حدث في الذاكرة.. الشاعرة المغربية عائشة بلحاج والبحر الأول الذي غطست فيه
في هذه الزاوية تفتح الجزيرة نت مساحة لكاتبات وكتاب لكي يتحدثوا عن الحدث أو الحادث الذي غير حياتهم، وجعل منهم شعراء أو روائيين أو قصاصا وأيضا مسرحيين ومترجمين أو حتى ناشرين، بخلاف توقعات الأهل أو الأصدقاء.
وفي الوقت ذاته، تعتبر هذه الزاوية نافذة للقارئ والمتابع، لكي يتعرف على جزء حميمي -وربما سري- لمبدعين مختلفين في طرق وأساليب التفكير والحياة والكتابة.
ضيفتنا اليوم الشاعرة والصحفية المغربية عائشة بلحاج، التي ولدت عام 1980 في إقليم الحسيمة (شمال شرقي المغرب). وفي عمر أربع سنوات انتقلت أسرتها إلى طنجة، حيث تعيش إلى الآن في "المدينة التي لا تنام".
من كلية الحقوق في جامعة طنجة حصلت عائشة على إجازة في القانون العام، ودرست ماجستير حقوق الإنسان، وتدرس حاليا الدكتوراه في العلوم السياسية، وبعد تخرجها من كلية الحقوق اشتغلت عائشة صحفية في عدد من مؤسسات الإعلام المكتوب، قبل أن تنتقل إلى الإذاعة المغربية، التي أعدت وقدمت فيها برامج ثقافية مختلفة، مثل: "نوافذ"، و"فواصل"، و"من فنون الفرجة"، بين عامي 2017 و2019، إضافة إلى مواقع عربية مختلفة.
خلال ذلك، صدرت مجموعتها الشعرية الأولى "ريح تسرق ظلي" عام 2017، عن منشورات بيت الشعر في المغرب، وأتبعتها عام 2019، وعن دار روافد المصرية، بمجموعتها الشعرية الثانية "قبلة الماء"، وفي العام ذاته فازت بدعم وزارة الثقافة المغربية لكتابة رواية بعنوان "بريد الحب".
وهنا شهادتها عن بعض الموضوعات التي طرحتها الجزيرة نت.
إطلاق سراح الكلمات
لم يخطر الشعر ببالي كمصير وملجأ ممكن لي، وأنا طفلة، لكن ماء كثيرا جرى بين الأيام منذ ذلك الحين. حينما أعود الآن إليها، أجدها مبللة بالشعر، وما من فرصة أمامي للهروب من قدره. وأول ما أستحضره من تلك الأيام دفتر الذكريات الذي كان رفيق بنات ذلك الوقت، وجدارهن الأزرق. يمكن أن أصفه بكتاب الأحلام أيضا، رغم أنها كانت تتلخص آنذاك في الحب الذي يجعل العالم ورديا للغاية؛ لأننا كبرنا على قصص الأميرات اللواتي ينتظرن فرسانهن، ولم يكن من مصير آخر يتم الترويج له.
كتابة الأغاني ورسمها
كانت الكتابة وسيلة للبقاء في العالم المتخيل، بعد نفاد ما ننقله من دفاتر بعضنا البعض، أنا وصديقاتي. ولأنني لا أحفظ الأغاني كانت الطريقة الوحيدة لإضافة محتوى جديد فيه، هي اختراع بعضها. كنت ألصق الصور أولا، وأرسم على الصفحة بألوان مختلفة، ثم أملأ الفراغات بما اخترعته من أغاني الحب. لم يصدقن أن الكلمات لي، حتى وهن يسلمن دفاترهن لأتصرف فيها.
لم تكن هذه أول مرة أكتب فيها؛ فقبل ذلك قامت حرب الخليج الثانية، وقبلها الانتفاضة الفلسطينية، وكنت متابعة دؤوبة لكل ما يحدث في العالم، الذي كان يشتعل بمعايير ذلك الوقت، في حين كانت الحياة حولي بالغة الرتابة، وضيقة الأفق بشكل لا يطاق، خاصة بالنسبة لفتاة تعد لأن تكون أمًّا وزوجة في مجتمع محافظ، وهو كل ما يمكنه التفكير فيه كمستقبل لها، وهو يقص حبل مشيمتها عندما نزلت إلى الأرض.
كانت القصائد المغناة أول لقاء واع لي مع الشعر العربي، حدث ذلك مع سميح القاسم ومحمود درويش عبر صوت مارسيل خليفة، في مرحلة التعارف الأولية مع الشعر؛ لذا كانت أول جملة كتبتها وظننتها شعرا عن القدس.
الجدة ونساء الأمازيغ
لكن قبل ذلك، كانت تسحرني حكايات الجدة، وأبطالها العالقون في وضعيات محيرة؛ هذه الحكايات كانت أجمل ما أحصده من متع في عطلي الصيفية في الريف شمالي المغرب، موطن الجدة ومسقط رأسي. هناك تعرفت على قصائد النساء الأمازيغيات في الريف، التي كان يدهشني فيها تلاعبهن باللغة، واختراعهن الكلمات المناسبة في السياق الذي يرغبن فيه. كن يحببن شعر المقارعة إلى جانب شعر الحب، الذي كان يمس قلبي، وكانت كلمة الحبيب (الليف) تنطق بصوت هامس في الغناء.
وقبل كل ما سبق، كانت أول لحظة أحسست فيها أن محبة جارفة للكتابة تتملكني، لما تكفلت بكتابة رسائل زميلاتي إلى أولاد يستلطفنهم. كنت أستمتع بذلك، وأتقمص دور العاشقة باحتراف، مما تعلمته من "ماجدولين أو تحت ظلال الزيزفون" التي عربها المنفلوطي، وكانت من الروايات الرومانسية الأولى التي قرأتها.
فخ الكتابة
لكن الحذاقة في الكتابة لم ترافقها حذاقة في الحياة، لذا كنت أقع بسهولة ضحية انشغالي بالممكن في القراءة والكتابة، وغيابي عن الواقع وفخاخه؛ فوسط مهمتي ككاتبة عاطفية في عمر عشر سنوات، خدعتني إحدى الصديقات، باقتراح مراسلة ولد كنت معجبة بغموضه، وبتسريحة شعره التي كنا نسميها "الجونترا". كتبت الرسالة بالكثير من التمنع -رغم أنني الراغبة- لأنني أسقطت عليه إعجابي بالأبطال الغامضين والجواسيس.
أقنعتني الصديقة بألا أوقع باسمي في آخر الرسالة، رغم أن التوقيع كان أجمل ما يخطر لي وأنا أكتب، لأنه يحمل رهبة تشير إلى نضوج كنت أتطلع إليه، ويجعل ما كتبت حقيقيا للغاية، مقارنة مع ما كنت أكتبه نيابة عن الأخريات، وبعد فترة -لم أتلق فيها أي رد- شاهدت الصديقة مع الولد الغامض وهما يتمشيان خارج المدرسة؛ فأدركت الخدعة.
كسر الممنوع
كانت القراءة البحر الأول الذي غطست فيه بعطش كبير، أتذكر كيف كنت أقرأ بسرعة كبيرة كل ما يقع بين يدي من قصص، وإذا عثرت على قصة عند إحدى الصديقات كنت أبدأها على الفور، أو أركض بها إلى البيت، حيث أضعها وسط كتابي المدرسي.
كنت متفوقة ولم تكن هناك حاجة للمراجعة لسهولة الدروس، لكن والدتي -التي كانت تفرح وهي تراني أمسك الكتاب بين يدي، في حين كنت أقرأ القصص- لم تقتنع بعدم الحاجة للمراجعة. ظننت أن أمري سيفتضح بسبب الاحمرار الذي يعتلي وجهي، عندما أقرأ قصص مغامرات أو روايات الجيب مثل "المغامرون الخمسة" أو "رجل المستحيل". ولكن ذلك لم يحدث لحسن الحظ، بما أن القصص لم تكن محبذة في بيتنا المحافظ، لأنها لم تكن سوى مضيعة للوقت، حسب والدي الذي كان ينصحنا بقراءة الكتب الدينية في مكتبته.
سيارة يخذلها المحرك
شكلت الكتابة في ذلك الوقت نافذة للخروج من دائرة المحيط الضيقة، إلى الكون الشاسع للكلمة؛ لذا كنت أحب حصص الإنشاء. مثلما أتحدث، أكتب الموضوع في عشر دقائق، وأنتظر انتهاء بقية القسم من ذلك. لكن الكتابة الحقيقية أشق من هذا؛ فعندما قررت في الثانية عشرة أن أؤلف كتابا عن أحد المواضيع التي كنت أفكر فيها ليل نهار، وجلست بكامل الجدية إلى الدفتر، عجزت عن خط سطر واحد فيه، تلاشى كل ما في ذهني، واستعصى على الخروج إلى الورق.
لذا توقفت عن محاولة الكتابة لأسباب كثيرة، منها عجزي عن إنجاز شيء جدي وصعب مثل إكمال كتاب أو رواية قبل عمر 15. ومن جهة الشعر، توقفت لأن مثلي الأعلى -شقيقي الأكبر وهو كاتب أيضا- كان طالبا بالجامعة حين قال لي "ما تكتبينه مجرد "خربشات" ستذوب مع الوقت، لقد كنت مثلك تماما". آمنت بذلك لأنني انتظرت أن تأتي قصيدة عظيمة، ولم يكن بيدي إلا تأملاتي الذاتية، التي لم تصقلها حينها قراءة حقيقية للشعر؛ فتوقفت مثل سيارة خذلها محركها للأبد.
البحر والمركب
مع أن هناك كتّابا عديدين في عائلتي، فإن كل واحد منا يعيش في جزيرته، ولم نشكل تحالفا ضد العالم حولنا، الذي لا يفهم سبب تعلقنا بشيء شاق وبلا عائد مثل الكتابة. فتوقفت عن الكتابة في عمر 16، لأعود إليها بعد 12 سنة بالضبط، بتحفيز من شقيقتي الصغرى التي انجذبت بدورها إلى الكتابة، ولما شاركتها ما قاله أخونا الأكبر لي، كان ردها مختلفا: لن أتوقف أبدا.
حينها كانت المنتديات في أوجها، ولم يعد المرء منحصرا في محيطه، بل اتسع العالم أمامه. هكذا ركضت إلى الشعر مرة أخرى، في الثامنة والعشرين، وجلست إلى حاسوبي لأكتب شيئا شبيها بما كنت قد توقفت عنه؛ لتعود محبة الشعر إلى دمي مثل عدوى انتكست. فصرت قارئة نهمة له، منقادة لمشيئته في أن يلف بي بحره الشاسع، ويقلبني بين أمواجه مثل مركب صيد تائه. لكنه في الحقيقة، أوصلني إلى بيتي، وصرنا نلتقي كل يوم مثل صديقين حميمين: مركب وبحر.
هل للمركب معنى من دون بحر أو نهر؟ لكنه لم يعرف أنه خلق للبحر، حتى دفعه أحدهم إليه، واستغرقه تعلم السباحة وقتا، بعدها لم يعد يريد غيرها في الحياة.