سنياريوهات محكمة الجنايات بعد انتخاب كريم خان
جو 24 :
كتبت المحامية ليما بسطامي - لم يكن اسمه مدرجاً أصلاً في القائمة الأولى المختصرة لمرشحي منصب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، ولكن كريم انتخب ليصبح المدعي العام الجديد للمحكمة خلفا لفاتو بنسودا، لولاية مدتها تسع سنوات، تبدأ في منتصف شهر يونيو/حزيران من العام الحالي.
خان الذي تغلب بالجولة الثانية للتصويت على منافسيه الثلاثة من ايرلندا واسبانيا وايطاليا، كان قد حصل على أصوات (72) دولة من إجمالي أصوات جمعية الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية والبالغ عددها (123) دولة.
يأتي اختيار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية هذه المرة في ظروف محمومة وغير مسبوقة في ظل ما تواجهه المحكمة من تحديات داخلية وضغوطات أمريكية وإسرائيلية هائلة حول عملها وإمكانية شروعها بتنفيذ تحقيقات في الجرائم المرتكبة في أفغانستان، وفي الأرض الفلسطينية المحتلة (وهذا ما يعنينا هنا)، لا سيما بعد صدور قرارها الأخير المتعلق بالحالة في فلسطين والقاضي بشمولية اختصاصها القضائي للأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، أي تحديداً الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة؛ القرار الذي أرق حكومة الاحتلال الإسرائيلي؛ كونه يمهد الطريق أمام المحكمة لفتح تحقيق بشأن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في فلسطين.
وفي ظل تفاوت الأنباء في اليومين الماضيين حول حقيقة وقوف إسرائيل خلف حصول خان على وظيفة المدعي العام للمحكمة، حيث كانت قناة "كان” الإسرائيلية، والمملوكة لحكومة الاحتلال الإسرائيلي، قد صرحت وعلى لسان مسؤولين رسميين إسرائيليين، أن خان كان هو المرشح المفضل لدى اسرائيل، وأنها لعبت دوراً مباشراً من خلف الكواليس في دعم ترشحه وتأمين فوزه بمساعدة حلفائها من الدول الأعضاء في المحكمة، في حين تحاول مصادر إسرائيلية أخرى نفي علاقة إسرائيل بدعم خان في عملية الترشح والتصويت، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن خان كان هو المرشح "الأقل ضرراً" لإسرائيل مقارنة ببقية المرشحين الثلاث الآخرين، لا سيما المرشح الإيرلندي السيد فيرغال غاينور، الذي تعتبره إسرائيل كابوساً حقيقياً لها.
وبغض النظر عن مدى صحة هذه الأنباء أو تلك، فالمضمون واحد، ولم يعد خافياً أن هنالك حالة من الارتياح لدى حكومة الاحتلال الإسرائيلي بخروج السيدة فاتو بنسودا من المشهد وتولي خان سدة الادعاء العام في المحكمة، ليصبح هو اللاعب الأساس في رسم منهجية عمل المحكمة وتحديد خطواتها القادمة في السير في ملف الحالة الفلسطينية، في دور يحدد أداؤه مدى اختلافه عن دوره الرئيسي السابق كمحام وممثل للدفاع عن متهمين ومدانين بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية أمام المحكمة الجنائية الدولية، كان على رأسهم سيف الإسلام معمر القذافي، وتشارلز تايلور رئيس ليبيريا السابق، ووليام روتو النائب السابق للرئيس كينيا الذي نجح خان بإسقاط التهم الموجهة ضده والمتعلقة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
وإلى جانب احتمالات وقف العمل في ملف الحالة الفلسطينية أمام المحكمة الجنائية الدولية سواء لاعتبارات العدالة بحسب المادة (53) من نظام روما الأساسي للمحكمة، أو بطلب من مجلس الأمن قابل للتجديد المفتوح بحسب المادة (16) من النظام نفسه، فإن هنالك سيناريوهات أخرى قد تحدث بدخول خان إلى المحكمة وخروج بنسودا منها، خاصة وأن الترجيحات تشير إلى أنها، أي بنسودا، لن تقوم بفتح تحقيق في الحالة الفلسطينية قبل مغادرتها لمنصبها في المحكمة في حزيران القادم.
