العمل من المنزل: كيف يزيد العمل عن بعد قدرتك على الإنتاج؟
جو 24 :
في خضمّ أزمة وباء كورونا أصبح تفعيل نظام "العمل من المنزل”، أمرا شائعا بالنسبة للكثيرين.
ورغم أن هذا الأسلوب لم يعد غريبا علينا الآن كما كان سابقا، فذلك لا يُنسينا أنه ظل ذا طابع غير مألوف قبل حدوث الأزمة الراهنة، وأن من يمارسونه كانوا يلاحَقون بالانتقادات، ويوصمون بصفات سلبية كذلك.
من بين مَن يتبنون هذا الرأي؛ نيكولاس بلوم، أستاذ بجامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا الأمريكية، الذي يقول: "هل سبق لك أن استخدمت محرك غوغل للبحث عن الصور المرتبطة بعبارة `العمل من المنزل`، وطالعت أول 20 صورة تظهر لك في هذا الإطار؟
ستجد هذه الصور لأناس عراة في الأساس؛ فواحدة منها مثلا تُظهر رجلا يحتسي كأسا من شمبانيا وهو يجلس في ما يبدو حوض استحمام بالماء الساخن `جاكوزي`. مما يعني أنه لا يوجد بينها صور إيجابية”.
ويرى بلوم، الذي كرّس مسيرته المهنية لدراسة الممارسات والأساليب المتبعة في بيئة العمل ومن بينها "العمل عن بُعد”، أن نظرة الناس لهذا الأسلوب تتغير الآن أخيرا.
ويوضح بالقول إن من بين "الجوانب المضيئة القليلة في أزمة `كوفيد – 19` أنها ستقود إلى تفعيل أسلوب العمل من المنزل، وتحويله من أحد الأساليب الهامشية في هذا المضمار، إلى تكنيك رئيسي يشيع استخدامه في مختلف الأنحاء”.
وعلى أي حال، بدأت الخطوات العملية لتعميم هذا النظام بالفعل، مع إعلان شركات مثل تويتر وفوجيتسو، خططا لجعل "العمل من المنزل” خيارا متاحا بشكل دائم لموظفيها، حتى بعد انتهاء الوباء الحالي.
اللافت أن دراسة أجراها بلوم عام 2013، كانت قد توقعت حدوث ذلك بشكل ما. وفي هذه الدراسة، تعاون الرجل مع شركة صينية لدراسة مستوى الإنتاجية الناجم عن تطبيق أسلوب "العمل من المنزل”.
وجاءت النتائج مفاجئة إلى حد ما لهذا الباحث؛ إذ أظهرت أن العاملين في الشركة، أصبحوا أكثر إنتاجية على نحو ملحوظ، عندما اتبعوا هذا الأسلوب لأربعة أيام في الأسبوع.
والآن، وبعد ستة أشهر على اجتياح وباء كورونا للعالم؛ يتزايد عدد الشركات التي باتت تتساءل، عما إذا كان سيتعين على موظفيها تطبيق نظام "العمل من المنزل” إلى أجل غير مسمى أم لا، وما إذا كان معدل إنتاجية العاملين فيها سيشهد قفزة، إذا قررت إجراء تغييرات تنظيمية واسعة فيها، لتعزيز أسلوب "العمل عن بُعد”.
تفاصيل التجربة
بدأت التجربة التي أجراها بلوم قبل سنوات، عندما أصبح جيمس ليانغ رئيسُ مجلس إدارة وكالة "تريب دوت كوم غروب”، وهي أكبر وكالة للرحلات تعمل عبر شبكة الإنترنت في الصين، واحدا من طلاب صفوف الدراسات العليا التي يُدرّس لها بلوم في جامعة ستانفورد.
وقد تأسست الوكالة التي يديرها ليانغ، في عام 1999، وكانت تحمل في السابق اسم "سي تريب”. وخلال فترة تتلمذه على يديْه، شرح ليانغ لـ "بلوم”، مدى ارتفاع تكاليف استئجار العقارات أو شرائها في مدينة شنغهاي الصينية>
وكشف له أيضا عن ضخامة المبالغ المطلوبة لصيانة مقار وكالته هناك، وقال إن ذلك يدفعه للتفكير في السماح لموظفيه بالعمل من المنزل، لتقليص هذه الأعباء المادية الكبيرة.
