هل الدول العربية بدأت بتعويم عملتها؟ مصر كحالة دراسية
جو 24 :
التعويم الحر هو ترك سعر صرف العملة يتحرك للأعلى والأسفل بناء على قوى السوق "الطلب والعرض"، فكلما زاد الطلب على العملة كلما زاد سعرها وكلما زاد العرض عليها انخفض سعرها، والفكرة بدأت في عام 1971 عندما أعلن الرئيس الأمريكي نيكسون (1) بعدم الإلتزام بقرار مؤتمر بريتون وودز والذي تم فيه تحديد سعر أوقية أو أونصة الذهب مقابل 35 دولار (2) تعويم الدولار وطباعته بدون غطاء وذلك بسبب عدم قدرة الولايات المتحدة على تلبية طلبات العالم المتزايدة إلى الدولار، فقام بفك الدولار عن الذهب وبدأ يطبع الدولار بدون غطاء، ثم بدأت الدول الصناعية المتقدمة كالمملكة المتحدة ومنطقة اليورو بتعويم عملتها ولكن بوجود غطاء.
.
دول العالم الثاني والثالث بقيت تربط عملتها بالدولار وتأخرت في تعويم صرف عملتها لأسباب كثيرة ومنها: عدم جرأة المسؤولين على اتخاذ قرارات مناسبة في الوقت المناسب، وممارستهم لسياسة ترحيل الأزمات، ويبدو أنهم لا يريدون تحمل المسئولية من جهة، وخوفهم من أنواع التعويم الذي ينطوي على مخاطر من نوع جديد من جهة أخرى، والتعويم يتدرج خلال ثلاث أنواع ومراحل: (1) التعويم الزاحف المربوط بسلة عملات ويسمح لأسعار الصرف أن تتقلب ضمن معدلات نسبيا قليلة وتحت إشراف البنك المركزي، (2) والتعويم الموجة أو المدار الذي لا يرتبط بأي سلة عملات ويسمح للعملة أن تتقلب بنسب كبيرة ويتدخل البنك المركزي من خلال البيع والشراء لتقليل التذبذب، (2) والتعويم الحر الذي يترك العملة تتحرك بناء على قوى السوق الطلب والعرض.
.
أول تحدي يواجه الإقدام على خطوة التعويم في أي دولة هو وجود العجز في الميزان التجاري، بمعنى أنها تستورد أكثر مما تصدر ويدفعها للحاجة المستمرة للعملة الأجنبية، والمتأمل في الحالة المصرية في العام الذي عومت به عملتها عام 2016، يجد أن صادراتها كانت تساوي 22 مليار دولار أما مستورداتها تساوي 60 مليار دولار أمريكي، أي صادراتها أقل بكثير من مستورداتها والفرق يساوي 36 مليار دولار، هذا سيضغط على الدولة ويدفعها للاقتراض لتأمين حاجتها من النقد الأجنبي والدولار من أجل تغطية العجز في الميزان التجاري وتسديد مستورداتها.
.
ما زاد الوضع سوء في الحالة المصرية أن احتياطي النقد الأجنبي حين قررت مصر التعويم في عام 2016 كان لديها فقط 13 مليار دولار في خزائن البنك المركزي، وذلك لأن معظم التحويلات من الخارج كانت تتم من خلال السوق السوداء ولا تسير ضمن قنوات البنوك المصرية، حيث كان سعر الدولار الواحد المعتمد من البنك المركزي والبنوك التجارية المصرية يساوي 8 جنيه مصري بينما في السوق السوداء يساوي 16 جنيه مصري، فكانت معظم التحويلات تتم عن طريق السوق السوداء ولا تدخل في حسابات البنك المركزي المصري، وهذا من الأسباب الرئيسية التي خفضت إحتياطي النقد الأجنبي في مصر، الحاجة إلى النقد الأجنبي وتغول السوق السوداء أجبرت مصر إلى القفز عن تبني نظام سعر الصرف الزاحف والتوجه مباشرة إلى التعويم الموجه أو المدار.