ومن هذه السيناريوهات المحتملة الآن: 1- عدم قيام المدعي العام الجديد بفتح تحقيق في الحالة في فلسطين 2- فتح التحقيق وحرف الدفة 3- التعامل بموضوعية واستقلالية مع الملف.
ففيما يخص السيناريو الأول، وفي حال اتخذ المدعي العام الجديد قراراً بعدم الشروع في إجراء تحقيق في الحالة في فلسطين وإغلاق الملف أمام المحكمة، فإن مثل هذا القرار وإن كان يعتبر الأقل إيلاماً لإسرائيل فإنه لا يخدم المصلحة الإسرائيلية إلا على المدى الحالي والمتوسط على أبعد تقدير، ويبقى هذا القرار بمثابة "حقنة مخدر موضعي مؤقت" يزول بزوال بعض المتغيرات السياسية أو بزوال خان من وظيفته بعد انتهاء ولايته، مما يفتح الطريق مجددا أمام الفلسطينيين لاستئناف العمل أمام المحكمة، وهذا ما لا تريده حتماً إسرائيل.
وقد يصدر المدعي العام الجديد قراره بفتح التحقيق وفقاً للسيناريو الثاني، إلا أنه قد يحرف الدفة باتجاهنا ويفرغ التحقيق من محتواه ومسعاه. فقد يقوم مكتب المدعي العام ومن خلال إجراءات العمل بتحصين إسرائيل من أية ملاحقة أو مساءلة حقيقية فيما يخص جرائمها الأكثر خطورة ضد الفلسطينيين، أو اختيار القضايا الأكثر تعقيداً في مسألة الإثبات لتقديمها للمحاكمة، أو التركيز على الجرائم الأقل خطورة وتعقيداً والمرتكبة بشكل استثنائي من الرتب العسكرية الدنيا، وهو يملك الخيارات باعتباره الجهاز المسؤول عن قيادة عملية التحقيق وجمع الأدلة وبناء الملفات وطلب إصدار طلبات مذكرات التوقيف وتوجيه التهم وتعديلها وسحبها، بالإضافة إلى صلاحيته الواسعة في مرحلة المحاكمة.
وقد يقتل المدعي العام التحقيق والأمل بالعدالة بالوقت والمماطلة، وقد يقوم، لأي سبب كان، بتغليب بعض الادعاءات الإسرائيلية وتبنيها في قراراته، كأن يقوم بالتنازل عن التحقيق ببعض الجرائم على أسس المقبولية والتكاملية بدعوى أن إسرائيل أجرت وتجري تحقيقات ومحاكمات محلية فيما يخص الجرائم المنظورة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهذا ما لا نملكه نحن الفلسطينيون؛ فقد نجد أنفسنا ملاحقين وحدنا باسم العدالة الدولية وبجدية على خلفية الملفات الموضوعة حاليا أمام المحكمة ضدنا، لا سيما تلك الموجهة ضد قيادي حركتي حماس والجهاد الإسلامي فيما يتعلق باستهداف أماكن مدنية إسرائيلية خلال الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة في عام 2014؛ وإعدام فلسطينيين خارج نطاق القانون والقضاء في غزة خلاله، وكذلك الأمر فيما يخص جرائم التعذيب المدَعى ارتكابها في السجون الفلسطينية في الضفة الغربية.
كما وقد يضرب خان بقراره بفتح التحقيق عصفوراً ثالثاً ينقذ فيه نفسه والمحكمة التي طالتها العديد من الانتقادات في السنوات الأخيرة لبطء إجراءاتها وضعف إدارتها وعدم فعالية أدائها واقتصار ملفاتها المنجزة على القضايا المتعلقة بالقارة الإفريقية.
أما السيناريو الثالث الذي يحتمل فيه أن يتعامل المدعي العام الجديد مع ملف الحالة الفلسطينية باستقلالية وموضوعية ومهنية وبمعزل عن الضغوطات والتدخلات الخارجية، إلا أنه لا ينبغي علينا في هذا السياق وفي هذا التوقيت أن نحصر آمالنا وادراكنا بهذا الاتجاه، لا سيما ونحن على دراية تامة باللامحدودية المتآصلة للعربدة الإسرائيلية ومدى اختراقها للمؤسسات والسياسات الدولية.