وقد أثار ذلك اهتمام بلوم، الذي يعكف منذ وقت طويل على بحث ما إذا كان بوسع الشركات الكبرى الناجحة، تطبيق نظام "العمل من المنزل”، دون أن يؤثر ذلك على نجاحها. وأفضى ذلك، إلى أن يُكوِّن مع ليانغ، فريقا يسعى لإيجاد إجابة لهذا السؤال.
بدأت التجربة التي استمرت تسعة أشهر، باختيار 1000 من موظفي الوكالة، ممن تطوعوا لكي يُشكِلّوا عينة البحث، ثم تقسيمهم إلى مجموعتيْن بحسب تاريخ ميلاد كل منهم. فمن وُلِدوا في أيام زوجية، كُلِفوا بالعمل أربعة أيام من أصل خمسة أسبوعيا، من المنزل.
أما مواليد الأيام الفردية، فتعين عليهم العمل من مقر الوكالة كالمعتاد، طيلة الأسبوع.
أظهرت دراسة أُجريت في الصين قبل سنوات أن إنتاجية العاملين زادت بنسبة 13 في المئة عندما عَمِلوا من المنزل يوما واحدا في الأسبوع
أظهرت دراسة أُجريت في الصين قبل سنوات أن إنتاجية العاملين زادت بنسبة 13 في المئة عندما عَمِلوا من المنزل يوما واحدا في الأسبوع
بعد ذلك، بدأ القائمون على الدراسة متابعة أداء المجموعتين، وهو ما كان أمرا يسيرا، في ضوء أن أفراد العينة كُلّفوا بمهام روتينية وواضحة، يمكن من خلال تقييم مستوى أدائهم لها، تحديد حجم الإنتاجية دون عناء.
وكان من بين الأساليب المتبعة لتقييم إنتاجيتهم في إطار التجربة، التعرف على عدد الحجوزات التي يُدخلها الموظف منهم على قاعدة البيانات، أو الاتصالات الهاتفية التي يجريها.
وبعد مرور الشهور التسعة، اكتشف الباحثون أن إنتاجية من عَمِلوا من المنزل، كانت أكثر بنسبة 13 في المئة من أقرانهم الذين بقوا طوال الوقت في مقر العمل. وشكّل ذلك مفاجأة لبلوم، الذي كان يتوقع أن تتراجع كفاءة العاملين، الذين سيتبعون هذا النظام.
وأشارت الدراسة إلى أن أربعة في المئة من نسبة الزيادة في الإنتاجية، نجمت عن قدرة مَن عَمِلوا من المنزل، على إنجاز عدد أكبر من المهام في وقت واحد، نظرا لوجود قدر أقل من عوامل تشتيت الانتباه.
وقد أوضح بلوم في هذا الصدد، أن إحدى الموظفات قالت له مثلا إنها شعرت بالسعادة والراحة، لأنها لم تعد مضطرة، نظرا لأنها تعمل من المنزل، لمشاهدة زميلتها في المكتب، خلال تقليمها لأظافر قدميْها.
أما التسعة في المئة المتبقية من نسبة الزيادة، فقد أُرجعت إلى أن مَن بقوا في المنزل، عَمِلوا لوقت أطول، وهو ما يُعزى –بحسب بلوم- إلى أن "العمل من المنزل”، وفّر على مَن قاموا به، الوقت الذي كانوا يقضونه في رحلتَي الذهاب إلى العمل والعودة منه.
كما أدى تطبيق هذا النظام، إلى جعل الاستراحة الخاصة بتناول وجبة الغداء أقصر، فضلا عن أن العاملين، حصلوا على إجازات مرضية أقل، عندما أنجزوا مهامهم الوظيفية من منازلهم.
على أية حال، قرر ليانغ بعد انتهاء التجربة، عدم تطبيق نظام "العمل من المنزل” بشكل دائم. اللافت أن بلوم يروي أنه التقى مؤخرا، ببعض ممن عَمِلوا من المنزل خلال تلك التجربة، ثم عادوا لاتباع الأسلوب نفسه بعد أن أصبح سياسة متبعة بشكل فعلي، خلال فترة الوباء.
وأشار إلى أن لقاءاته بهم، كشفت عن أن نصفهم غيّروا موقفهم من هذا الأسلوب، وقالوا إنه كان أكثر صعوبة، عندما طبّقوه خلال الشهور القليلة الماضية، إذ أشاروا إلى أنهم شعروا بالعزلة عندما اتبعوه هذه المرة.
لكن نتائج "العمل من المنزل” بسبب وباء كورونا، كانت أكثر إيجابية بالنسبة للنصف الآخر من هؤلاء الأشخاص، بعدما تبين أن إنتاجيتهم قفزت من 13 في المئة -كما كانت خلال التجربة التي أُجريت قبل سنوات- إلى أكثر من 20 في المئة.
متغيرات مهمة
مرأة تعمل من المنزل
تفيد البيانات المُستقاة من الدراسة التي أجراها بلوم، بأن العامل ربما سيصبح أكثر إنتاجية بكثير إذا اتبع نظام "العمل من المنزل” لأمد طويل، لكن ذلك لا يحدث في كل الحالات.
ففي التجربة التي أجراها بلوم مع وكالة الرحلات الصينية، كانت هناك ثلاثة متطلبات يتعين على الراغب في المشاركة استيفاؤها، قبل الموافقة على أن يكون من بين أفراد عينة البحث؛ وهي ألا يكون لديه أطفال، وأن تتوافر في منزله غرفة تصلح للعمل منها بخلاف غرفة النوم، وأن يحظى بخدمة إنترنت تعمل بتقنية النطاق العريض، مثبتة على الجهاز الذي تمنحه له الوكالة، لاستخدامه من المنزل.
ويعني ذلك، أنه ما من ضمانة، لأن يؤدي تطبيق نظام "العمل من المنزل” إلى زيادة إنتاجية العاملين من الآباء والأمهات، أو ممن لا يتمتعون بقدرة على الاتصال بخدمة إنترنت سريعة.
وتشير ليندا غراتان، أستاذة في كلية لندن لإدارة الأعمال، إلى عوامل أخرى تؤثر في حجم إنتاجية مَن يعملون من المنزل، قائلة إن تجربة بلوم كانت سهلة في إجرائها، لأنها اعتمدت على تكليف العاملين بمهام تتشابه من يوم لآخر، ويسهل قياسها والتعرف على حجم إنتاجية مَن اضطلعوا بها، مثل إجراء اتصالات هاتفية وحجوزات لرحلات.
ويعني ذلك أنه سيكون من العسير القيام بتجربة مماثلة والخروج منها بنتائج واضحة، إذا كانت المهام الموكولة لمَن يقومون بالعمل من المنزل، غير قابلة للإحصاء والعدّ، ولا تتكرر بنفس الوتيرة كلّ يوم.
رغم ذلك، تقول غراتان -التي تتخصص في دراسة التطورات المستقبلية التي يُتوقع أن تطرأ على بيئة العمل- إن غالبية المديرين التنفيذيين، الذين حدّثوها عن تجربتهم مع تطبيق نظام العمل من المنزل خلال فترة الوباء، أشاروا إلى أن العاملين لديهم ممن يُكلّفون بما يُعرف بـ "المهام المعرفية”، وهي تلك المهام غير النمطية وغير القابلة للعدّ أيضا، أصبحوا بدورهم أكثر إنتاجية.
وتُسلّط الأستاذة الجامعية الضوء أيضا، على حقيقة أن العمل من المنزل، يبرز أوجه عدم المساواة بين العاملين. فمن الصعب أن تكون مُنتجا، إذا كان الوضع في منزلك لا يلائم فكرة قيامك بعملك منه، كأن تقطن شقة ضيقة تفتقر لغرفة مكتب مثلا. فليس لدى الجميع، حجرة خاوية في المنزل، تصلح لأن يعملوا منها، كما كانت الحال، في التجربة التي أجراها بلوم.
الشعور بالانفصال عن عملك وزملائك
لا توجد ضمانة بأن يؤدي تطبيق نظام "العمل من المنزل" إلى زيادة إنتاجية كل من يطبقونه، إذ سيواجه البعض صعوبات في هذا الصدد، مثل من لديهم أطفال يتلقون دروسهم في المنازل عن بعد
لا توجد ضمانة بأن يؤدي تطبيق نظام "العمل من المنزل” إلى زيادة إنتاجية كل من يطبقونه، إذ سيواجه البعض صعوبات في هذا الصدد
من جهة أخرى يتعين علينا ألا نغفل الجانب المتعلق بالتأثيرات النفسية المترتبة على عدم رؤيتك لزملائك في الشركة أو المؤسسة حال تطبيق نظام العمل من المنزل على نطاق واسع ولفترة طويلة.
