وقفة مع الشيخ الغنوشي
عريب الرنتاوي
جو 24 : التظاهرات و”حشود الشوارع” وسيلة لإسقاط أنظمة ديكتاتورية وحكومات غير منتخبة، بيد أنها ليست وسيلة ممكنة أو مفضلة لإسقاط أنظمة ديمقراطية وحكومات منتخبة ... هكذا يقول الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية في معرض رده على الحشود المطالبة بإسقاط حكومة العريّض وجمعيته التأسيسية.
ثمة منطق في حديث الغنوشي، مع أن حقوقيين ودستوريين ذوي باع طويل، يجادلون في مسألة العلاقة بين مفهوم “السيادة للشعب” أو “الشعب مصدر السلطات” من جهة، ومفهومي “ديمقراطية صندوق الاقتراع” و”ديمقراطية الحشود” من جهة أخرى، فلا يرون أي تعارض بين هذه المفاهيم الثلاثة، بل ويجزمون بأن “سيادة الشعب” يمكن أن تحقق بالشكلين معاً، والأمر في نهاية المطاف، رهن بالظروف والملابسات المحيطة بكل موقف.
الأمر الذي لم يتطرق إليه الغنوشي، عن سبق الترصد والإصرار، وليس عن “قلة في الإدراك والمعرفة”، هو أن الشعب الذي يمنح تفويضه لأغلبية حاكمة لفترة زمنية محددة مسبقاً، هو ذاته صاحب الصلاحية في سحب هذا التفويض، عند نفاذ الفترة الزمنية أو قبلها، ولهذا السبب بالذات، استدلت الديمقراطيات الحديثة على فكرة “الانتخابات المبكرة” أو “الاستفتاءات” التي تعيد تجديد “التفويض” والمصادقة عليه، أو تسحبه من أصحابه وتمنحه لبُدلائهم من قوى المعارضة.
كان بالإمكان، في مصر كما في تونس، تفادي حالة الصدام والاحتقان، ومنع انزلاق البلاد في أتون الفوضى والفلتان، لو أن القوى الحاكمة الجديدة، التي وصلت إلى سدة السلطة، آمنت بأن الديمقراطية ليست موعداً مضروباً بينها وبين الناس مرة واحدة كل أربع سنوات، وأن اختزالها بصندوق الاقتراع، هو الشمولية بعينها، وأن تجديد الثقة أو سحبها بالقوى الفائزة في الانتخابات، أمر جائز ومحبذ، بل وقد يصبح من قبيل “الوجوب” و”الضرورة” إن بدا المجتمع منقسماً على ذاته، واشتدت الضرورة لإعادة طلب الثقة، وإعادة توزين أحجام القوى وأوزانها من جديد، لا سيما في مراحل الانتقال الصعبة والمعقدة نحو الديمقراطية.
إن توفرت غالبية من الناس، أو كتلة وازنة منهم، حتى وإن لم تكن غالبيتهم، تدعو لانتخابات مبكرة، أو الاستفتاء على طريق أو خيار أو سياسة أو تشريع، وجب الاستماع لصوت هذه الشريحة من المواطنين، وعندما يُظن أنها تمثل الغالبية العظمى من الناس، وأقول يظن فقط، وجب الاحتكام من جديد للصناديق، والعودة لقاعدة “الشعب مصدر السلطات”، ومن يتعامل مع الشعب في غفلة منه، ويظن أنه “اختطف” تفويضاً” يسبغ عليه، طابعاً إلاهياً، هو بكل تأكيد، مشروع ديكتاتور وبذرة نظام شمولي، مهما تدثر بلبوس الحداثة والديمقراطية والعصرنة.
