"قارة الصين" التي أدهشت مترجمة مصرية شابة
وجد كثيرون في كل أنحاء العالم أنفسهم مضطرين لمتابعة الأخبار القادمة من الصين طوال الأشهر الماضية بسبب فيروس كورونا، لكن شابة مصرية كانت قد قررت دخول عالم الصين طواعية قبل نحو 13 عاما.
عام 2007، كانت مي عاشور في سنتها الجامعية الثالثة عندما سافرت لأول مرة خارج مصر؛ لم تكن الرحلة قريبة أبدا، بل استغرقت أكثر من تسع ساعات لتصل إلى الصين أو إلى "قارة" الصين كما تصفها.
وبعد تلك الرحلة الأولى، زارت الصين نحو عشر مرات، كانت آخرها في أغسطس/آب عام 2019 - قبل أشهر قليلة من ظهور فيروس كورونا.
"الصين بلد مختلف تماما. وكل مدينة فيه مختلفة عن الأخرى بطريقة رهيبة، والسكان كذلك.
عندما أذهب إلى هناك أحتاج لأن أقلب نفسي تماما؛ أقصد ذلك حرفيا فمثلا عليّ أن أستخدم تطبيقات موبايل مختلفة تماما عن التي أستخدمها يوميا في القاهرة، كما يجب أن أتعامل مع تفاصيل الحياة اليومية في الصين .. أذهب وكأنني أتجه إلى عالم مواز لعالمنا"، تقول لي مي، ذات الـ 33 عاما، عبر تطبيق فيسبوك مسنجر.
عندما سمعَت مي عن انتشار الوباء هناك تملكها قلق شديد.
"فجأة وبدون أدني مقدمات انقلب كل شيء رأسا على عقب. لم يكن الموضوع بالنسبة لي مجرد وباء يضرب الصين، بل كان أصدقائي هناك معرضين للخطر. تواصلتُ مع بعض منهم، وصرتُ أتابع الأخبار، وإغلاق البلد تدريجيا لمواجهة الجائحة".
شاهدتُ اسمها الشهر الماضي في إعلان نشره المركز الثقافي الصيني في القاهرة على تويتر عن ندوة للاحتفال بيوم الكتاب العالمي، وكانت مي ستتحدث عن أهمية القراءة وتقرأ نصوصا عبر الإنترنيت ترجمتها لكتاب صينيين حول كيفية الصمود أمام الوحدة بفضل القراءة.
قرأت عددا من النصوص التي ترجمتها والمنشورة على الإنترنت، وكانت أول مرة أقرأ أدبا صينيا. علقت في رأسي عدة قصص قرأتها في مجموعة "أزهار البرقوق"؛ تتحدث إحداها عن حب كبير من قبل رجل لزوجته التي أمضت حياتها تحيك جوارب صوفية له، لكنها تفقد عقلها بحادث فتبدأ بإلباس الجوارب لأرجل الكراسي وبعد وفاتها يحافظ الزوج على عادة تدفئة أرجل الكراسي إكراما لذكراها؛ وقصة فتاة كانت تحب الغناء حتى قالت لها معلمة الموسيقى إن صوتها نشاز، ومن يومها لم تعد تستطيع لا الغناء ولا حتى الكلام أمام الجموع حتى تستعيد نفسها بعد سنوات طويلة؛ وغيرها من القصص الإنسانية التي غالبا ما تكون في نهايتها حكمة مباشرة وصل لها الكاتب/ة.
دراسة اللغة الصينية "مخاطرة"
لا تعرف مي لماذا أو كيف اختارت دراسة هذه اللغة. لكنها اليوم تعد قرارها ذاك "قرارا بدل كل الدروب إلى المستقبل، وقَدَرا غير متوقع غيّر كل شيء".
عمتها امرأة مصرية مشهورة، هي الكاتبة والناقدة الأدبية والأستاذة الجامعية الراحلة رضوى عاشور، ووالدها مثقف أيضا، ووالدتها دارسة للغات وكانت هي في صغرها تتخيل نفسها تعمل في الإذاعة، لكنها قررت فجأة دراسة اللغة الصينية وآدابها في جامعة القاهرة وكان عدد طلاب دفعتها لا يتجاوز العشرين شخصا. وحينها كان تدريس اللغة الصينية مقتصرا على عدد قليل من الأقسام الجامعية في مصر.
"كانت دراسة اللغة الصينية مخاطرة كبيرة؛ هي لغة صعبة جدا، لكنني لم أتوقع أن تكون بتلك الدرجة من الصعوبة. كانت اللغة صدمة بالنسبة لي كتركيب وكمنطق ارتبكت ولم أكن واثقة أني قادرة على المتابعة. لكن أساتذتي كانوا فعلا جيدين. كما أن الإنسان لا يعرف قدراته حتى يمر بالتجربة. وفعلا تحولت هذه اللغة إلى شغف بالنسبة لي".