ويُشكل ذلك أمرا مُهما يتعيّن وضعه في الحسبان، نظرا لأن المضي على درب تطبيق هذا النظام، قد يجعلك لا ترى زملاءك فعليا بعد ذلك على الإطلاق. فقد يقتصر يومك في العمل في هذه الحالة، كما تقول غراتان، على إجراء اتصالات عبر تطبيقات مثل زووم.
غير أن غراتان تؤكد أهمية حدوث اتصالات شخصية، بين الزملاء في مكان العمل الواحد. وتشير إلى أنها لا تعتقد أن بوسع كل شركات العالم، تطبيق التجربة التي شهدتها وكالة السفر الصينية هذه، وأشرف عليها البروفيسور بلوم.
وتوضح بالقول إن اللقاءات العرضية لا تزال مهمة في العديد من أماكن العمل، كأن ترى زملاءك في الردهات وأن تلتقي بهم صدفة، مشيرة إلى أن كثيرا من القرارات المتعلقة بتفاصيل إدارة المؤسسات التي نعمل فيها "لا تُتخذ في غرف الاجتماعات، وإنما في الأروقة والممرات بين المكاتب”.
أما إدي أوبنغ، وهو مؤسس كلية لإدارة الأعمال تعطي دروسها للطلاب عبر الإنترنت، فيقول إنه يشعر بالقلق حيال الشعور بالعزلة والوحدة الذي يراود مَن يخضعون لنظام العمل من المنزل، وذلك في ظل غياب التفاعلات الشخصية المهمة التي تدور في بيئة العمل المعتادة بينهم وبين زملائهم.
وتعزز وجهة نظر هذا الرجل من واقع تجربة كريستي جونسون التي تدير شركة لتقديم الاستشارات تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها ويعمل كل موظفيها من المنزل.
وتقول كريستي إن الشعور بالعزلة، كان أبرز الأسباب التي ساقها مَن تركوا العمل في الشركة، خلال عامها الأول كمديرة.
ولذا تحاول هذه السيدة، تنظيم اجتماعات سنوية، يجتمع فيها الموظفون مع بعضهم بعضا، لتعويض افتقارهم للتواصل الشخصي، خاصة أن حدوث ذلك قد يؤدي لإضعاف الروح المعنوية، وتقليص معدل الإنتاجية.
كما تحاول كريستي إجراء محادثات مع موظفيها عصر كل يوم جمعة، بشأن خططهم لقضاء وقت الفراغ خلال عطلة نهاية الأسبوع.
وهي تحاكي بذلك الأحاديث التي يمكن أن تدور بالفعل بين الموظفين في مقار العمل في مثل هذا الوقت من كل أسبوع، بشأن العطلة الأسبوعية القادمة.
حتى بلوم نفسه، يرى أن العمل ليوم واحد من مقر الشركة نفسه يكتسي بأهمية بالغة على صعيد تحقيق الانسجام بين فريق العمل وإحداث التفاعلات الإيجابية بينهم. غير أنه يعود ويؤكد أن ذلك لا ينفي أهمية توسيع نطاق نظام العمل من المنزل، سواء في ظل وجود وباء أم لا.
ويشير بلوم إلى أن مزايا ذلك النظام تفوق عيوبَه. ويقول إن تلك المزايا –بحسب اعتقاده– ستكون "هائلة على المدى البعيد.
فلتتخيل أننا نخصص 20 في المئة من أيام عملنا للعمل من المنزل، مما يعني تقليص حركة الانتقال من المنزل إلى مكان العمل والعكس، بالنسبة نفسها، ويعني كذلك تمكيننا من العيش بعيدا عن مراكز المدن، لإعادة تنظيم شكل حياتنا، كما يتيح لنا الفرصة لأن ننعم بقدر من الهدوء والطمأنينة وراحة البال.
لذا أعتقد أن هذا النظام يعود علينا بفوائد جمّة إذا تعاملنا معه بشكل سليم”.بي بي سي