دعسة يكتب عن قضايا الوطن والإنسان والفنّ
جو 24 :
عمان- شروق العصفور
يأتي الكاتب والفنان التشكيلي الزميل حسين دعسة إلى عالم القصة القصيرة جدا من أرض القضيّة الفلسطينيّة وقضايا المجتمع الأردنيّ خاصةً والعربيّ عمومًا وقضايا الإنسان أيًّا كانت جنسيّته.
ويمزج دعسة في مجموعته «عن قلب البنفسج والوردة الحمراء»، الصادرة حديثا ضمن سلسلة «إبداع عربي» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، الأديب بالفنان التشكيلي بالإعلامي، وهي المجالات التي خاضَها ومارَسَها وأثبَتَ فيها حضورًا وتأثيرا.
كتب الأديب منير عتيبة رئيس مختبر السرديات في مكتبة الإسكندرية، في دراسة نقدية عن المجموعة قائلا: «على مدى أكثر من ثمانين قصة قصيرة جدًا يقدِّم دعسة رأيه في عدد كبير من الموضوعات التي تمسّ؛ بعضها أو كلّها؛ القارئ. ويمكن تقسيم قصص المجموعة إلى عدد من المتواليات القصصيّة التي تنتسب كلّها لموضوع واحد تتناوله من زوايا مختلفة، وبتحليلات متنوِّعة، وإنْ لم يرتِّبْها الكاتب في مجموعته بهذا الشَّكل، والتَّرتيب قضيّة خلافيّة، فالكاتب فضَّل أنْ يضَعَ قصصه مُتتابعةً دون قصديَّة ترتيب موضوعاتي أو فنّي محدَّد، ربَّما حتى لا يملّ القارئ من الحديث في موضوع واحد على مدار عدد كبير من القصص المُتتابعة».
وأضاف عتيبة: «أهمّ الموضوعات التي تناولتها قصص هذه المجموعة: قصص القضيّة الفلسطينيّة والمقاومة، قصص بدايات التفتُّح والمُراهقة، قصص العشق والهوى، القصص الحلميّة أو الكابوسيّة، القصص السّاخرة من العيوب الشخصيّة أو الاجتماعيّة، قصص عن الطفولة، قصص الحيوانات، قصص فيروس كورونا».
ويوضح عتيبة أن القضيّة الفلسطينيّة تحتلّ الموضوع الرَّئيس في هذه المجموعة، لافتا إلى أن دعسة يضعنا منذ عنوان المجموعة أمام توقُّعات نفسيّة وفنيّة عديدة، فالتشكيل غالب على كثير من قصص المجموعة، بانتشار اللّون كبطل أساسي في التعبير، وباستخدام أساليب الفنّ التشكيلي في الكتابة مثل التبقيع اللّوني حيث يضع مشاهد متناثرة على القارئ أن يربط بينها ليصل إلى المعنى العام للقصة/ اللوحة، واستخدامه لفن الموزاييك في كتابة العديد من قصص المجموعة كما في قصة «بهجة وعرس وطيران».
ويشير عتيبة إلى أن اللون البنفسجي الذي يبدأ به عنوان المجموعة ينتشر في العديد من قصصها سواء في المتن أو العناوين، ذاهبا إلى أن هذا اللون اختير بعناية، فـ"البنفسجي يمهِّد القارئ لعالم من الهدوء والسلام والراحة النفسيّة، فيجد القارئ العكس؛ عالمًا يموج بقضايا الوطن والإنسان والفنّ، فينتبه ويتحفّز، ويكتشف أنَّ نصيبه من دلالات اللّون البنفسجي هو الاكتئاب الذي يُصاب به مَن يبالغ في استخدام ورؤية هذا اللّون، وربَّما كانت الوردة الحمراء في العنوان وهي الرّامزة إلى الدّم والحياة، إلى العشق والخطر، ربَّما كانت هي التي توازن دلالات العنوان مع محتوى القصّ المقدَّم بالمجموعة، فكأنّ الكاتب بهذا العنوان يلعب على التناقض اللونيّ، فالقصص تقدِّم عكس ما يشير إليه أحد اللّونين وتتماشى مع إشارات اللّون الآخر. أمّا اليمام المُنتشر أيضًا في قصص كثيرة فهو صوت الحلم، وهو الصوت الضائع، وإذا عرفنا أنَّ اليمام يغادر المكان الذي ترعرع فيه ولا يعود إليه إطلاقًا، لَفهمنا دلالاته لتعميق ما تريد هذه المجموعة أن ترسِّخه في وجدان القارئ من الإحساس بالشّتات والغربة والضّياع، على مستوى قضايا الوطن أو قضايا الإنسان الفرد».
ويؤكد عتيبة أن دعسة يكتب القصة القصيرة جدًا بحرفيّة مَن عرف ودرس شروطها جيدًا، لكنَّ الإعلامي فيه لا يختفي تمامًا، حيث يهمّه أن يقول شيئًا من خلال القصة وليس مجرَّد تهويمات، حتى في القصص التي تعتمد تقنية تيّار الوعي، أو القصص الكابوسيّة، تجده يحاول أن يقول أو يشير إلى شيء ما في أعماق النفس الإنسانيّة. ويضيف: «لا يخطئ القارئ وجود الفنّان التشكيلي في المجموعة، ولا يخطئ أيضًا وجود الشاعر، فغواية اللغة تأخذ الكاتب أحيانًا من ضرورات القَصّ إلى لذَّة الشِّعر، وربَّما هذا ما على الكاتب أن ينتبه إليه إضافة إلى التفاصيل الزائدة وكثرة عدد الشخصيّات وسرد المشهد اليومي كما هو، واتِّساع المدى الزمني المسرود؛ من الأشياء المهمّة التي تجعل بعض القصص بحاجة إلى إعادة نظر من الكاتب».
ويختم عتيبة دراسته بالقول: «ما قدَّمه حسين دعسة في (عن قلب البنفسج.. والوردة الحمراء) إضافة جيِّدة إلى عالم القصة القصيرة جدًا على مستوى الموضوع والتقنية، وهو ما يجعل مَن يرفضون القصة القصيرة جدًا يُعيدون النَّظر برؤية أعمال بهذا الرقيّ مقابل الكثير من الغثاء الذي يُنشر خصوصًا بمواقع التَّواصل الاجتماعي».
من جهته، يقول الزميل دعسة في شهادته عن مجموعته: «ممّا مسَّني ذات غرام، قبل أكثر من أربعة عقود اكتشفتُ أنني أشاهد طيفا ما يلاحقني، منذ كتبتُ قصّة (الشيخ عبّاس) التي سافَرَت من بين يديّ عبْر البريد العادي، إلى صفحات مجلة (المستقبل) الباريسيّة.. وقتئذ لملمتُ طيفَها وحيدًا، غنيًّا بمخيال شرقي أنيس بإشاراتِ وتنبيهاتِ الكاتب الشاب بداية عام 1977».
ويضيف: «وجدتُ حريَّتي تتفلَّتُ من وهج دفاتر وكرَّاسات، تنوء بما في نبضِها من أزمنة؛ ذلك أنَّها شهقة اللاجئ والمهاجر، والممسوس، عاشقًا لموسيقى تناثرت عبْر المنفى، في زقاق المخيَّم الذي حدَّد مجالُه أفقَ حكاياتِنا، وتلك الحكايات الشفاهيّة التي تبادلها الناس في عنفوان النَّظرة إلى الآتي!».
ويتابع بقوله: «في هذه القصص، كلَّمتُ وكلَّمَني هاتف المغيب من على ضفاف النيل، وشواطئ مخاضة نهر الأردن، وشغف نهر دجلة الخيّر.... يأتيني الطَّيف، يقلِّب معي خربشات كثيرة، باتت كلمات تنحاز إلى الصَّمت والنَّبش والتعرّي، فكنتُ ضحيّة تلك الأمنيات ونالني من حرائق الشُّموع ما نال فضّة روحي اللُّجين المعتَّق، لأنَّني كنتُ أسمع خلاخيل أُمّي تتراقص في ليل الدُّروب بين البيَّارات، تلاحق ثعالب الزَّرع والثوّار الصِّغار ونزوات أخرى، ليس منها سَقْي الأشجار وقد حطَّ بينها زرق العيون وأشباح غريبة لم تخرج من حكايات جدَّتي سارة، ولم تكن عمّن فَتَلوا شواربهم استعدادًا لحمل البنادق القديمة؛ ولا عن تلك البراءة في سقف بيوت برّاكيّات المخيَّم بالبوص وقصب الماء، وتربيطِه بخيوط القنَّب والكتّان، وهي قصّة أشغلتنا بها جدَّتي عن الحروب الصغيرة التي كانت تجري داخل بيوت المخيَّم».
ويواصل دعسة: «كأنها حرير الروح تهبُني ألقَها وتصقلُ صورة الطَّيف وقد نالَ وسْم الحُبّ من رملٍ وطينٍ وبرتقال... ظَهَرَ في الرُّؤيا أنَّني أتأمَّل دائرة القمر، خجلتُ من غباشٍ أصاب بَصَري، كان طيفكِ يتصارع مع ظلِّ القمر على صفحةِ النَّهر، وباتَ قمرُكِ يُرسل لي القُبَل... وظهر، أيضًا أنَّني وشَّحتُ صدرَ القمر بظلال أصابعي التي تعطَّرَت بأصابع، غارَ النيل وتبادَلَ مع أصابعي رقّة اليمام الخافي».
ويختم دعسة بالقول: «تلك الكتابة وهذه المجموعة هنا، هي مدارج الرُّوح، وفق سردٍ ينبشُ في خاصرة مُتعبة، بريدُها ذاكرةٌ إنسانيّةٌ تمتدُّ إلى نصف قرن من خوض الحروب الصغيرة بألعاب، هي بأقمارها وأنهارها وأسواقها وغرف نومها؛ لعب أطفال... تلك القصص النادرة، بثَّها قلب معمّم بالتجلّيات والإشارات والتنبيهات.. عاش وعاش، يقرأ تائهًا (كليلة ودمنة) و(ألف ليلة وليلة) و(رحلات جلفر)، ويرسم تلك التوابيت والأكفان، يراها كالوشم في قلب بصماتٍ لأصابع احتَرَقَت بالنُّور الصّاعد من بين تراب وحقول وسراب يتناثر هنا وهناك؛ ذلك أنّه يتبع خيط الدّم».