تخرجت مي عام 2008 حاملة شهادة في اللغة الصينية وآدابها، كما درست اللغة التركية في المركز الثقافي لمدة أريع سنوات حتى أتقنتها، ومنذ عام 2013 تفرغت تماما للترجمة الأدبية للغتين وللكتابة أحيانا. وصدر لها أربعة كتب مترجمة عن الصينية حتى الأن.
أكثر ما جعلها تتعلق بالأدب الصيني هو الجانب الإنساني والفلسفي الواضح فيه والذي "يقود القارىء إلى شيء أعمق وأكبر بكثير من المفردات". وترى أن الصين "كبلد لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا بإعادة ترسيخ قيم معينة في المجتمع الصيني، ومن أهما الاجتهاد واتقان العمل والدأب، ويمكن دائما قراءة أشياء موازية لذلك في الأعمال الصينية".
"سوق" للصين
صحيح أنه ومنذ سنوات طويلة والعلاقات الصينية الخارجية قوية مع كثير من الدول العربية، لكنها كانت بالعموم علاقات تجارية ودبلوماسية، أي كانت بعيدة عن حياة الناس العاديين، ويبدو أنه حتى على المستوى الثقافي لم يكن تأثير الصين قويا، كما هو اليوم.
تقول مي إنها شعرت بتزايد اهتمام الصين، تحديدا في السنوات الأخيرة، من خلال توفير الفرص في بلدها لدعم التعاون في كثير من المجالات كالطب والتعليم والصحافة والترجمة، وكذلك لاحظت اهتمام الصين بنشر ثقافتها وتكريس الوقت والمال من أجل ذلك. وفي الوقت ذاته، تزايد اهتمام الناشرين العرب بالصين.
"قبل نحو خمس أو ست سنوات لم يكن هناك اهتمام كما هو الآن .. في البداية عانيت حتى يأخد ناشر أو مجلة ما ترجمته.
وطبعا لا يعطي كل الأشخاص الفرصة للشباب. لكن في الآونة الأخيرة أصبح الأمر أكثر سهولة. وأصبح هناك سوق محلي وزادت الفرص ومنح السفر والعمل بين البلدين. لم تكن مثل هذه الفرص موجودة بوفرة من قبل".
لم تحصل مي على فرصة للدراسة في الصين، فاكتفت بالسفر إليها عدة مرات، وأطول فترة عاشتها هناك امتدت قرابة الشهر، لذا تحرص على التواصل مع الأدباء الذين تترجم لهم لتتأكد من أن فهمها لبعض الأمور الثقافية صحيح.
ورغم عدم إقامتها في الصين للتعرف عن قرب عن طباع وعادات الصينيين، أوصلتها الكتب والنصوص والتعامل مع الكتاب الصينيبن إلى درجة من فهم خصوصية البلد.
"الشائع أن الصينيين أشخاص عمليون ويعملون كثيرا لإحداث طفرة اقتصادية. لكن الانطباع الذي كونته عنهم مختلف؛ الجانب الإنساني لديهم واضح جدا. كما أنهم يعتزون جدا بثقافتهم".
"تغير المجتمع في الصين كثيرا خلال الأربعين سنة الماضية؛ أراقب فروقا بين المجتمعات العربية ومجتمعاتهم؛ فمثلا لاحظت أن المرأة في الصين يمكن أن تعمل في أي مجال كسائقة حافلة أو ضابطة في الشارع، هم مختلفون عنا في هذه النقطة مثلا. التقيت بمديرات كثيرات في مناصب هامة، فالعقلية هناك أن المنصب أمر متروك للكفاءة للاستفادة الحقيقية من قدرة المواطن. كما لاحظت اهتمام الحكومة بالتعليم وإرسال الطلاب في منح خارجية أيضا. يطبقون سياسة الاعتماد الذاتي والاستثمار في الذات".
كما لفت نظرها كثرة عدد الكاتبات الصينيات وشهرة كثيرات منهن، وحاليا تترجم مي نصا عن وباء كورونا كتبته إحداهن مؤخرا.
ورغم الانتقادات الكبيرة والتشكيك بمصداقية الصين في التعامل مع أزمة كورونا، فإن مي من الأشخاص المعجبين بطريقة الصين بالتعامل مع الوباء، وتعيد ذلك إلى تجربة البلد في احتواء وباء سارس الذي ضربها عام 2003. "بصراحة كنت ومنذ عام 2004 أتوقع أن تكون الصين هي الامبراطورية القادمة؛ فمنذ ذلك الوقت والصين تقفز قفزا .. هي لا تتطور فقط".
بي بي سي