رمضانيات 16 : "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ"
د. نبيل الكوفحي
جو 24 :
..
لفت نظري وأنا اقرأ سورة الزخرف الآيات التي تتحدث عن فرعون وطغيانه (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ، فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ، فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ). وتمرده على الله (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) واحتقاره لموسى عليه السلام (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين). بل بلغ من طغيانه أنه قال (ما علمت لكم من اله غيري).
استخفهم فرعونُ فأطاعوه على الضلال ووافقوه على الفساد. يقول صاحب الظلال: فهو أمر لا غرابة فيه؛ فهم (الظلمة) يعزلون الجماهير أولا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما يشاؤون ... ومن ثم يسهل استخفافهم. يطلق على الاستخفاف اليوم "بالاستهبال": بتزييف الوعي العام عبر قلب الحقائق، من خلال أدوات اعلام وتعليم، تتحرك بمكر وتوجيه، حتى أن الهزائم المذلة تحولها لنصر كبير. تمثل الادوات الاعلامية الفاسدة وأذرعها في وسائط التواصل الاجتماعية النموذج الجديد من ادوات الاستخفاف، تلك التي ما فتئت تطبق قاعدة غوبلز - وزير هتلر-: اكذب واكذب حتى يصدقك الناس. فحتى " العدو المحتل الصهيوني" أصبح صديقا صاحب ارض وتاريخ، يهنئونه بذكرى اغتصاب فلسطين. وأصبح الفشل إنجازا يفاخر به.
عملية الاستخفاف ديدن الطغاة والفاسدين على مر العصور، لكن الذي يجعله واقعا هو القابلية للاستخفاف (فأطاعوه). لذلك أمام عمليات طغيان الاستخفاف، لا بد من رفضه ومقاومته بأدوات مماثلة أو مستطاعه، والتسلح بالصبر. بدأت سورة الروم بالحديث عن انتصار الروم بعد غلبهم، وانتهت بالحديث عن الصبر وهو سبب لنصر الله، فقد جعل الله النصر حليف القوم الذين ليست لديهم قابلية الاستخفاف، (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).
القبول بالاستخفاف، والاستسلام له، لن تؤدي لاعتدال أصحابه، بل لإطالة زمن الظلم، وخراب البلاد، أفرد ابن خلدون في مقدمته فصلًا بعنوان ” الظلم مؤذن بخراب العمران” فيصبحون عالة على غيرهم وعاقبتهم (فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ، فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ). لخطورة هذا السلوك المجتمعي تنبه الخليفة الصديق رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم( وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقابه(.
أصبحت صناعة الاستخفاف مكر يدرس، وخطط تدلس، واقلام ومنابر مسمومة. شعارها الرأي الواحد الذي يكون قرارا بل قانونا ودستورا، حالهم كحال فرعون (ما أريكم الا ما أرى). وأصبح لهم مواقع وصحف ومحطات إذاعية وتلفزيونية، تسمى بأسماء عربية، لكنها خناجر أعداء مسمومة في وعي الشعوب وضمائرها. كم شهدنا في التاريخ المكتوب والمحسوس من انهيارات وتبدلات، وان تعثر فتأخر بعضها، لكنها كبوة لن تطول (وتلك الايام نداولها بين الناس). وكان المبادرون برفض الاستخفاف بمرتبة سيد الشهداء. ولا نهوض للشعوب ولا تقدم للبلدان الا برفض الاستخفاف ومقاومته، وبناء شعب واع، مؤمن بحقه بأرضه وموارده، واثق بقدراته على ادارة شؤون حياته.
وتقبل الله صيامكم ورفضكم الاستخفاف بعقولكم، لا تنسونا من صالح دعائكم.