.
والتعويم الموجه أو المدار يتطلب دور كبير من البنك المركزي في سوق النقد الأجنبي ليحافظ على عدم تذبذب سعر صرف العملة، وينأى بها عن المضاربات التي تؤدي إلى إرتفاع أو إنخفاض حاد في أسعار الصرف، ويتطلب من البنك المركزي أن ينشر بإستمرار نشرات شهرية أو ربع سنوية صادقة وبشفافية ليطمئن المواطنين والمستثمرين مثل ما يحدث في دول كثيرة اتبعت نفس الأسلوب كسنغافورة وتركيا وجنوب أفريقيا والمكسيك.
كما أن تعويم صرف العملة الموجه أو المدار يمكن أن ينطوي على مخاطر كبيرة على المدى القصير، مثل زيادة أسعار السلع الأساسية والخدمات الصحية ومصادر الطاقة بسبب تقليص الدعم الحكومي، كما أن التعويم الذي حدث في مصر عام 2016، هو مثال حقيقي للتضخم الذي وصل إلى 100%، حيث كان يساوي الدولار الأمريكي 8 جنية مصري وبعد التعويم أصبح الدولار يساوي 16 جنية، ما أدى إلى تآكل الطبقة الوسطى وزيادة نسب الفقر إلى أكثر من 80% أي 80 مليون شخص في عام 2021، وزيادة نسب البطالة.
.
بعد هذا السيناريو المؤلم والتأخر في إتخاذ القرار المناسب وعدم تبني الأسلوب الملائم، ومع زيادة الحاجة إلى الدولار لتغطية حاجاتها من المستوردات، وتغول السوق السوداء، لم يكن أمام مصر إلا أن ترتمي في أحضان صندوق النقد الدولي، لتطلب منه الدولارات كقروض لتغطية العجز في الميزان التجاري المتعلق بالمستوردات من جهة، َوتزيد من قدرتها في التأثير على سعر صرف الجنية المصري بدخول البنك المركزي المصري كبائع ومشتري للدولار من جهة أخرى.
.
وبالرغم من وجود كل السلبيات السابقة التي واجهت مصر جراء تأخرها من التعويم، ونتيجة القفز عن التعويم الزاحف، إلا أن التعويم الموجه أو المدار كان له أثر إيجابي على الدولة والطبقة الغنية في مصر، فسعر الجنية الموجود في البنك المركزي المصري تطابق مع سعره السوقي مقابل الدولار، وبالتالي ألغى وجود السوق السوداء ما أدى إلى زيادة التحويلات من الخارج بمقدار 28.9 مليار دولار لتحتل المرتبة الخامسة على مستوى العالم بعد الهند والصين والمكسيك والفلبين في عام 2018 على مستوى التحويلات، وجذب المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال للاستثمار في مصر، وبدأ خفض العجز في الميزان التجاري وتحديدا في عام 2020، ومع تزايد احتياطي النقد الأجنبي ستتزايد قدرة مصر على سداد الدين الخارجي الذي وصل الى 112 مليار والذي يشكل 31% من الناتج المحلي الإجمالي، ولكن هذا النجاح كان لصالح الدولة والطبقة الغنية فقط وبطبيعة الحال على أكتاف الشعب المصري والطبقة الفقيرة.
أما الآن، فيتكرر نفس المشهد في السودان ولكن بصورة موجعه أكثر، حيث كان يساوي الدولار الواحد 50 جنية سوداني وبعد التعويم الشهر الماضي في فبراير 2021 أصبح يساوي الدولار الواحد 375 جنية سوداني، وفي سوريا ولبنان والعراق إنخفاض حاد في أسعار صرف عملتها، فهل سنشاهد دول عربية أخرى تقوم بتعويم عملتها؟