في ذكرى آخر رحلات بومبيو وعهده بمنطقة الخليج العربي وزيرا للخارجية الأمريكية
جو 24 :
على بساط سليمان -أعز الله سليمان وأجله- سافر بومبيو وزير الخارجية الأمريكية (وسيعقبه سريعا كوشنر) في رحلة مكوكية وسباق ماراثوني إلى الخليج العربي قبل الانتخابات الأمريكية، والتي تُظهر نتائجُها الأولية أن زيارته هذه ستكون -على الأغلب- الأخيرة وزيرا للخارجية، وسيكون هذا آخر عهده بالسلاطين والملوك والوزراء الذين تشرف بلقائهم في دول الخليج.
هذا اللهاث الذي تبذله الإدارة الأمريكية يصب في محاولة تحقيق إنجاز على مستوى اللوبي الصهيوني الأمريكي والخلفية الشعبية التي يتحكم بها لتعزيز الدفع بهم لدعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في سباقه ضد منافسه الديمقراطي جو بايدن، أقلُّ الأمر بتحقيق نصر لحلفائه بدولة الاحتلال بفلسطين قبل ترجله عن البيت الأبيض، وإضعاف الضعيف، وتقسيم المقسم أصلا، وهو الطرف الفلسطيني والعربي مقابل الكيان المحتل، وإيجاد قدم كذب في منظومات الدول العربية، لتسهيل اختراقها، والسيطرة على غرف صنع القرار فيها، وغسل دماغها وتوجيه بوصلة عدائها بينها وبين جيرانها الفرس في إيران، ومن تدعمهم الأخيرة من العرب دولا وأحزابا، بدعاوى عرقية وعقدية ومذهبية، وعدِّهم إياها العدوَ الأكبر وربما الأوحدَ للعرب، من ثم وفي ظل هذه الفوضى (الخلاقة) يتحقق ضمان تفوق كيان الاحتلال العسكري واللوجستي والاقتصادي والعلمي على الأمة العربية والأمة الفارسية والأمة الاسلامية عموما.... عملا أخيرا قبل أفوله السياسي بانتهاء فترته، وعدم التجديد له.
لقد كانت عمان آخر محطاته، وقد سألنا الله خير هذه الزيارة، واستعذنا به من شرها، ونحن إذ نقوم بذلك فإنا لا نشكك في العلاقة العريقة التي تربط عمان منذ القرن التاسع عشر بأمريكا الصديقة في صورتها الأصيلة التي قامت عليها بقيمها ومبادئها واحتضانها للحريات والعدالة داخلها وخارجها (غاضين الطرف عن أشكال من العنصرية الداخلية حينها، أو عن أصل إقامتها).
إلا أن النظام السياسي الأمريكي في إدارة البلد تتأرجح عنده هذه القيم وهذه الثوابت قربا وبعدا، ويتأرجح من ورائها العالم، سلما وحربا، رفعة وانحطاطا، إنسانية ومادية.
إن الفرق بين عمان و أمريكا من حيث الانحراف عن المبادئ والثبوت عليها، هو أن عمان لا تزال راسخة عليها منذ أساطينها الأولى في القرون الثلاثة الأخيرة، وتعززت تلكم القيم أكثر فأكثر في ظل باني النهضة الحديثة السلطان قابوس طيب الله ثراه، بينما باتت أمريكا القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين غير أمريكا القرن التاسع عشر.
