الحل ليس بعسكرة الحياة المدنية
د. ماجد الخواجا
جو 24 :
تخرج بين فترة وأخرى الدعوات لتسليم أمور البلد إلى حكومة عسكرية باعتبار ذلك حلا لما نحن فيه من أوضاع سيئة على مختلف الصعد وخاصة الصحية منها.
ابتداء فإن عسكرة المجتمع تعني الإقرار بفشل الدولة المدنية الحديثة في القيام بواجباتها، وهذا إقرار خطير جدا يعود بالمجتمع إلى مراحل من التبعية الإسبارطية للعسكرتاريا بحيث يقحم العسكر أنفسهم في شؤون المجتمع وحاجاته ومتطلباته اليومية، وهو مدخل كاف للولوج إلى القرار السياسي ليتلون بالصبغة العسكرية.
يبدو أن الحل العسكري مريح عندما يتم اتخاذه ميدانيا وبشكل حازم ويتم تطبيقه حرفيا، مما يظهر الإنجاز السريع الكبير الواضح للفارق بين مرحلتين. وهذا ما يدعى في الإدارة بإدارة شراء الوقت.. فقد أجريت دراسات أظهرت أن الإدارة الديكتاتورية حين تستلم مهامها تقوم بتغييرات جذرية وحاسمة وسريعة وثورية، فيزداد الإنتاج بشكل كبير، لكن معنويات العاملين تتدنى بشكل أكبر. فتأتي إدارة ديمقراطية تعتني بالعلاقات والحاجات الإنسانية، بترتفع معنويات العاملين لكن تنخفض الإنتاجية، لتعود فتستلم إدارة ديكتاتورية العمل وهكذا. ولأننا بحاجة لإنجازات سريعة ومباشرة فهذه تتطلب إدارة صارمة صاحبة قرار ولها صلاحيات واسعة، وهي تتوفر في عسكرة المؤسسات. هنا تظهر الآثار والنتائج مباشرة دون الانتباه لما تدعى بالآثار الجانبية التي تأخذ شكلا خفيا لكنه متراكم وينتظر لحظة الإنفجار.
تعيش أغلب الدول الشرق أوسطية والعالم الثالث مفهوم العسكرة بثقافتها وسلوكياتها وأساليب تفكيرها منذ مئات السنين، والعسكرة بمفهومها الفني المحض إستراتيجية تعبوية وتدابير احترازية لا غبار عليها قد تلجأ لها الدول في حالة الطوارئ أو لمواجهة عدوان خارجي أو اختلال في الوضع الأمني الداخلي، إلا أنها تبقى حالة طارئة تنتج بوجود المؤثر وتنتهي بزواله وبانقشاع الظروف التي شكلت تواجده في دولة وأوجدته في وضع معين. والعسكرة رغم أهميتها في بعض الأحيان إلا أنها تبقى ضيف غير مرحب به على الجسد المدني للمجتمع يرغب برحيلها بأسرع الأوقات، حيث يرى أكثر الباحثين بأن المفهوم بشموليته، كمنظومة فكرية ومؤسساتية، هو امتداد للنموذج (الإسبارطي)، وهو النظام الأول من نوعه، على المستوى التنظيمي والتعبوي والفكري.
لا نقصد بالعسكرة هو أن يكون الجميع في حالة خضوع للماكنة العسكرية ومنظومتها الاستخبارية بل إن العسكرة قد تنتج بشيء تتابعي ناتج من خضوع الدولة بسائر مؤسساتها لقرار المنظومة العسكرية تخطيطا وتنفيذا، وهذا ما يحدث في عموم دول العالم الثالث تقريبا حيث يعيش حالة من التسلط للأجهزة الأمنية وتدخلها السافر في جميع نواحي الحياة، بحيث أن المواطن البسيط لا يمكن تعيينه أو توظيفه في دائرة ما إلا بموافقة أجهزة الأمن والاستخبارت وكذا الحال في الترشح لمنصب معين أو حتى التنافس على مقعد دراسي وغير ذلك، بل ويصبح الفرد في مثل تلك الدول لايخاف من أي جهاز قضائي ورقابي بقدر خوفه من الأجهزة الأمنية والاستخبارية بعنوانها القمعي لا القانوني.. إن الأجهزة الأمنية في الأنظمة العربية تعتبر صاحبة القرار النهائي الذي تبني عليه الحكومات سياساتها..
إنها نزعة (عسكرة المجتمع)، تلك التي كان ( حمورابي) أول من نادى بها حينما فرض التجنيد الإجباري على الناس وحاول أن يلبس المجتمع لباسا عسكريا. ولم تكن ( أسبارطة) اليونانية ببعيدة عن تلك الممارسة حينما أشغلت شعبها بلظى النزعة العسكرية، فكانت قدوة لمن تبعها من أمم وزعامات تعمل على خلق الشعب المحارب لذرائع تفرقت لكنها عادت والتقت عند تعظيم سلطة الحاكم والإمعان في استعباد الشعب، حتى وإن رفعت شعار الديمقراطية. واليوم وبعد تلك الحقب كلها، لم تزل بعض شعوب العالم المتخلف تعيش هاجس ما يسمى بـ( عسكرة المجتمع) في ثقافتها وسلوكياتها وحتى أنماط حكمها وحكامها. والعسكرة من حيث التعريف والتوصيف، هي "عملية إلباس المجتمع لباس العسكر وتحويل وتنميط سلوكه الى سلوك عسكري يختلف عن الطابع المدني أو العادي في الغالب " أو هي " إشاعة الروح العسكرية كآيديولوجية وتعاظم تأثير الجيش كمؤسسة اجتماعية في النظام السياسي، وفي أنساق الدولة وأنماط الحياة العادية "
في الحالة الأردنية فنحن وبالرغم من إعلان قانون الطوارئ الذي مضى عليه عام بالكامل، إلا أنه بقيت الحياة اليومية مفعمة بالمدنية وعدم إقحام صورة العسكري في التفاصيل والشؤون اليومية للمجتمع. لكن ومع حادثة مستشفى السلط الكارثية بجميع المقاييس فقد زاد الحديث عن المطالبة باستلام حكومة عسكرية للشون المدنية، وهي دعوات عفوية في ظاهرها وتعبر عن كم من الغضب والعتب نتيجة الفشل في إدارة قضايا وشؤون المواطنين اليومية، لكن الحقيقة أن هذه الدعوة تعبر عن مكنون خطير من النكوص والتراجع في مفاهيم الدولة الحديثة وعدم الثقة في مكوناتها وروافعها التي تقوم عليها الدول.
بالتأكيد الحل ليس بعسكرة المؤسسات، لكن هذه صرخة يجب التوقف عندها من أجل الشروع بكل صدق في تنقية المؤسسات المدنية وتفعيل المحاسبة الحقيقية وبعدالة ومساواة بين الجميع. مع تشجيع وتحفيز الذين يقومون بالمطلوب منهم على خير وجه.