"عانس بمزاجي".. قصص مصريات يواجهن المجتمع بأفكار جريئة
"ضِل (ظل) راجل ولا ضل حيطة" مثل مصري قديم تبرر به كثير من المصريات زيجات غير متكافئة خوفا من العنوسة، لكن على الجانب الآخر هناك فتيات رفضن الوقوع أسيرات للمثل، وضغوط الأهل، حتى لو حصلن على لقب عانس.
عدد لا بأس به من الفتيات اخترن أن يبقين دون زواج حتى شارفن على -أو تخطين- سن الأربعين، وتحمل كل منهن أسبابها الخاصة، لكنهن يشتركن في بناء اختيارهن على أسباب منطقية، ويستطعن مواجهة الأهل والمجتمع المحيط بأفكارهن بكل جرأة، بل ويعلنها على مواقع التواصل الاجتماعي.
ويتمتع معظمهن بقدر معقول من الثقافة -منهن صحفيات ومذيعات ومعلمات وعاملات بمجالات فنية مختلفة- وكذلك القدرة على الدفاع عن أفكارهن دون خجل من وصفهن بالعوانس.
وأطلق بعضهن صفحات ومجموعات على موقع التواصل فيسبوك، تحمل أسماء "عانس وأفتخر، يوميات عانس، لست عانس" ليتشاركن الأفكار.
الجزيرة نت حاورت عددا من الفتيات للوقوف على آرائهن في هذا السياق، وكيف يواجهن تقاليد المجتمعات المحيطة بهن.
سؤال مؤرق
هبة تخطت مطلع مايو/أيار الماضي (36 عاما) وهي خريجة كلية آداب قسم إعلام، وتعمل صحفية منذ تخرجها تقول: في البداية كان يؤرقني سؤال أهلي الدائم لي "متى سنفرح بك؟" ولأنني أصلا من خارج القاهرة -رغم كوني أسكن بمدينة- فإن هذا الموضوع يمثل عبئا كبيرا على كل فتاة تفكر حتى في رفض عريس تقدم لها.
وبمرور الوقت -تقول هبة للجزيرة نت- أصبحت أمي أقل إلحاحا خاصة وأنها تتابع نجاحاتي في عملي والترقيات المتوالية كون والدي متوفى منذ سنوات، ثم التحاقي بالعمل كمعدة بإحدى القنوات الفضائية بعد أن أقنعتها بأن الزواج سيعطل انطلاقي إلى ما أسعى إليه من العمل مذيعة.
ولكن هذا التصالح مع والدتي ينتهي -تقول هبة- وتتغير ملامحها حين نقابل أفراد العائلة وتسأل إحداهن "مقربناش نفرح بيكي؟" (متى نفرح بك؟) ويتجدد إلحاح والدتي في قصة الزواج لأعود إلى ردي الدائم بأن الزواج التقليدي -عن غير حب ومعرفة جيدة- غير مضمون، وأنني أفضل البقاء حرة بدلا من الدخول في مشاكل لا تنتهي، وأذكر والدتي ببنات قريبات وجارات يعشن تعاسة كبيرة.
مخاوف تكرار المآسي
ترددت داليا التي شارفت على الأربعين كثيرا قبل أن تبوح بسر بقائها دون زواج رغم كثرة الخُطاب الذين يطرقون بابها -بحسب كلامها- لخوفها من أن تجرح بكلامها أقرب الناس إليها، وصديقات لها، وزميلات بالعمل.
وأكدت للجزيرة نت أنها كانت ترى التعاسة مرسومة على وجوه أقرب أقاربها وداخل الدوائر الضيقة المحيطة بها بعد مرور شهور قليلة من الزواج، ثم تتنامى المشاكل لتصل إلى مشاجرات كبيرة، ولم تنس -منذ طفولتها- قصة جارهم في الشقة المجاورة الذي رمى الزيت الساخن على وجه زوجته لمجرد أنها تأخرت بإعداد طعام الغداء عقب عودته من العمل، وشوه وجهها لآخر العمر.
فشل الطبيب النفسي
وتستدرك داليا قائلة: أنا أعلم أن الصورة ليست بتلك القتامة في كل البيوت، ولكني محملة بذكريات لحوادث مشابهة، وقد أخذني والدي ذات مرة إلى طبيب نفسي دون أن يخبرني إلا أمام عيادة الطبيب، وقد تداركت ارتباكه وهو يخبرني فهدأت من روعه.
ولم يفلح الطبيب في تغيير قناعاتي، أو بمعنى أدق فشل في التغلب على المخاوف الساكنة بداخلي من تكرار سيناريوهات التعاسة التي رأيتها كثيرا، وشيئا فشيئا خف الصراع المتكرر بيني وبين أهلي حول ضرورة الزواج وسلموا أمرهم لله، حسب قول داليا.
لا زواج بلا حب ولا سعادة زوجية بلا مشاعر، هكذا بدأت ياسمين (33 عاما) والتي أوضحت أن وجود علاقة تسودها المشاعر والتفاهم هي شرط الزواج الذي يدوم دون مشاكل كبرى، مؤكدة أنها لم تقابل بعد من تراه مناسبا لتحريك مشاعرها وإقناعها بدخول عش الزوجية.
ردود قاسية
وأضافت ياسمين للجزيرة نت أنها تواجه المجتمع حولها بكل رباطة جأش، وربما ترد ردودا قاسية على من ينتقدها أو حتى يلح عليها بضرورة الزواج أو يقول لها الجملة التي تراها خادعة ومملة "البنت تفضل ضيفة على بيت أبيها وملهاش (وليس لها) غير بيت زوجها في النهاية".
كأنها ندمت
آيات خريجة كلية الفنون الجميلة تخطت الأربعين عاما دون زواج بعد أن رفضت كل من تقدم لخطبتها من الأقارب والجيران انتظارا للحبيب الذي رفضه أهلها رغم طلب يدها مرارا، وإلحاحها على والديها لقبول زميل دراستها "شادي" لكنهم كانوا يرفضونه بحجة أن ما يزال لم يضمن مستقبله بعد.
وقالت للجزيرة نت إنها استجمعت شجاعتها آخر مرة رفضوا فيها شادي وأخبرتهم، وهي تقسم اليمين، أنها إذا لم تتزوج من حبيبها فلن تتزوج من أحد آخر مهما كان، مؤكدة أنها بارة بقسمها حتى الآن، رغم زواجه بعدما سافر إلى الأردن ليعمل هناك منذ سنوات.
لست مهتمة -تكمل آيات- بما يقال عن سبب تأخر زواجي سواء بالعمل أو بمحيطي العائلي، ولكني الآن -للحقيقة- بدأت أحن إلى أن أصبح أما لأطفال، وأعتقد أني سأكون أما ناجحة لأني أعشق أبناء إخوتي وهم يحبونني كثيرا، وطرحت سؤالا بدا من كلامها أنها تطرحه على نفسها قبل أن تطرحه علينا: هل يمكن أن أجد زوجا مناسبا بعد وصولي لهذه السن؟!
ثمن مغالاة الأهل
يفرق محمود حماد الباحث بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية بين العنوسة الإجبارية والاختيارية؛ فهناك من تجبرهن مغالاة أهلهن في المهور وبطلبات ترهق المتقدمين لبناتهم حتى يكبرن ويصلن إلى سن يتراجع معه المتقدمون حتى يختفون تماما، ويدفعن ثمن تشدد أهلهن.
وهؤلاء -حسب كلام حماد للجزيرة نت- ينظر لهن المجتمع المحيط بهن بنوع من الشفقة، على عكس النظرة تجاه اللواتي يرفضن الزواج ويخترن العنوسة لأسباب تخصهن، فهن من يكثر الحديث عنهن في مجالس النميمة سواء في العائلة والعمل.
مضطربات أم مستقرات نفسيا؟
المدهش -حسب كلام استشارية علم النفس آمنة جمال- أن النوع الثاني الذي يلاقي استهجانا من المجتمع هن الأكثر صمودا ويتمتعن بالاستقرار النفسي، وعلى العكس تماما ممن أجبرن على التأخر في الزواج سواء لتعنت الأهل أو لم يكن لهن نصيب لأسباب تتعلق بالمظهر، أو بسبب وجود إخوة أو أقارب لهن من ذوي السمعة السيئة، أو ممن المعروف عنهم دخولهم بمشاكل ومشاجرات داخل المنطقة مثلا.
وتؤكد آمنة للجزيرة نت أن من اخترن العنوسة فهي لأسباب تجعلهن يشعرن بتعويض عن نظرات المجتمع المؤلمة لهن كالنجاح بالعمل، أو انتظار فارس الأحلام أو حتى الحياة في قصة حب.
وبينما المجبرات يصبن على تأخر سن الزواج بأمراض نفسية، فإنه يؤثر عليهن ويسبب لهن أمراضا عضوية، وربما يفكرن في الانتحار.
وطبقا لتقرير حديث صادر عن الجهاز المركزي المصري للتعبئة والإحصاء (حكومي) فإن عدد العوانس -وعرفهم بمن تخطى 30 عاما- بلغ 13.5 مليونا منه 11 مليون فتاة، والباقي من الشباب.