لقد انحرفت أمريكا بعديد رئاساتها المتأخرة منذ نصف القرن العشرين (احتلال فلسطين، الحرب الفيتنامية إلخ) عن قيم العدالة، ولم تعد مصدر استقرار عالمي بقوتها، وقد بلغت الحضيض في الرئاسة الحالية، وكان القرن الواحد العشرون أسوء القرون، حيث انتشرت ظاهرة الدولة البلطجية، بدءا باحتلال العراق خارج مظلة القانون الدولي، وانتهاء بحقوق الإنسان والبيئة والأجيال القادمة والتفريط في جميعها، ونقض العهود والمواثيق الموقعة، وجميعها مواثيق سلام أمني وبيئي وحقوقي وإنساني عالمي، كانسحابها من الاتفاقية النووية الإيرانية التي من سُعَاتها الكبار عمان، وكانسحابها من مجلس حقوق الإنسان، واليونيسكو، واتفاقيات باريس للمناخ، واتفاقيات الأجواء المفتوحة، ومنظمة الصحة العالمية مؤخرا، مما حدى لتنامي ظاهرة بلطجية الدول ونقض العهود، فأعلنت أمريكا من جانب واحد القدس عاصمة الكيان المحتل، وتحركت الجيوش وانتشرت الحروب الظالمة خارج مظلة الأمم المتحدة، وقبح اللسان، وفَحُش القول، وتجاوب معه في فحشه العمل، وسقطت القيم، واستُمرِئتْ الخيانات، وكان الإنسان شيخا وطفلا وامرأة ضحية تلكم الأنظمة البلطجية والخارجة على القانون بالألوف، في شكل دول ومؤسسات ديمقراطية الشعارت، والتي توفر أمريكا لها (بالڤيتو وغيره) وخاصة برئاسة ترمب الحالية المظلة والغطاء الشرعي لممارسة الإجرام وتدمير الدول والشعوب، والسعيُ لتجديد تلكم المظلة -حمايةً للطغيان- حثيثٌ ودؤوب.
إن مقومات تحقيق السلام بالنسبة لقضية فلسطين قائمة فعلا بيد أمريكا (الشرطي والوصي -غير الشرعي- للكيان الصهيوني) وبيد دولة الاحتلال ذاتها، فلو صدقوا وأرادوه لكان، فبمجرد تطبيق القرارات الدولية وقيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشريف لحَقَّ التطبيع، وليس شيءٌ يعرقلهم عن ذلك إلا غرورهم وأهويتهم ومطامعهم، من ثم فأي أمرٍ أو عطاءٍ لكيان الاحتلال -وهو على تلك السوية من الغطرسة والظلم والقدرة - من قبل الدول والمؤسسات اليوم (عربية وغير عربية؛ والعربية أشد نكالا وأسوء إدانة) يعد فعليا خيانة، إذا ما عرَّفْنا الخيانة بحالة أو تعبير (قولي أو عملي) تقوم به جهة ما، مما يتسبب في تضييع حق مؤسسة أو جهة أخرى! فهو خيانة حقيقية للعدالة والقانون الدولي، فضلا عن خيانة المبادئ والقيم والمروءات، والتي هي أغلى من كل مال ومادة ومصلحة وقانون! والتطبيع المشوه الذي يُسَوَّق له الآن، وجاء به بومبيو مبشرا اليوم يقع في ذات الخانة، فهو سيقوم فعليا بتعقيد إقامة دولة فلسطين كما هي القرارات الدولية، وسيضعف المفاوض الفلسطيني، ويسقط حل الدولتين، ويمد في عملية مماطلة المحتل، وعملية تهجيره وظلمه، ويزيد من غلوه وغطرسته، وشعوره بالزهو، وسينعكس ذلك قتلا ودمارا وفتكا بالمستضعفين، وهو ما لم يؤخر الاحتلال تأويله، ولم يراع -حتى من باب الدبلوماسية والكياسة- المرحلة الحرجة التي يمر بها المطبعون، مما بلغ به من غلو وجبروت، فها هو ينفي تصريح ولي عهد الامارات في تغريدته عن إيقاف ضم أراضي الضفة كثمرة أولى ورئيسة من ثمرات التطبيع، وها هو يصرح بكل بجاحة بمعارضته لاتفاقية طائرات F-35 الأمريكية المقاتلة للإمارات، وهي لَمَّا توقعْ بعدُ وثيقة التطبيع معه! ثقةَ المغرور واستخفافا وقلة قيمة وتقدير لشريكه المطبع، وقبل ذلك وفوقه، ها هو يقوم بقصف غزة وتدميرها وقتل أهلها، لذلك ففي التطبيع القبيح المروج له خيانة ظاهرة بنتائجه الحتمية، والتي لم تنتظر طويلا، كما قررنا، حتى تبدت عيانا.
