رحلة كيري بين عمّان ورام الله.. تجارة وهم يدعى بحلّ الدولتين
كتب تامر خرمه
على هامش الصفقة التي أبرمتها واشنطن مع موسكو للوصول إلى تسوية حول الملفّ السوري، بحيث تكون مرضية لكافة الأطراف باستثناء الشعب طبعا، بدأت واشنطن بقطف ثمار حصّتها قبل نضوج التسوية وإعادة توزيع الأوراق على مائدة الشرق الأوسط، فاستبقت اللعبة بإرسال وزير خارجيّتها، جون كيري، لفرض المزيد من املاءات اليانكيز على عمان ورام الله.
اللّعبة التي بدأها الروس بإجراء مناورات عسكريّة غير مسبوقة، كان لها أعلى تردّدات الصدى في واشنطن -المنشغلة بتطورات الشرق الأقصى- حيث وصلت الرسالة بشكل واضح إلى الإدارة الأمريكيّة، التي قرّرت قطع الطريق على الروس ونيل حصّة اليانكيز من هذه الصفقة سلفا، كردّ على استعراضات الدبّ الأبيض الرامية إلى تحسين شروط التفاوض مع واشنطن، قبل الخروج بصيغة نهائيّة لتسوية الملفّ السوري.
زيارة كيري لم تحمل أيّ جديد، سوى إصدار الأوامر الامريكيّة لسلطة رام الله بالعودة الى ذات المربّع الأوّل، بحيث تواصل مفاوضاتها العبثيّة مع الطرف الصهيوني، ليس في ظلّ سياسة فرض الأمر الواقع التي تمارسها "اسرائيل" فحسب، بل حتّى دون التوقّف عن ترجمة هذه السياسة، ودون تجميد الاستيطان، وبالطبع دون أيّ التزام من الطرف الأقوى، في هذه اللعبة السمجة، بالقبول بحدود العام 1967 كمرجعيّة لـ "المفاوضات".
ورغم حبّة الشجاعة التي تجرّعها صائب عريقات، رئيس دائرة المفاوضات في منظّمة التحرير الفلسطينيّة، والتي دفعته لإبلاغ كيري بالتزام قيادة م.ت.ف باتّفاقها الذي أعلنت فيه تمسّكها بمرجعيّة حدود الرابع من حزيران وبمطلب وقف الاستيطان، كشرط لبدء المفاوضات، إلاّ ان كافّة المؤشّرات –بالإضافة إلى مواقف سلطة رام الله السابقة- تؤكّد أنّ المنظّمة، التي استُبدلت بها السلطة، سترضخ في النهاية لاملاءات واشنطن وتعود إلى طاولة "المفاوضات" دون قيد او شرط.
ومن الواضح أن الإدارة الأمريكيّة، التي لا تنوي ممارسة أي شكل من أشكال الضغط على "اسرائيل"، تصرّ في زيارة كيري السادسة -منذ شهر آذار- إلى الشرق الأوسط، على إرغام قيادة م.ت.ف على مواصلة لعبة التفاوض التي توقّفت في أواخر العام 2010، خاصّة مع اقتراب الوصول إلى الصيغة النهائيّة لصفقة الغاز والجغرافيا التي تبرمها واشنطن مع موسكو الطامحة.
أمّا "إسرائيل" فإنّها لن تستجيب بطبيعة الحال لمطالب السلطة الفلسطينية، وقد أعلنت موقفها بالقول " إن المحادثات يجب أن تبدأ بغير شروط مسبقة"، فيما صرّح زئيف إلكين، نائب وزير الخارجية "الإسرائيلي"، لوسائل الإعلام الغربيّة والصهيونيّة بأن "إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 ستكون بمثابة "انتحار"، مضيفاً بقوله: "إن المفاوضات التي تبدأها بقول ما أنت مستعد للتخلي عنه، ليست ذلك النوع من المفاوضات الذي يؤدي إلى نتائج جيدة في الشرق الأوسط"، على حدّ تعبيره.
الحلّ المرحلي –كما يحلو لقيادة م.ت.ف تسميته، أثبت فشله على أرض الواقع الذي كرّسته "اسرائيل" عبر رفض وقف الاستيطان، ناهيك عن جدار الفصل العنصري وسياسة مصادرة الأراضي والتهجير القسري، ولكن هل تعلم الإدارة السياسيّة في عمّان، أنّ المروحيّة الأردنيّة التي نقلت كيري إلى رام الله لن تعود إلاّ بما يقوّض وجود الدولة شرق النهر، باعتبار ذلك الحلّ الوحيد -بالنسبة لـ "الاسرائيليين"- للخروج بتسوية نهائيّة ؟!
التعنّت "الاسرائيلي" مسألة بديهيّة وفقا لمنطق توازنات القوى، ولكن ما الذي يحقّق للعبة التفاوض شرعيّتها –إن جاز التعبير- بالنسبة للطرف الراضخ تماماً لاملاءات واشنطن، بل والعاجز عن خوض أيّة مناورة تخلّصه من مأزق تصفية القضيّة الفلسطينيّة والدولة الأردنيّة على حدّ سواء ؟!!
الملك أعرب في لقائه الشهير مع مجلّة "الاتلانتك" الأمريكيّة عن استعداده المطلق لزيادة التمثيل الفلسطيني في البرلمان، ما ينسجم مع التوجّهات الاسرائيليّة- الأمريكيّة، غير أنّ هذا التنازل لن يكون كافيا بالنسبة لـ "تل أبيب" التي كرّست على الأرض ما يفرض إعلان انتهاء "حلّ الدولتين" إلى الأبد، لذا فإن أيّة "مفاوضات" قادمة لا يمكن لها أن تتجاهل الأطماع "الاسرائيليّة" شرق النهر، للخروج بتسوية نهائيّة تضمن لواشنطن ما يبقي الشرق الأوسط بعيدا عن دائرة القلق الأمريكي الذي يراد له في هذه المرحلة التخندق على حدود الصين.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هل تملك سلطة رام الله جرأة الاعتراف بعجزها عن تحقيق أيّ مكسب في هذه اللّعبة التي قادت حتى الآن إلى الاعتراف بـ "اسرائيل" دون أيّ مقابل، وإلى التنازل عن حقّ العودة عبر العديد من التصريحات الاعتباطيّة ؟ّ! وهل تملك السلطة في الأردن الإعلان رسميّا رفضها المشاركة في هذه اللعبة التي تهدّد وجود ومستقبل الدولة الأردنيّة ؟!
فشل الأردنّ الرسمي في لعب أيّ دور محوري إثر انصياعه الكامل للإملاءات الخارجيّة، يتقاطع مع عجز سلطة رام الله بما يغري الطرف "الاسرائيلي" على فرض ما يشاء من املاءات، وفي ضوء هذا المشهد فإنّ الأولى –في حال أرادت قيادة م.ت.ف التراجع عن عبثها قبل تصفية القضيّة- إعلان سقوط كافّة مبرّرات وجود "السلطة الفلسطينيّة"، بل وإمكانيّة تحقيق ما يُسمّى بـ "حلّ الدولتين"، مقابل العودة إلى طرح الدولة الديمقراطيّة الفلسطينيّة من النهر إلى البحر، وعلى الاحتلال عندها أن يتعامل مع هذا الواقع.. ولكن هذا إن كانت قيادة المنظّمة تهدف فعلا إلى التحرير، وليس إلى مجرّد صناعة شكل من أشكال السلطة، حتّى وإن كانت وهميّة.