وأظن أن إخوان مصر وتونس وقوعوا في هذا الفخ، وها هم، ومن خلفهم مصر وتونس، يدفعون الأثمان الباهظة لشهوة السلطة وشهية الهيمنة المفتوحة بلا حساب ... وزاد الطين بلّة، أن إخوان البلدين، أضفوا صفة “القداسة” على أنفسهم وجماعاتهم وحكوماتهم وأنظمتهم ... فالصراع في مصر دائرٌ بحسبهم من “الإسلام” و”كفار قريش”، أما الغنوشي فقد رأى في حشود النهضة قبل يومين صورة لـ “فتح مكة”، بيد أنه توقف عن الكلام المباح، ولم يسم لنا من هم كفار قريش وعبدة الأصنام من بين خصوم الحركة الإسلامية التونسية.
نعم، صندوق الاقتراع ركن ركين للديمقراطية، بيد أنه لا يختزلها ... وفي التاريخ ثمة نماذج مروّعة لصناديق اقتراع جاءت بمجرمي حرب وقتلة وفاشيين ... ألم تصعد النازية في ألمانيا إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، مخلّفة وراءها كل هذا الدمار الذي أصاب البشرية في الحرب العالمية الثانية؟ ... ألم تأت صناديق الاقتراع النمساوية بـ “هايدر” وحزبه الفاشي إلى الحكم، فكيف تعامل الشعب النمساوي مع هذه النتيجة، وكيف تعاملت أوروبا والعالم معها؟ ... في ألمانيا، لم تكن الانتخابات المبكرة هي الحل، الحرب كانت هي الحل، أما في النمسا، فلحسن حظ أوروبا والعالم، أمكن تصحيح الخطأ في انتخابات مبكرة، صحح فيها النمساويون خياراتهم.
والمفارقة أن الإسلاميين يتهمون العلمانيين بأنهم جعلوا من الديمقراطية “ديناً” لهم، فاستحقوا الخروج من الملّة وعليها ... مع أنهم هم أنفسهم، الذين يحولون صندوق الاقتراع إلى “وثن” يعبد من دون الله، خصوصاً حين تخدم محتوياته مشروعهم ونهمهم للسلطة، والمؤكد أنهم كانوا سيركلونه بأقدامهم، لو أن نتائجه جاءت بغير ما يحبون ويشتهون، فهل سمعتم يوماً عن إسلاميين يثمنون نتائج انتخابات وينزهون صناديق اقتراع لم تأت بهم إلى مواقع الحكم والأغلبية والسلطة؟
الانتخابات المبكرة، كانت هي الحل في مصر قبل عزل الرئيس مرسي واندلاع ثورة الثلاثين من يونيو ... كان بالإمكان التوافق حولها وتحديد مواعيد وجداول زمنية لها ... ولو أن الإخوان قدموا عرضهم الأخير “خريطة الطرق” قبل ثورة يونيو، لما كان حصل ما حصل، لكنه “كأس الربيع العربي”، شرب من مبارك وابن علي، ويشرب منه اليوم، خلفاؤهم الذين جاءوا إلى الحكم بوسائل ديمقراطية، ثم عادوا للتنكر لهذه الوسائل، وأخذوا ينهلون من قواميس الأنظمة البائدة، الوصفات والاتهامات والمفردات التي طالما استخدمت ضدهم وضد قوى الحراك الثوري والشعبي العربية.
والانتخابات المبكرة، أو الاستفتاء، هي وسيلة التونسيين لتقييم وتقويم خريطة الانتقال إلى الديمقراطية، وبدل إطلاق صيحات الشهادة وبذل المال والأنفس ذوداً عن “الشرعية”، نرى أن يجنح إخوان تونس، الأكثر تعقلاً من نظرائهم المصريين، إلى خيارات التوافق والعودة للاحتكام لقواعد اللعبة الديمقراطية ... فلا أحد لديه تفويض بالتفرد والانفراد، ولا أحد لديه تفويض مفتوح، سيما إن كان رصيده من الإنجاز في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن والأمان، سالباً، أو في أحسن التقديرات: صفرياً ... قليل من التواضع والصبر وطول النفس وعدم الاستعجال، كفيل بتأمين انتقال أكثر هدوءً وأقل كلفة للديمقراطية، فهل ثمة من يصغي لنداء المصالح الوطنية العليا؟ ... هل ثمة من لديه الاستعداد لتغليب مصلحة “الجماعة الوطنية” على “الجماعة الإخوانية” من بين إخوان مصر وتونس، ومن شاكلهما في دنيا العروبة والإسلام؟.