أرجو من الإخوة الساسة في عمان التماسك، وعدم الانجرار وراء من يرى أن المصلحة مهما أدت إلى مظالم فهي أولوية ومبررة، وأن التطبيع بوابة اقتصاد كبرى، فالمتمعنُ يدرك أن كلفة هذا التطبيع ستكون وخيمة اقتصاديا وأمنيا وثقافيا، وخسارةُ دولِه محققة، كذلك وحتى لا يموت الإنسان في داخلنا ولا في قلوبنا، وحتى لا نحمل مظالم الناس في رقابنا يوم يبعثون، كما ولا يستفزَنَّهم الضغوطاتُ ولا المغريات، فقد تكون زيارة بومبيو للخليج هي آخر عهده به في شهرين من الآن وزيرا للخارجية، فلا يَخْتُمَنَّ لنا سجلَنا الخارجيَ الأبيضَ الناصعَ غيرَ المنحاز لظلمٍ قبَل خروجه المرتقب وصاحبَه من البيت الأبيض -خَرَجَا الآن أو خرجا بعد أربع سنين جديدة- فلا يَخْتِمَنَّه بعارٍ تخجل منه عمان، ويخجل منه تاريخها، وتخجل منه الأجيال القادمة، ولا يوسمْ هذا العهدُ الميمون لهيثم الوفاء والمجد بتلك المثلبة الكبرى، التي لن يرحمنا التاريخ ولا سجلاته، ولن ترحمنا أقلامه، كما ولن ترحمنا دعوات المظلومين والمشردين ونقماتهم.
خاتمة القول؛ ما نحتاجه في عمان بل والعالم هو الهدوء، والاحتماء بقرارات الشرعية الدولية، فلعل أمريكا يوما ما تتخلص من الهيمنة الصهيونية على مفاصل صناعة القرار المختلفة فيها، فترجعَ لقيمها أمةً عادلة، تحرس المبادئ والإنسانَ بيئة ومسكنا ولقمة، وتنشر الأمان والسلام بين العالمين، وحينها ستجد عمان أنسب حليف لها في الخير، وأكرم داع معها للسلام، هذا أقل ما يمكن ويجب اليوم، ولسنا بحاجة لا لاعتراف، ولا لتطبيع، قبل قيام فلسطين، كما ولسنا بحاجة لتأليب ولا تقريع، يكفينا الانزواءُ بسياستنا الراسخة، وتمسكُنا -منهجا- بعدم الانحياز، إن لم نتمكن من شأنٍ فوق ذلك، ومن فَعَلَ وطَبَّعَ فقراره بيده، وليس هو بحاجة إلى التعليل باليهود، والتدليس فيهم، فلسنا في خصومة ضدهم ولا غيرهم، فكثير من اليهود يجهرون بعداوتهم لدولة الاحتلال، ويعدونها دولة تحرمها العقيدة اليهودية، ويطالبون بمحوها -وهم يهود- وإقامةِ فلسطينَ دولةً موحدة، كما واليهود في دول العرب كائنون، في تونس والمغرب وغيرهما، وكانوا في الأندلس قرونا، لم يرهبهم الإسلام ولا المسلمون، ومن هاجر إلى فلسطين المحتلة فقد هاجر من ذاته ولإغراءات الكيان للمستوطنين، ولم يُهجِّره أحد، فلا يرهقْ المطبعُ نفسه بالتزيين والتعليل، ولا من يفتي له بزعمه أن التطبيع مع اليهود، بل التطبيع مع كيان صهيوني عنصري مغتصب، اعترف به الغرب بل زرعه فأصبح دولة، هو شبيه بدولة الخلافة لداعش، ومجموعة جيش الرب المسيحية، لولا أن الحظ لم يكن معهم، ولم يعترف أحد بهم، على أن داعش من أصاحب الأرض في غالبيتهم، وكذلك جيش الرب، بينما الكيان من أجناس متفرقة ودول شتى جُمِّعوا بأرض ليست لهم، فسطوا عليها ونكلوا بأهلها وأخذوا بيوتهم ومزارعهم وألقوا بهم في شتات الموت والحياة!
إذن من امتنع عن التطبيع فقد تمسك بالعروة الوثقى، وبعالم يطلب السلام والأمن والرخاء والعدالة، ومن طبَّع فله شأنه، والله مطلع عليه وعلى نيته، فلن يغيب ذلك عن الله ولا عن الحق، ولا العدالة، والتي ستنتصر ذات يوم، طال أمد ذلك اليوم أم قصر.
عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي