للطعام دور أكبر بكثير من التغذية.. تعليم القيم يبدأ من المائدة
طعم القطائف الساخنة والضحكة الدافئة بعد إفطار رمضان، والشطائر التي كنت تشتريها مع صديقك في طريق المدرسة، ولحظة عودتك من الجامعة ورائحة المحشي تملأ البيت وفرحة والدتك بفرحتك به، وفطائر الريف مع الأقارب، وطعم البيض المقلي وأيدي الأخوة التي تتزاحم وتتمازح حوله، ومن كل لمّة عائلة، ومن كل ضحكة تفوح رائحة الطعام الزكية؛ كل ذلك هو الشذى الذي يحوّل المعرفة إلى عِشرة، والبيت إلى سكن، والتجمعات إلى ذكريات لا تموت.
منذ اليوم الأول في هذه الحياة والطعام بالنسبة للإنسان وسيلة تغذية وعلاج، وأيضا وسيلة تواصل وحنان. يبكي الطفل فتحمله أمه وترضعه فيسترخي وينام؛ إنه تعبير عن الاهتمام والرعاية، ووسيلة لبناء الثقة بين الأبناء ووالديهم.
حجر أساس في بناء الأسرة
يقول المثل الأميركي "الأسرة التي تأكل معا تبقى معا"، فالوجبات العائلية تحتوي على الكثير من عناصر التربية الإيجابية. وخلق روتين للطعام ضمن الوقت نفسه يجعل الجميع ينظم وقته بشكل أفضل ليحضر الطعام. حتى إن إعداد الطعام والتعاون فيه يرسخ قيمة التعاون والرحمة، وتقسيمه بالعدل -وخاصة ما غلا وحلا كاللحم والحلوى- بين أفراد الأسرة يرسخ لقيّم المساواة والشعور بالغير دون نسيان أنفسنا.
وحول المائدة يتعلم أفراد الأسرة مهارات التحدث بوضوح وإيجاز؛ ليشارك الجميع أخبارهم قبل الانتهاء من الطعام. وأدب الحديث في عدم المقاطعة يفرض نفسه حول الطعام ومن يتعدى يتم صده، وفي ذلك تتجلى قيمة الاحترام والشعور بالآخر. هذا الروتين يصبح بمثابة الشبكة التي تلتقط الجميع بعد عناء اليوم وتمد الدعم لمن يحتاجه في مواجهة الغد.
الطعام فرحة
لا أحد يحب الغم وقت الطعام، فمن السهل أن يفقد الشخص شهيته إذا ضاقت نفسه، لذا فحتى لو بدأ أحد بنغمة كئيبة -وعادة ما يكون في كل أسرة على الأقل شخص هكذا- تجد النظرات والتنبيهات لا تتركه. ولو استمر وأدى ذلك لقيام أحد أعضاء الأسرة فعادة ما يكون الدرس رادعا. باختصار، إن الاجتماع العائلي على مائدة الطعام وسيلة طبيعية للتركيز على الإيجابيات.
بعد الطعام
المشاركة في تنظيف الطاولة وغسل الأطباق والاحتفاظ ببواقي الطعام في الثلاجة؛ عمل لا يوجد فيه مكافأة فورية على عكس تحضير الطعام، فبعد أن تشبع البطون، قد ينسحب أفراد الأسرة بهدوء، لكن هذا وقت أساسي لترسيخ قيم أخرى، وهي النظافة والنظام وتقاسم العمل وإن كان مملا، وهذا هو الإحساس بالمسؤولية الذي لا ينجح إنسان بدونه، وهو الذي يبني الانتماء للبيت ويؤدي إلى بر الوالدين اللذين تعبا في إحضار الطعام وتحضيره.
الطعام وتناقل التقاليد والاعتزاز بالثقافة
الطعام جزء أساسي في ثقافة كل دولة وكل مدينة، بل وكل عائلة، فبصمة الهوية الخاصة تظهر في الوصفات المختلفة. فلو أخذنا مصر على سبيل المثال، فالأرز مع الخضراوات هو الطبيعي لدى أهل القاهرة، بينما أهل الريف قد يفضلون أكل الخضروات بالخبز.
تقول راندا مالك الفلسطينية الأميركية -والتي تستعد لافتتاح مطعمها الخاص في شمال كاليفورنيا- "بدأت مشروعي من المنزل بطعام تقليدي ولم يكن يطلب مني الكثير، لكن بمجرد أن تخصصت في الأكل الشعبي، أقبل الناس بكثرة. المغترب يريد العودة للأصل ويشتاق لطعم بلاده وللأكل الذي تربينا عليه من أجدادنا وأمهاتنا وأحبابنا الذين نفتقدهم كثيرا".
وعن الطعام والذكريات تقول راندا "كل لمة حول المنسف حكاية. أول ما يريده أي مغترب حين يزور بلاده هو طعامها الذي اشتاق إليه. أنا أجرب الوصفات والأنواع لأصل لطريقة بلادنا فيجدون رائحتها وهم يأكلون".
هل الطعام يوحد الشعوب؟
تجيب راندا "بالتأكيد فالجميع أحب "الممبار"، وأول ما عملته تهافت الكل عليه؛ الفلسطينيون والسودانيون إلى جانب المصريين، وفي نفس الوقت يأتي مصريون يطلبون المنسف والكبة الشامية. حتى إن الأميركيين يحبون أن يجربوا أطعمة الشعوب الأخرى ويحبون أكلنا. الأكل الشعبي مفقود ويبحث عنه الجميع".
الوجبات العائلية والاستقرار العاطفي
الدكتورة آن فيشل -وهي معالجة أسرية وساعدت في إنشاء مشروع العشاء العائلي (منظمة غير ربحية لتشجيع التقارب حول المائدة)- تقول للبرنامج الصوتي "إي دي كاست" (Edcast) -التابع لجامعة هارفارد- "أمزح دائما وأقول لو أن المزيد من العائلات أكلوا معا بانتظام لن أجد عملا، لأن الكثير من الأشياء التي أحاول القيام بها في العلاج الأسري يتم إنجازها بالفعل من خلال وجبات العشاء المنتظمة".
وتضيف فيشل -وهي إحدى المشرفات على مشروع وجبة أسرية- "لأكثر من 20 عاما تمت عشرات الدراسات التي توثق أن العشاء العائلي رائع للجسم والصحة البدنية والعقل والأداء الأكاديمي والروح والصحة العقلية".
ومن حيث التغذية قالت فيشل "صحة القلب والأوعية الدموية وجدت أفضل في المراهقين لدى الأسر التي تأكل معا، لأن الوجبات المطبوخة في المنزل فيها نسبة أقل من الدهون والسكر والملح حتى لو لم تتعمد الأسرة، فهناك المزيد من الفاكهة والألياف والخضروات والبروتين في تلك الوجبات مع سعرات حرارية أقل".
وقد ثبت أيضا -بحسب كلام فيشل- أن "الأطفال الذين يكبرون وهم يتناولون عشاء عائليا يميلون إلى تناول طعام صحي أكثر حين يستقلون عن الأسرة، كما تنخفض معدلات إصابتهم بالسمنة".
صحيح أن الحياة صارت مزدحمة، والأعصاب صارت مشدودة، والالتزام بروتين وجبة عائلية مرهقا، لكن الارتياح منه يخلق المزيد من الصعوبات التي ستحتاج لمزيد من الجهد لإطفائها فيما بعد.