أخذت على عاتقها محاربة الفساد وبناء بلدها.. من هي الصومالية هودان عثمان؟
لم تستطع هودان عثمان القضاء على الفساد المستفحل في الصومال مثلما حلمت عندما عادت إلى موطنها قادمة من كندا، لكنها تمكنت من حل معضلة رواتب الجيش التي كانت تُضيع على البلد ملايين الدولارات.
في مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي" (foreignpolicy) الأميركية، سلطت الكاتبة كاترينا مانسون الضوء على قصة هودان، وكيف تحدت العراقيل، وكشفت أحد أكبر ملفات الفساد في البلاد.
فساد في البنك المركزي
تبدأ القصة عندما كانت هودان تعمل مستشارة في البنك المركزي الصومالي قبل بضعة أعوام، وشاهدت أحد معارفها يدخل البنك بزي عسكري محاطا برجال مسلحين، ويبدأ بملء حقيبة سفر بملايين الدولارات، ثم يعطي 200 دولار رشوة لموظف الصندوق، ويغادر بسيارة مضادة للرصاص.
وعلمت لاحقا أن ما شاهدته لم يكن عملية سطو، وأن الأموال مخصصة لدفع الرواتب الشهرية لجنود الجيش الصومالي بأكمله، وعلمت أن الشخص عقيد بالجيش مكلف بالخدمات اللوجستية، وليس بالخدمات المالية.
رأت هودان أنه أسوأ من السطو، واعتبرت "وضع مبلغ كبير من المال بأيدي مسلحين ليس صائبا". تلك الحادثة جعلتها تشعر بأن الصومال بحاجة ماسة للإصلاح والتخلص من الفساد.
عندما انضمت هودان للبنك المركزي الصومالي، اكتشفت أنه لم يصدر أي بيان مالي منذ 24 عاما، ولم يتم الاحتفاظ بأي سجل على أي جهاز حاسوب.
تأسس البنك المركزي الصومالي بعد الاستقلال عام 1960، وعمل 3 عقود قبل أن يُغلق بسبب الحرب الأهلية، وأعيد فتحه عام 2009؛ لكن الصومال خضعت لعقوبات مالية دولية بسبب إخفاقها في سداد ديون بمليارات الدولارات تعود للتسعينيات.
ولفترة طويلة طبع رجال الأعمال وأمراء الحرب عملاتهم المزيفة، ووصل الفساد لأجهزة الدولة، ففي إحدى عمليات الاحتيال استبدل أمين صندوق بالبنك المركزي مكلف بالتحقق من الدولارات المزيفة، مبلغ 530 ألف دولار من أموال الخزينة، واستولى عليها.
من كندا إلى الصومال
التقت الكاتبة بهودان الثلاثينية المتعلمة للمرة الأولى في كندا عام 2013، حيث كانت تعيش مع عائلتها المهاجرة، وأصبحتا صديقتين. قررت هودان وقتها مثل كثير من الصوماليين الذين هاجرت عائلاتهم هربا من الحرب، العودة لمقديشو لإعادة بناء البلد.
بعد أيام من بدء هودان عملها في البنك المركزي نشرت الأمم المتحدة تقريرا شديد اللهجة يكشف عن حجم "الفساد المستشري" في الصومال، ووصفت البنك الذي تعمل فيه هودان بأنه "صندوق تمويل غير مشروع"، وشككت بنزاهة رئيسه الجديد آنذاك.
أما عائلة هودان، فلم تكن تؤيد سفر ابنتها، وتوسلت إليها أن تعود إلى كندا؛ لكنها أصرت على البقاء في مقديشو، كما قام والدها بتوصيل جهاز التلفزيون في تورنتو بالقنوات الصومالية لتتبع أخبار ابنته، وفي كل مرة يحصل فيها هجوم في مقديشو، تتصل العائلة بهودان على تطبيق واتساب مرارا وتكرارا.
تعرضت هودان لهجوم بعد يومين فقط من بدء عملها الجديد، وذلك بعد أن رفضت الحماية الشخصية التي عرضتها عليها الأمم المتحدة.
متاعب وعقبات
حدث الهجوم بشهر رمضان عندما كانت في غرفتها بالفندق، سمعت انفجارا هائلا، وبعد أن غادرت غرفتها لتناول الطعام، قابلت رجلين بالستينيات من العمر، وأوضح لها أحدهما أن قافلة تابعة لبعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال تعرضت لهجوم، تبين لاحقا أن هذا الشخص هو أويس حاجي يوسف، أحد أهم المستشارين في الدائرة المقربة من الرئيس.
عمل حاجي سابقا بوزارة التخطيط، وشهد فترة الاستقلال، وحمل السلاح خلال الحرب الأهلية ضد الدكتاتور محمد سياد بري، وتوسط في اتفاق سلام ثم أصبح مستشارا رئاسيا.
تعرفت هودان على أويس بسبب تلك الحادثة، وتكررت اللقاءات، ولم تكن الموظفة الشابة تجد حرجا بمعارضة مستشار الرئيس، وكانت تتحدث باستمرار عن الإصلاح والتنمية ومحاربة الفساد، وركزت بشكل كبير على ملف رواتب الجيش.
لم يكن الطريق سهلا إذ إن النفوذ في الصومال يملكه "كبار السن وأمراء الحرب"، ولم تكن عشيرة هودان وعمرها وجنسها عوامل تساعدها على تحدي الوضع القائم، لكنها مضت في طريقها بثبات.
