملية الإنزال شرق بلدة الكرامة عملية محدودة، حيث كان قسم من الفدائيين يعملون فيها كقاعدة انطلاق للعمل الفدائي، وبالفعل قام الإسرائيليون بتدمير بلدة الكرامة بعد أن اشتبكوا مع القوات الأردنية وعدد من المقاتلين من الفدائيين الموجودين هناك وتطور الأمر لاستخدام السلاح الأبيض في القتال وجهاً لوجه مع قوات العدو التي تم إنزالها.
نتائج المعركة
مع انتهاء أحداث المعركة كان العدو قد فشل تماماً في عملياته العسكرية، دون أن يحقق أيّاً من الأهداف التي شرع بهذه العمليات من أجلها وعلى جميع المقتربات والمحاور، وعاد يجر أذيال الخيبة والفشل، فتحطمت الأهداف المرجوة من وراء المعركة أمام صخرة الصمود الأردني، ليثبت للعدو من جديد بأنه قادر على مواصلة المعركة تلو الأخرى، وعلى تحطيم محاولات العدو المستمرة للنيل من الأردن وصموده، وأثبت الجندي الأردني أن روح القتال لديه نابعة من التصميم على خوض معارك البطولة والشرف والإقدام والتضحية.
وفي كلمته التاريخية، قال المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه في اليوم التالي للمعركة: "وإذا كان لي أن أشير إلى شيء من الدروس المستفادة من هذه المعركة يا إخوتي، فإن الصلف والغرور يؤديان إلى الهزيمة، وإن الإيمان بالله والتصميم على الثبات مهما كانت التضحية هما الطريق الأول إلى النصر، وإن الاعتماد على النفس أولاً وأخيراً ووضوح الغاية ونبل الهدف هي التي منحتنا الراحة حين تقرر أننا ثابتون صامدون حتى الموت، مصممون على ذلك، لا نتزحزح ولا نتراجع مهما كانت التحديات والصعاب”.
وفشل العدو في احتلال المرتفعات الشرقية ودعوة الصحفيين لتناول طعام الغداء في عمان، وجسدت هذه المعركة أهمية الإرادة لدى الجندي العربي، والتي كانت متقنة وذات كفاءة عالية وأسهمت بشكل فعال في حسم معركة الكرامة، كما أبرزت أهمية الإعداد المعنوي حيث كان هذا الإعداد على أكمل وجه، فمعنويات الجيش العربي كانت مرتفعة حيث ترقبوا يوم الثأر والانتقام من عدوهم وانتظروا ساعة الصفر بفارغ الصبر للرد على الظلم والاستبداد. وأبرزت المعركة حسن التخطيط والتحضير والتنفيذ الجيد لدى الجيش العربي، مثلما أبرزت أهمية الاستخبارات، إذ لم ينجح العدو بتحقيق عنصر المفاجأة نظراً لقوة الاستخبارات العسكرية الأردنية التي كانت تراقب الموقف عن كثب وتبعث بالتقارير لذوي الاختصاص، حيث تمحص وتحلل النتائج فتنبأت بخبر العدوان من قبل إسرائيل ما أعطى فرصة للتجهيز والوقوف في وجهها.
خسائر الطرفين قواتنا الباسلة:86 شهيداً، و108 جرحى ، تدمير 13 دبابة و39 آلية مختلفة.
القوات الإسرائيلية:250 قتيلاً، و450 جريحاً، تدمير 88 آلية مختلفة شملت 47 دبابة و18 ناقلة و24 سيارة مسلحة و19 سيارة شحن، وإسقاط 7 طائرات مقاتلة.
أقوال في معركة الكرامة:
"إسرائيل فقدت في هجومها الأخير على الأردن آليات عسكرية تعادل ثلاثة أضعاف ما فقدته في حرب حزيران عام 1967”. وكالة يونايتد برس 29/3/1968.
حاييم بارليف/ رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق:”اعتاد شعبنا على رؤية قواته العسكرية وهي تخرج منتصرة من كل معركة أما معركة الكرامة فقد كانت فريدة من نوعها بسبب كثرة عدد الإصابات بين قواتنا والظواهر الأخرى التي أسفرت عنها المعركة، مثل استيلاء القوات الأردنية على عدد من دباباتنا وآلياتنا وهذا هو السبب في حالة الدهشة التي أصابت شعبنا”.
المقدم اهارون بيلد قائد مجموعة القتال الإسرائيلية:”لقد شاهدت قصفاً شديداً عدة مرات في حياتي لكنني لم أر شيئاً كهذا من قبل لقد أصيبت معظم دباباتي في العملية ما عدا اثنتين فقط”.
صحيفة الديلي تلغراف البريطانية:”لقد قاوم الجيش الأردني المعتدين بضراوة وتصميم وإن نتائج المعركة جعلت الملك الحسين بطل العالم العربي”.
جون بورينته/ المراسل الخاص لوكالة يونايتد برس:”لقد أثبت الأردن جيشاً وشعباً وحكاماً بالرغم من صغره وضآلة موارده وافتقاره إلى الكثير من الأسلحة الضرورية اللازمة، أنه قلعة صمود وبرج تضحية، وأنه كما قال مليكهم: "مستعد للموت على أرضه”.
لم تغب شمس الحادي والعشرين من آذار إلا وهي تبشر بالنصر، وتزف إلى السماء الشهداء، وبين الخندق والخندق حكايات صبر وثبات، وبين تلال الكرامة نسمع صوت المقاتلين يهدرون بالتكبير، ويقبّلون على الشهادة بفرح، ومع كل قذيفة ورصاصة تنطلق الأهازيج، ومن فوق الدبابات وتحت جنازيرها تأتي أخبار النصر الذي يحول مشهد الاحتفال الذي أراده قادة الغزاة في عمان إلى مأتم يرافق جثث القتلى والجرحى وهم يعودون في توابيت الموت ومواكب الهزيمة، ومن ضفاف النهر ومن بين أشجار البرتقال والليمون تفجرت براكين الغضب فحولت المكان إلى جحيم، وفي ساعات قليلة تخلّى الغرور والغطرسة والجبروت عن الغزاة وتاهت فيهم أرض الكرامة فهاموا على وجوههم ضالين ممزقين، وخلّد الشهداء أسماءهم على ثرى الكرامة الطاهر، فسلام على قائد الكرامة وصانع انتصارها، وسلام على الشهداء الذين عطرت دماؤهم الزكية أرض الكرامة.
ظلّ الجيش العربي يدافع عن الكرامة العربية وينتصر للمستضعفين، وينشر رسالة المحبة والسلام، وينال ضباطه وجنوده التقدير الكبير بالانضباط العالي والأخلاق الرفيعة، حيث مارست القوات المسلحة الاحتراف من أوسع أبوابه، فكانت فخر الأردنيين والعرب، فعلى درب الكرامة سار الأحفاد، فكانت كل أيام الأردنيين كرامات وإنجازات رفعت القامات والرؤوس، وبشّرت بربيع المستقبل والكرامة الجميل، والله نسأل أن تظل أرضنا مباركة بالكرامة والأبطال والانتصارات، ومكللة بالأمن والمجد والغار.(بترا)