الاعتذار عن الماضي الاستعماري ؟ ... الصَلَفْ البريطاني والفرنسي !
أحمد عبدالباسط الرجوب
جو 24 :
ملك بلجيكا يلحق بايطاليا ويعرب عن أسفه العميق إزاء ماضي البلاد الاستعماري في الكونجو الديمقراطية ...
فرنسا وبريطانيا: لا اعتذار وعدم التراجع عن التاريخ الاستعماري الاستبدادي...
الاستعمار مصطلح يشير إلى ظاهرة سياسية، اجتماعية وثقافية تشمل إقامة مستوطنات أوروبية خارج أوروبا منذ القرن الخامس عشر واستيلاء الدول الأوروبية سياسيا واقتصاديا على مناطق واسعة في جميع القارات الأخرى، بما في ذلك إخضاع الشعوب القاطنة فيها لحكم الدول الأوروبية واستغلال كنوزها الطبيعية وإجبار واستغلال السكان المحليين للعمل سخرة لصالح الدول الأوروبية.
ما شدني لكتابة هذا المقال ما اتى من القصر الملكي في بروكسل في بلجيكا يوم الثلاثاء 30/6/2020 وعلى لسان الملك فيليب ملك بلجيكا عن عميق أسفه إزاء " المعاناة والإذلال " اللذين تعرضت لهما جمهورية الكونجو الديمقراطية خلال 75 عاما كانت فيها تحت الحكم البلجيكي ويعتبر هذا أول تعبير عن الأسف يقدمه ملك في الحكم في بلجيكا عن الماضي الاستعماري للمملكة ... جاء ذلك في رسالة بعث بها فيليب إلى رئيس الكونجو الديمقراطية فيليكس تشيسيكيدي بمناسبة الذكرى الستين للاستقلال ، ... اقتبس من رسالة ملك بلجيكا " أريد أن أعرب عن عميق أسفي إزاء جراح الماضي تلك، والتي لا يزال التمييز الموجود في مجتمعاتنا يحيي ألمها بشكل منتظم". ... انتهى الاقتباس..
وللتنويه في هذا الايطار فان جمهورية الكونجو الديمقراطية (كانت تعرف في السابق باسم زائير وذلك في الفترة بين عامي 1971 – 1997 في ظل الحكم الدكتاتوري لموبوتو سيسي سيكو)، الواقعة في وسط أفريقيا قد حصلت على استقلالها عام 1960، بعد أن كانت مستعمرة بلجيكية لمدة 52 عاما. ويقدر أن ملايين الكونجوليين لقوا حتفهم بين عامي 1885 و1908 بعد أن أعلن الملك ليوبولد الثاني أنها ملكية خاصة له.
الاستعمار هو عملية إخضاع جماعة من الناس لحكم أجنبي غاصب، ويسمى سكان تلك البلاد بالمُستعمَرين، وتسمى الأراضي الواقعة تحت الاحتلال البلاد المُستعمَرة. ومعظم المستعمرات مفصولة عن الدولة المستعمِرة (بكسر الميم الثانية) ببحار ومحيطات وقارات شاسعة. وغالبا ما ترسل الدولة الأجنبية سكانها وربما جيوشها وقادة عسكريين للعيش في تلك المستعمرات والسيطرة التامة عليها بالقوة والإخضاع وحكمها واستغلال مصادر ثروتها ومنتجاتها المحلية لصالحها. وهذا ما يجعل حكام المستعمرات منفصلين عرقيًّا عن المحكومين المغلوبين على أمرهم.
تُعد ظاهرة الاستعمار التاريخية، واحدة من الظواهر التي انتشرت في جميع أنحاء العالم عبر الزمان .. بدأت دولة الاستعمار الحديث العالمي، أوالإمبريالية، في القرن ال15 تزامنًا مع"عصر الاستكشاف"، مُنقادة بالاستكشاف البرتغالي والإسباني للأمريكتين، وسواحل أفريقيا والشرق الأوسط والهند وشرق آسيا. وخلال القرنين ال16 وال17، أسست انجلترا وفرنسا والجمهورية الهولندية إمبراطورياتهم الخاصة وراء البحار، في ظل منافسة مباشرة مع بعضهم البعض. وشهدت نهاية القرن ال 18 وأوائل القرن ال 19، الحقبة الأولى من إنهاء الاستعمار، عندما نالت معظم المستعمرات الأوروبية في الأمريكتين استقلالها عن العواصم المعنية.
ضعفت إسبانيا بشكل لا رجعة فيه بعد خسارة مستعمراتها في العالم الجديد، ولكن وجهت مملكة بريطانيا العظمى ( بعد توحد اسكتلندا مع إنجلترا وويلز)، وفرنسا، والبرتغال، وهولندا اهتمامهم إلى العالم القديم، وخاصة جنوب أفريقيا، والهند، و جنوب شرق آسيا، حيث أُنشأت بالفعل المستوطنات الساحلية. وأدت الثورة الصناعية الثانية، في القرن ال19، إلى ما أُصطلح على تسميته بعصر الإمبريالية الجديدة، عندما تسارعت وتيرة الاستعمار سريعًا، وكان أعلاها في إفريقيا، حيث كانت بلجيكا صاحبة النصيب الأكبر وكانت ألمانيا الشريك صاحب النصيب الأقل.
وفي غضون القرن ال20، وُزعت مستعمرات الخاسرين في الحرب العالمية الأولى بين المنتصرين بوصفها ولايات، ولكن لم تبدأ المرحلة الثانية من إنهاء الاستعمار جديًا إلا بنهاية الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1999، تنازل البرتغال عن المستعمرة الأوروبية الأخيرة في آسيا، ماكاو، إلى الصين، وأنهى بذلك، الحقبة التي استمرت ستمائة سنة.
الصلف البريطاني والفرنسي ... عدم التراجع عن التاريخ الاستعماري
تستمر بعض الدول الاستعمارية في تفاديها الاعتذار عن الماضي الكولونيالي الاستعماري، في ظل وجود مطالب دائمة بضرورة اعتذارها. والدول أو القوى المقصودة هنا هي تلك التي انتهت من ممارسة الفعل الاستعماري العسكري المباشر، حيث يبدو أنه هناك ميثاق شرف يجمع بين الدول الاستعمارية في عدم الاعتذار، يقوم على مبدأ " أن الأبناء والأحفاد لا يمكن أن يعتذروا عما فعله الآباء والأجداد!".
فعلى سبيل المثال تطالب الجزائر منذ استقلالها عام 1962م باعتذار فرنسي رسمي عن جرائم الاستعمار الفرنسي إبان الثورة الجزائرية، ولم يتم الاعتذار بشكل مباشر من قبل فرنسا حتى اليوم، فمن ساركوزي إلى هولاند تماثلت تصريحات الرئيسين السابقين في التوجه نحو نسيان وطي صفحة الماضي والتركيز على المستقبل دون اعتذار.
والرئيس الفرنسي الحالي ماكرون على الرغم من تصريحاته إبان الحملة الانتخابية الناقدة للماضي الفرنسي الكولونيالي، فإنه لم يقدم بعد تسلمه الحكم وحتى اليوم اعتذاراً رسمياً واضحاً للشعب الجزائري.
بريطانيا من جانب آخر، لم تعتذر للشعب الفلسطيني على وعد بلفور الذي مهّد لإنشاء " الكيان الصهيوني الغاصب " على الأرض الفلسطينية؛ بل تتباهى اليوم وتحتفل به على لسان رؤساء حكوماتها وبخاصة رئيسة حكومتها، تيريزا ماي، بعد قرن من إطلاقه المشؤوم...
لا تزال الإمبراطورية البريطانية مثلا حاضرة في بعض مناطق العالم سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. مثلا لا تزال حاضرة في جزر «فوكلاند» في أقصى جنوب قارة أمريكا الجنوبية بمحاذاة الأرجنتين وكذلك في شمال أيرلندا فيما تسمى " أيرلندا الشمالية "، وحتى وقت ليس ببعيد كانت لا تزال تستعمر " هونج كونج " حتى أعادتها بعد 156 سنة من السيطرة، منها 99 سنة من اتفاقية استئجار إلى الصين في عام 1997. وهناك دول كبيرة ومهمة في المنظومة الأممية لا تزال أعلامها تشمل العلم البريطاني ولا تزال تدين بالولاء للملكة إليزابيث الثانية، مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا وجاميكا وجزر البهاما وبربادوس وجرينادا وجزر سليمان وجزر أنتيجوا وبربودا وهندوراس وبابو غينيا الجديدة، وغيرها الكثير من الجزر الصغيرة المنتشرة حول العالم إلى يومنا هذا!
ألمانيا وإيطاليا: نماذج مارست الاعتذار .. كل على هواهّ!
منذ عام 1952م، وبموجب اتفاقية عرفت باسم لكوسمبورغ (اجبار المانيا)، .. وألمانيا تدفع تعويضات إلى من يُعرفون بضحايا الهولوكست اليهود!، كاعتذار رسمي متواصل عن أفعال النازية الألمانية بحق اليهود إبان حكم هتلر ومما يجدر الاشارة اليه فإن ألمانيا لم يأتِ اعتذارها لليهود من باب تحسين العلاقات فحسب، فقوة الضغط اللوبي الصهيوني المحتل لفلسطين والدعم الأميركي اللامحدود له جعله يستطيع فرض شروطه على ألمانيا...
أما إيطاليا، فمثلت استثناءً مقارنة مع بقية الدول الاستعمارية، حيث اعتذرت في عام 2008م عن حقبة الاستعمار بشكل رسمي على لسان رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني، الذي تعهد بدفع بلاده 5 مليارات دولار تعويضات في شكل استثمارات على مدى 25 عاماً ، وهنا نتفهم الاعتذار الايطالي الى ليبيا والذي اتى انعكاساً لمدى قراءة إيطاليا لحجمها السياسي، إلى جانب حماية مصالحها واستثماراتها في ليبيا...
وفي مختصر الكلام ... لا يستطيع اي باحث او كاتب ان يتجاوز عن البطش البريطاني الاستعماري وعن التواجد والآثار والمشاكل التي خلفتها وراءها في كل دولة من الدول العربية فتحتاج إلى مقالات منفردة للنظر فيما تركتها من معضلات، لا سيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية و" وعد بلفور" المشؤوم كما اسلفنا وتسليمها لقمة سائغة ليهود الشتات. إنها تلك المملكة الاستعمارية التي لم يكن يغيب عنها الشمس من أقصى الشرق حتى أقصى الغرب من العالم التي سرقت ونهبت واستغلت الأمم من أجل ثرائها ومصالحها، هي ذاتها التي تتحدث عن الحقوق وتنتقد الحكومات وتتبنى الحركات الثورية وتؤوي لديها المجرمين والمخربين وتعطيهم الأمان في ديارها.. لم تتغير أجندتها الاستعمارية ولم تعتذر يومًا عن كل ما اقترفته من مجازر ونهب استعماري واستعباد لشعوب الأرض.
صفوة القول ... ان عدم الاعتذار من الدول الاستعمارية يعني استمرار الاستعمار فالتاريخ لا يمكن أن يطوي صفحاته من تلقاء نفسه، وعليه فإن طي صفحة أي ماضٍ استعماري بحاجة إلى اعتذار سياسي يصاحبه فعل سياسي شجاع يجرّم كل ما من شأنه المسّ بالحقوق الإنسانية والطبيعية ... إن تفادي فرنسا الاعتذار عن ماضيها الاستعماري وتباهي بريطانيا بوعد بلفور لا يمكن فهمه إلا في إطار عدم الرغبة في التخلص من هذا الإرث الظلامي، حيث ما زالت الشهوات الاستعمارية تسيطر على كل من فرنسا وبريطانيا، سواء في الشرق الأوسط أو القارة الإفريقية.
ختاما ... يمثل عدم الاعتذار ميثاق شرف بين هذه الدول الاستعمارية، وفي المقابل لا يوجد ميثاق من أي نوع بين الدول العربية التي وقع عليها الاستعمار، والتي تشترك في الماضي والمصير نفسيهما، حيث نجد كل دولة عربية تبني وتصوغ سياساتها وفقاً لأجندتها القطرية الخاصة.
وعليه... ، فإن الدول العربية لن تنال كلمة واحدة من كلمات الأسف والاعتذار إلا بإبرام ميثاق شرف فيما بينها يقوم على تجريم وملاحقة ومحاربة كل من مارس ويمارس الاستعمار أو أي فعل من شأنه أن يخدم أهداف الاستعمار.
باحث ومخطط استراتيجي
arajoub21@yahoo.com