وتؤكد الكاتبة أن أويس ساهم بفتح الأبواب أمام هودان، وغرس فيها الشعور بالفخر والحماس لتحقيق أهدافها رغم كل العراقيل.
ملف رواتب الجيش
عام 2014 أنفقت الحكومة 69 مليون دولار على الأمن، 42 مليون دولار خُصصت للأجور والرواتب؛ لكن المعلومات كانت تتوقف عند ذلك الحد.
وفي الوثائق الرسمية كان عدد الجنود 30 ألف جندي، وهو عدد مشكوك فيه، وقد أفاد تقرير للأمم المتحدة لاحقا أن الحكومة كانت "تبالغ بشكل ممنهج في أعداد قواتها لتحصل على تمويلات أكبر للرواتب والمعاشات".
وتوضح الكاتبة أن هودان حاولت معالجة مشكلة الرواتب منذ كانت تعمل في البنك المركزي؛ لكن طُلب منها الابتعاد عن هذا الملف، وبعد أن انتقلت لوزارة المالية عام 2014، وأصبحت رئيسة قسم، رفض وزيران على التوالي السماح لها بتبنى القضية.
كان الوضع حينها سيئا للغاية، فقد تخلفت الحكومة عن تسديد مبالغ بقيمة 11.5 مليون دولار، ولم يتلق بعض الجنود رواتبهم لـ6 أشهر، فبدؤوا يشاركون بالإضرابات، ويسلبون الأموال من العامة، بينما قدمت "حركة الشباب" مبالغ مالية للجنود الساخطين لتهريب القنابل عبر نقاط التفتيش إلى داخل العاصمة.
لم يكن ذلك يرضي الدول المانحة التي كانت ترى أن الحكومة تستولي على الأموال، ولا تتصدى للجهاديين، وقال أحد المانحين الغربيين "يمكن للدولة الصومالية بأكملها أن تختفي بين عشية وضحاها، إذ تشكل إساءة التصرف بالمبالغ الممنوحة للجيش تهديدا وجوديا".
بيانات دقيقة
ويقول وزير المالية الصومالي الأسبق محمد آدن إبراهيم في تلك الفترة "كنا بحاجة لإصلاحات ضخمة؛ لكننا شهدنا مقاومة كبيرة، ولم أكن متفائلا".
حاولت هودان الحصول على قائمة بيانات دقيقة لأفراد الجيش، وأخيرا وافق محمد آدن إبراهيم على إرسال فريق لمسح الجيش بأكمله؛ مما كشف عن وجود بنك وشركة اتصالات يدفعان الرواتب مباشرة لكل جندي عن طريق تحويل مالي عبر الهاتف المحمول.
كانت حكومات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والإمارات العربية تقدم عشرات الملايين من الدولارات كرواتب إضافية لعشرات آلاف الجنود، ورفضت حكومات هذه الدول مشاركة قوائمها.
ونتيجة لإصرار هودان، كشفت بعثة استشارية -كُلفت بجمع القوائم الثلاث- أن قاعدة بيانات "مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع" تتطابق فقط مع 1.2% من الأسماء التي يضمها الجيش.
أصبحت هودان رئيسة فريق عمل حكومي يعمل على أتمتة عمليّة دفع المرتبات، ورغم التشكيك بجدوى ما تقوم به وعدم تعاون وزارتي المالية والدفاع، تمكنت من إقناع شؤون الموظفين في الجيش الصومالي بالسماح لها بتصفح الملفات، فوجدت قائمات منظّمة حسب الرتبة والوحدة، واكتشفت الحقيقية فالجيش لا يضم 30 ألف جندي؛ بل 23 ألفا و80 جنديا؛ أي إن الحكومة كانت تدفع 10 ملايين دولار إضافية سنويا.
نفوذ هودان
أخبرت هودان كلا من أويس حاجي يوسف، والجنرال عبد الرحمن شيخ عيسى، مستشار الرئيس الصومالي للأمن القومي، بما توصلت إليه، ونقلا رسالتها للجهات المسؤولة في الجيش الصومالي.
بدأ الناس يُدركون حجم النفوذ التي تحظى به هودان وراء الكواليس، إذ كان بإمكانها الاعتماد على علاقتها الوثيقة مع أويس حاج يوسف، وأصبحت ترافق الرئيس الصومالي في زياراته الخارجية.
وبعد أسابيع قليلة، سلمت هودان تقريرا لقائد القوات المسلحة الصومالية، ثمّ التقت به مرة أخرى على انفراد لتشرح خطتها، وغمرتها السعادة عندما وافق على مساعدتها.
بفضل جهود هودان، أصبح معظم الجنود الصوماليين يتلقون رواتبهم عن طريق التحويلات الإلكترونية، وفقا لقوائم مضبوطة بدقة، وفي مارس/آذار الماضي وافق صندوق النقد الدولي على إعفاء الصومال من الديون المستحقة في غضون 3 سنوات.
وترى هودان التي انضمت لجامعة هارفارد منتصف 2017، وتحدثت للعالم عن تجربتها في مقديشو لتحقيق المزيد في مواجهة الفساد، أن "التقدم يأتي على مراحل انطلاقا من بدايات لا رجعة فيها".