فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ
د. نبيل الكوفحي
جو 24 :
رمضانيات 27
..
وأنا اقرأ سورة الزخرف لفت نظري الآيات تتحدث عن فرعون وطغيانه (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ، فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ، فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ). وتمرده على الله (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) واحتقاره لموسى عليه السلام (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين). بل بلغ من طغيانه أن قال (ما علمت لكم من اله غيري).
الاستخفاف – كما قال المفسرون- يعني العجلة والطيش وعدم التدبّر في المسائل، استخفهم فرعونُ فأطاعوه على الضلال الذي هو فيه فوافقوه على الفساد. يقول صاحب الظلال: فهو أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما يشاؤون ... ومن ثم يسهل استخفافهم، ويلين قيادهم. يطلق على الاستخفاف اليوم "بالاستهبال": بتزييف الوعي العام عبر قلب الحقائق، من خلال أدوات اعلام وتعليم، تتحرك بمكر وتوجيه، حتى أن الهزائم المذلة تحولها لنصر عزيز. تمثل الادوات الاعلامية الفاسدة وأذرعها في وسائط التواصل الاجتماعية (المنتفعين والذباب الإلكتروني) النموذج الجديد من ادوات الاستخفاف، تلك التي ما فتئت تطبق قاعدة غوبلز - وزير هتلر-: اكذب واكذب حتى يصدقك الناس. فحتى " العدو المحتل الصهيوني" أصبح صديقا صاحب ارض وتاريخ. وأصبح الفشل إنجازا يفاخر به.
عملية الاستخفاف ديدن الطغاة والفاسدين على مر العصور، لكن الذي يجعله واقعا هو القابلية للاستخفاف (فأطاعوه). لذلك أمام عمليات طغيان الاستخفاف، لا بد من رفضه ومقاومته بأدوات مماثلة أو مستطاعه، والتسلح بالصبر. بدأت سورة الروم بالحديث عن انتصار الروم بعد غلبهم، وانتهت بالحديث عن الصبر وهو سبب لنصر الله، فقد جعل الله النصر حليف القوم الذين ليست لديهم قابلية الاستخفاف، (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).
القبول بالاستخفاف، والاستسلام له، لن تؤدي لاعتدال أصحابه، بل لإطالة زمن الظلم، وخراب البلاد، أفرد ابن خلدون في مقدمته فصلًا بعنوان ” الظلم مؤذن بخراب العمران” فيصبحون عالة على غيرهم وعاقبتهم (فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ، فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ). لخطورة هذا السلوك المجتمعي تنبه الخليفة الصديق رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم( وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقابه(.
أصبحت صناعة الاستخفاف مكر يدرس، وخطط تدلس، واقلام ومنابر تشترى. لكنها أوهن من بيوت العنكبوت. كم شهدنا في التاريخ المكتوب والمحسوس من انهيارات وتبدلات، وان تعثر فتأخر بعضها، لكنها كبوة لن تطول (وتلك الايام نداولها بين الناس). وكان المبادرون برفض الاستخفاف بمرتبة سيد الشهداء. لا نهوض للشعوب ولا تقدم للبلدان، الا برفض الاستخفاف ومقاومته، وبناء شعب واع، واثق بقدراته على ادارة شؤون حياته، وحقه بالسيادة على ثرواته ومقدراته.
وتقبل الله صيامكم ورفضكم الاستخفاف وصبركم.