ماذا الآن؟
في ظل هذه المعطيات، أصبح هناك ضرورة وطنية لمراجعة سياسات وآليات العمل مع هذه الاطر الجديدة، ورسم خطة النجاة أمام المحكمة، والتعامل على ما هو قادم منها باعتباره مشكوك فيه ولو ظاهرياً. ومما لا شك فيه أن المرحلة القادمة من العمل أمام المحكمة الجنائية الدولية ستكون في غالب الأمر طويلة وشاقة وستستنفذ الموارد المحدودة المخصصة لها، سواء على مستوى المؤسسات والهيئات الحكومية الرسمية والوطنية ومؤسسات المجتمع المدني في فلسطين، أو فيما يخص مخصصات المحكمة لهذا الشأن، ولهذا فإن وجود خطة وطنية صارمة شاملة جادة بات مطلب أساس لضمان جدوى التوجه لهذه المحكمة وضمان فاعلية أي تحقيق قد تجريه المحكمة في المستقبل.
ويمكن إيجاز أهم المرتكزات المقترحة لهذه الخطة بما يلي:
1- تنظيم العمل الوطني والتنسيق والتعاون بين مختلف الجهات الوطنية المعنية، وتوحيد وتكثيف الجهود وتوزيع الأدوار والمسؤوليات والإعداد والتحضير لكافة المعلومات والوثائق وأدلة الدفاع كما الاتهام؛ وبشكل بالغ الدقة والجدية والشمولية، حيث أن مرحلة التحقيق تتطلب معلومات بمستوى أكثر دقة وتفصيلاً وحساسية عن تلك التي تم تقديمها في مرحلة الدراسة الأولية، بما في ذلك قوائم الأسماء.
2- تعزيز القدرات الوطنية العاملة في ملف المحكمة الجنائية الدولية بشكل فعلي وجدي، ليكون الهدف أن نكون نحن الخبراء والتقنيين في قضيتنا أمام المحكمة، والوصول إلى درجة عالية من الاحتراف والإتقان والمهنية العالية في كل ما هو متعلق بالعمل أمام المحكمة، بما في ذلك منهجية التوثيق المعتمدة أمام المحكمة، ونظام روما الأساسي وقواعد الاجراءات والاثبات وأركان الجرائم وإجراءات عمل مكتب المدعي العام وقلم المحكمة، والمدد القانونية وطرق الاستئناف، والسوابق القضائية وكل ما يلزم لتفويت أية فرصة لإفلات الإسرائيليين من العقاب وإضاعة حق الفلسطينيين في الحصول على العدالة.
3- وضع الخطط اللازمة لترتيب العمل إلى جوار فرق التحقيق الخاصة بالمحكمة وتسهيل عملها، وإيجاد خطط بديلة فعالة حال منعت إسرائيل (وهي ستمنع) وصول هذه الفرق إلى الأرض الفلسطينية المحتلة للعمل والتحقيق ومقابلة الضحايا والشهود ومنع ارسال الأدلة إلى الخارج.
4- تكثيف الجهود الوطنية لتأمين الموارد المالية والخبرات البشرية اللازمة للعمل أمام المحكمة الجنائية الدولية في المراحل القادمة كافة.
5- تكثيف الجهود الدبلوماسية لدعم عمل المحكمة واستقلاليتها عن الضغوط السياسية وضمان تحقيق العدالة الدولية للضحايا.
6- اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتنفيذ تحقيقات وطنية مستقلة وبشكل فوري لكافة الأفعال والسلوكيات المدعى بارتكابها على المستوى الفلسطيني، في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، والموضوعة حاليا أمام المحكمة الجنائية الدولية، وذلك لحجب صلاحية هذه المحكمة عن النظر بهذه الأفعال ومنع استغلال التحقيق لملاحقة القادة الفلسطينيين.
7- تجديد الشرعية والمرجعيات الوطنية وإجراء كافة الإصلاحات الضرورية، وعلى رأسها الإصلاحات التشريعية والقضائية والإدارية، واللازمة لرفع جاهزية دولة فلسطين في استجابتها لالتزاماتها الدولية، وإدراك الاستحقاقات والمطالب الوطنية.
•محامية وخبير في القانون الدولي