(الدستور)
ثمة منطق في حديث الغنوشي، مع أن حقوقيين ودستوريين ذوي باع طويل، يجادلون في مسألة العلاقة بين مفهوم “السيادة للشعب” أو “الشعب مصدر السلطات” من جهة، ومفهومي “ديمقراطية صندوق الاقتراع” و”ديمقراطية الحشود” من جهة أخرى، فلا يرون أي تعارض بين هذه المفاهيم الثلاثة، بل ويجزمون بأن “سيادة الشعب” يمكن أن تحقق بالشكلين معاً، والأمر في نهاية المطاف، رهن بالظروف والملابسات المحيطة بكل موقف.
الأمر الذي لم يتطرق إليه الغنوشي، عن سبق الترصد والإصرار، وليس عن “قلة في الإدراك والمعرفة”، هو أن الشعب الذي يمنح تفويضه لأغلبية حاكمة لفترة زمنية محددة مسبقاً، هو ذاته صاحب الصلاحية في سحب هذا التفويض، عند نفاذ الفترة الزمنية أو قبلها، ولهذا السبب بالذات، استدلت الديمقراطيات الحديثة على فكرة “الانتخابات المبكرة” أو “الاستفتاءات” التي تعيد تجديد “التفويض” والمصادقة عليه، أو تسحبه من أصحابه وتمنحه لبُدلائهم من قوى المعارضة.
كان بالإمكان، في مصر كما في تونس، تفادي حالة الصدام والاحتقان، ومنع انزلاق البلاد في أتون الفوضى والفلتان، لو أن القوى الحاكمة الجديدة، التي وصلت إلى سدة السلطة، آمنت بأن الديمقراطية ليست موعداً مضروباً بينها وبين الناس مرة واحدة كل أربع سنوات، وأن اختزالها بصندوق الاقتراع، هو الشمولية بعينها، وأن تجديد الثقة أو سحبها بالقوى الفائزة في الانتخابات، أمر جائز ومحبذ، بل وقد يصبح من قبيل “الوجوب” و”الضرورة” إن بدا المجتمع منقسماً على ذاته، واشتدت الضرورة لإعادة طلب الثقة، وإعادة توزين أحجام القوى وأوزانها من جديد، لا سيما في مراحل الانتقال الصعبة والمعقدة نحو الديمقراطية.
إن توفرت غالبية من الناس، أو كتلة وازنة منهم، حتى وإن لم تكن غالبيتهم، تدعو لانتخابات مبكرة، أو الاستفتاء على طريق أو خيار أو سياسة أو تشريع، وجب الاستماع لصوت هذه الشريحة من المواطنين، وعندما يُظن أنها تمثل الغالبية العظمى من الناس، وأقول يظن فقط، وجب الاحتكام من جديد للصناديق، والعودة لقاعدة “الشعب مصدر السلطات”، ومن يتعامل مع الشعب في غفلة منه، ويظن أنه “اختطف” تفويضاً” يسبغ عليه، طابعاً إلاهياً، هو بكل تأكيد، مشروع ديكتاتور وبذرة نظام شمولي، مهما تدثر بلبوس الحداثة والديمقراطية والعصرنة.
وأظن أن إخوان مصر وتونس وقوعوا في هذا الفخ، وها هم، ومن خلفهم مصر وتونس، يدفعون الأثمان الباهظة لشهوة السلطة وشهية الهيمنة المفتوحة بلا حساب ... وزاد الطين بلّة، أن إخوان البلدين، أضفوا صفة “القداسة” على أنفسهم وجماعاتهم وحكوماتهم وأنظمتهم ... فالصراع في مصر دائرٌ بحسبهم من “الإسلام” و”كفار قريش”، أما الغنوشي فقد رأى في حشود النهضة قبل يومين صورة لـ “فتح مكة”، بيد أنه توقف عن الكلام المباح، ولم يسم لنا من هم كفار قريش وعبدة الأصنام من بين خصوم الحركة الإسلامية التونسية.
نعم، صندوق الاقتراع ركن ركين للديمقراطية، بيد أنه لا يختزلها ... وفي التاريخ ثمة نماذج مروّعة لصناديق اقتراع جاءت بمجرمي حرب وقتلة وفاشيين ... ألم تصعد النازية في ألمانيا إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، مخلّفة وراءها كل هذا الدمار الذي أصاب البشرية في الحرب العالمية الثانية؟ ... ألم تأت صناديق الاقتراع النمساوية بـ “هايدر” وحزبه الفاشي إلى الحكم، فكيف تعامل الشعب النمساوي مع هذه النتيجة، وكيف تعاملت أوروبا والعالم معها؟ ... في ألمانيا، لم تكن الانتخابات المبكرة هي الحل، الحرب كانت هي الحل، أما في النمسا، فلحسن حظ أوروبا والعالم، أمكن تصحيح الخطأ في انتخابات مبكرة، صحح فيها النمساويون خياراتهم.
والمفارقة أن الإسلاميين يتهمون العلمانيين بأنهم جعلوا من الديمقراطية “ديناً” لهم، فاستحقوا الخروج من الملّة وعليها ... مع أنهم هم أنفسهم، الذين يحولون صندوق الاقتراع إلى “وثن” يعبد من دون الله، خصوصاً حين تخدم محتوياته مشروعهم ونهمهم للسلطة، والمؤكد أنهم كانوا سيركلونه بأقدامهم، لو أن نتائجه جاءت بغير ما يحبون ويشتهون، فهل سمعتم يوماً عن إسلاميين يثمنون نتائج انتخابات وينزهون صناديق اقتراع لم تأت بهم إلى مواقع الحكم والأغلبية والسلطة؟
الانتخابات المبكرة، كانت هي الحل في مصر قبل عزل الرئيس مرسي واندلاع ثورة الثلاثين من يونيو ... كان بالإمكان التوافق حولها وتحديد مواعيد وجداول زمنية لها ... ولو أن الإخوان قدموا عرضهم الأخير “خريطة الطرق” قبل ثورة يونيو، لما كان حصل ما حصل، لكنه “كأس الربيع العربي”، شرب من مبارك وابن علي، ويشرب منه اليوم، خلفاؤهم الذين جاءوا إلى الحكم بوسائل ديمقراطية، ثم عادوا للتنكر لهذه الوسائل، وأخذوا ينهلون من قواميس الأنظمة البائدة، الوصفات والاتهامات والمفردات التي طالما استخدمت ضدهم وضد قوى الحراك الثوري والشعبي العربية.
والانتخابات المبكرة، أو الاستفتاء، هي وسيلة التونسيين لتقييم وتقويم خريطة الانتقال إلى الديمقراطية، وبدل إطلاق صيحات الشهادة وبذل المال والأنفس ذوداً عن “الشرعية”، نرى أن يجنح إخوان تونس، الأكثر تعقلاً من نظرائهم المصريين، إلى خيارات التوافق والعودة للاحتكام لقواعد اللعبة الديمقراطية ... فلا أحد لديه تفويض بالتفرد والانفراد، ولا أحد لديه تفويض مفتوح، سيما إن كان رصيده من الإنجاز في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن والأمان، سالباً، أو في أحسن التقديرات: صفرياً ... قليل من التواضع والصبر وطول النفس وعدم الاستعجال، كفيل بتأمين انتقال أكثر هدوءً وأقل كلفة للديمقراطية، فهل ثمة من يصغي لنداء المصالح الوطنية العليا؟ ... هل ثمة من لديه الاستعداد لتغليب مصلحة “الجماعة الوطنية” على “الجماعة الإخوانية” من بين إخوان مصر وتونس، ومن شاكلهما في دنيا العروبة والإسلام؟.
(الدستور)