2024-09-10 - الثلاثاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

عندما نودع موتانا من وراء شاشة كومبيوتر

عندما نودع موتانا من وراء شاشة كومبيوتر
جو 24 :

منكمشة على أريكة صالون بيتها، تصارعدموعها التي تأبى أن تتوقف، تظهر شيئا من التمالك وهي تسرد قصة نقل زوجها إلى المستشفى في مدينة نيويورك، حيث رقد لأيام في قسم الإنعاش.

تعود بذاكرتها لأيام قريبة وليست بعيدة، لتقول إنها كانت تعيش قصة صداقة وشراكة وحب مع زوجها، تمتد من زمن المدرسة الثانوية، "كبرنا معا وأنجبنا فتياترائعات وقطعنا الطريق سويا".

في ذلك المساء، وعلى طاولة العشاء، اشتكى سام من ألم في رأسه، وحرارته كانت مستمرة بالارتفاع، بالتزامن مع ضيق فيأنفاسه، قبل أن تتدهور صحته أكثر في اليوم التالي.

على عجل، توجها إلى المستشفى القريب من بيتهما، حيث خضع سام لإجراءات الطوارئ الجديدة، فلا يسمح إلا للمرضى بالدخول، أما هي فكان عليها أن تنتظر في مرآب السيارات وتتواصل مع زوجها عبر الهاتف.

وقت قصير مضى قبل أن يبلغها أنه الآن يخضع لإجراءات الفحص والتصوير الشعاعي، وأنه سيتواصل معها عندما يكون ذلك ممكنا ومتاحا لأن هاتفه أخذ منه في هذه اللحظات القلقة.

ذلك الوقت الذي لن يكون متاحا أبدا فيما تبقى من القصة، لأنه بعدها بساعات قلت اتصالاته واقتصرت فقط على رسائل قصيرة، كان يقول فيها "إني بخير وأجهزة التنفس تساعدني قليلا لكني أفتقدك والبنات، كونوا بخير لأجلي، أحبك دائما".

بعدها تناقصت هذه الرسائل إلى أن أبلغها في رسالة طارئه إنه يريد أن يتحدث إليها عبر خدمة الفيديو ليراها وتراه ويرى البنات من وراء شاشته.

خلف تلك الشاشة قصة أخرى، إذتم إبلاغه أنه سوف يحال إلى العناية المركزة وأنه سوف يوضع تحت جهاز التنفس الاصطناعي إنقاذا لحياته.

حينها استقطع وقتا قصيرا وطلب من الممرضة ومساعدتها، أن تعطى له فرصة الحديث إلى عائلته، فربما كانت هذه فرصته الأخيرة ليراهم فيها، ولو من وراء شاشة، لأن ذلك هو أفضل الممكن مع امتنان عميق للممرضة على التفهم والتجاوب، فالوقتضيق والأمر لا يحتمل أي تأجيل.

وكان حدسه صادقا.. كانت تلك هي المكاملة الأخيرة بينه وبين من يحب. ولحسن الحظ أن ابنته اليافعة سجلت تلك المحادثة الهاتفية واحتفظت بها على هاتفها لأنها ستكون ذكراها الأبدية، التي سوف تعيش بها بقية العمر بعد ر حيل والدها.

انتهت المكالمة القصيرة زمنا والمكثفة خوفا، وصمت من بعدها كل شيء، وبات الانتظار لاتصال يأتي من غرفة الإنعاش لإخبارها بتطورات حالة زوجها الصحية بين الوقت والآخر وكانت الكلمات واحدة في كل مرة أنه لا يزال تحت العناية المركزة.

إلى أن جاءت تلك المكالمة التي لا تشبه أي اتصال آخر والتي تقول "إن الجهاز لم يعد قادر ا على مساعدة زوجك على التنفس وأن وضعه ساء جدا في الساعات الأخيرة ويحزننا إخبارك أنه فارق الحياة والعزاء لك ولعائلتك.. حزينون جدا لفقدك".

انتهى ذلك الاتصال وانتهت معه حياة كاملة مملوءة بالحكايات والضحكات والأحلام القريبة والبعيدة، لكن أجملها كان رؤية هؤلاء البنات جميلات كما حلما بهن دوما،ورؤية حفيدات وأحفاد منهم لبداية قصة حب وطفولة جديدة في خريف العمر.

"لن يحدث ذلك أبدأ لأن سام لن يكون هنا"، تقول هذا ورأسها يغرق بين كفيها وسيل دمعها لا ينقطع.

أنجيلا تقف الآن أمام حقيقة أخرى أكثر ألما. ذلك لأن فحصها الأخير أثبت إيجابيته عندها هي أيضا، وهي ترتعدخوفا أن تكون عدوى فيروس كورونا قد انتقلت إليها وإلى بناتها بعد إصابة زوجها بهذا الوباء اللعين.

كانت روحها تتمزق وهي تقول لي إنها لا تذكر مناسبة واحدة تأخر فيها زوجها عن مساعدتها أو بناتها أو أي من الناس احتاج إلى مساعدته من الأصدقاء أو الجيران، لكنه يواجه لحظة الرحيل وحيدا كما واجه الألم وحيدا في غرفة مغلقة خاوية.

أنجيلا لا تستطيع أن تودع زوجها ولا تستطيع أن تقيم له العزاء الذي يليق به، وعائلته لا تستطيع مرافقته إلى مثواه الأخير، لأنها تخضع لإجراء الحجر الصحي، فهي لا تتحدث إلى بناتها إلا من وراء باب غرفتها المغلق دوما أو عبر رسائل الهاتف القصيرة، حتى وهن في الغرفة المجاورة.

بل إن حرصها عليهن يجعلها تطلب منهن استعمال أواني الطعام الورقية المخصصة للاستعمال الواحد، والتي ترمى مباشرة في سلة المهملات.

ثيابها لا تغسل، وطعامها لا تتشاركه مع أحدوتناممنفردة.. إنها وحيدة وهي في بيتها وبين بناتها.

هذه تعليمات الأطباء، والتي عليها أن تلتزم بها حرفيا طيلة أربعة عشر يوما وقد تحتاج الى أسبوع إضافي بعدها.

ليس كل ذلك هو ما يحدث معها، فلا هي ولا البنات الثلاث قادرات على مرافقة الزوج والأب في لحظة الوداع الأخيرة والصلاة له وعليه لأن سلطات المدينة لا تسمح لأحد بفعل ذلك.

إنها الآن تتهيأ في غرفتها المغلقة الأبواب وتلبس الأسود لترافق زوجها إلى مثواه الأخير من وراء شاشة الكومبيوتر.

هذا سلوك جديد في زمن كورونا.. أن تودع العائلات الراحلين من وراء شاشات الكومبيوتر، وهو وداع يسبقه مسلسل طويل من الأوجاع المعقدة والقاسية على القلب، ومنها أن يعيش جميع أفراد العائلة أوجاعهم في غرفهم المغلقة ويتألمون وحيدين جدا ويرحلون في صمت مطبق وينقلون إلى محطتهم الأخيرة بلا رفيق ولا محب.

وأكثر من ذلك، لا توجد فرصة لقبلة أخيرة ولا لتكريم أخير من المحبين. وكل المتاح هو مراسم دفن من وراء شاشة كومبيوتر.

أنجيلا وسام حكاية من بين آلاف الحكايات التي خلفها هذا الوباء في حياة الناس في هذه المحنة الكونية.

أنجيلا، في هذه اللحظة المكتظة بالألم، تأخد رشفة ماء إلى حلقها الجاف وهي تحاول جاهدة أن تخفف سعالها، لتقول لي إن ما يشغل تفكيرها ليس الذي حدث، لأن كل الذي حدث من حولها صار ألما قائما وقاتما.

إنها تخاف ولا تتوقف عن التفكير، وعلى مدار الساعة، أن يكون مصيرها كمصير زوجها في معركة مواجهة كورونا.

تقول أنجيلا "أنا لا أملك سوى الدعاء والصلاة والرجاء من الله أن أعيش لبناتي، لأنه وبعد رحيل والدهما سيكون الفناء بالنسبة لهن، وأنا لا أريد لهذا الفناء أن يحدث لنا".

أنجيلا شكرا لوقتك.. كوني بخير لأجلنا جميعا.

الحرة
 
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير