أحمد ذيبان يكتب: جَرُّ الناس بالسلاسل الى "حديقة الأحزاب" !
جو 24 :
كتب أحمد ذيبان -
أنا شخصيا ممن يعتقدون بأن الاحزاب السياسية الحقيقية ، تعتبر أفضل الأطر التي توصلت اليها البشرية حتى الان لممارسة الديمقراطية ،لكنني لكثرة ما أسمع وأقرأ في الفترة الأخيرة من تحشيد رسمي باتجاه دفع المواطنين، وخاصة الشباب للانتساب الى الاحزاب السياسية ، ألاحظ أن هناك رغبة رسمية جارفة لجر الناس ب"الحبال " أو تحميلهم بواسطة بولدوزرات نحو "حديقة الاحزاب"! التي يتكاثر عددها مثل الفطر ، حيث بلغ عدد المرخص منها حتى اليوم 53 حزبا ، بالإضافة الى 17 حزبا تنتظر دورها بالترخيص، دون أن يستطيع حتى المنجمين التمييز بين غالبيتها العظمى من حيث الأفكار والمباديء والبرامج، حيث التشابه بينها يصل حد التطابق، والتمييز بينها أقرب الى الاختيار بين حب البازيلا، ومن يريد التعرف عليها لا بد أن يبحث عن أسماء الأمناء العامين ، وغالبية قيادات الكثير من هذه الأحزاب وكوادرها العليا، تستخدم مواقعها الحزبية للبحث عن مكاسب شخصية واجتماعية وعقد صفقات مع أجهزة الدولة وتسعى للوصول الى مناصب ، وأخشى أن نصحو في أحد الأيام على صدور أمر دفاع ، يتضمن دمج هذه الاحزاب بثلاثة او أربعة !
يحدث هذا في سياق التعجيل بتنفيذ مخرجات لجنة تحديث المنظومة السياسية، تحت شعار الاصلاح التي خصصت للأحزاب"كوتا" برلمانية تتكون من 41 مقعدا بمجلس النواب في المرحلة الاولى ، والأهم من ذلك ان تلك المخرجات تضمنت تعديلات دستورية ،أضافت اليها الحكومة المزيد بما يسحب مزيد الصلاحيات الأساسية ، من أي حكومة يفترض أنها صاحبة الولاية العامة !
والمفارقة المضحكة أن الأكثر حماسا للعمل الحزبي في المرحلة الجديدة ،هم "أبطال" مناهضة الأحزاب وتجريم النشاط الحزبي خلال مرحلة الأحكام العرفية ،عندما كانت الأحزاب ممنوعة وأعضاؤها ملاحقون !
في الشؤون المفصلية والسياسات العليا لا شيء يحدث في الاردن بالصدفة ، فكل القضايا المتعلقة بمستقبل الدولة يبدو لي أنها محسوبة بميزان دقيق ، باستثناء إدارة شؤون المواطنين الخدمية واليومية فهي أقرب الى حياة عمال المياومة، رغم كثرة تصريحات الحكومات عن "الاستراتيجيات" ، وما يتم تنفيذه من مشاريع خدمية مرتبط بتوفر المساعدات والمنح والقروض الخارجية !
حواريات الإصلاح
أثار اهتمامي خبر نشر على موقع صندوق الملك عبد الله الثاني للتنمية وبثته وكالة بترا ، يتعلق بإطلاق الصندوق ضمن خطته البرامجية للعام 2022 ، مشروع "حواريات الاصلاح" لتعزيز مشاركة الشباب في الحياة السياسية ،والمساهمة في فرز نخب شبابية في مختلف المحافظات ، وحسب الخبر يهدف المشروع الذي ينفذ بالتعاون مع "مؤسسة مسارات الاردنية للتنمية والتطوير" ، الى توفير مساحة للشباب لطرح أفكارهم كوسيلة واعية لإحداث التغيير عبر القنوات الديمقراطية . ولا أعرف لماذا إشراك "مسارات "طالما توفرت للصندوق كافة الامكانيات اللازمة لتنظيم مثل هذه الفعاليات ؟
ولربط النشاطات مع بعضها في محاولة لفهم التشابك بينها ،يجدر توضيح أن "مسارات " تأسست عام 2021، وتعرف نفسها بأنها "مؤسسة مجتمع مدني لا تهدف الى الربح،تختص بقضايا تعزيز حضور المرأة في الفضاء العام وتمكينها سياسيا واقتصاديا ،ودعم تحفيز مشاركة الشباب في العمل السياسي والتنموي ، وتطوير وتعزيز قدرات الاعلام لمواكبة التطورات ليكون أداة للرقابة وسبيلا لتحقيق التنمية المستدامة والديمقراطية " .
تأسست "مسارات" بمبادرة من الوزيرة السابقة جمانة غنيمات ،والنائبة السابقة والوزيرة الحالية وفاء بني مصطفى ،وترأس مجلس ادارتها الوزيرة السابقة ريم أبو حسان، ومن خلال بحثي عن خلفيات المؤسسة لاحظت أن لها علاقة تشاركية لتمويل انشطتها مع" الصندوق الكندي لدعم المبادرات المحلية "مثل الجلسة الحوارية التي عقدتها لعدد من أعضاء مجلس النواب الأردني حول (تمكين المرأة من المشاركة في الأحزاب السياسية " من زاوية نظام الدعم المالي") . وورشة عمل لكوادر ديوان التشريع والرأي في رئاسة الوزراء حول "تعزيز مشاركة المرأة في الأحزاب السياسية في الأردن" بحضور رئيسة ديوان التشريع والرأي فداء الحمود ".
كما تتعاون "مسارات" مع مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية، مثل إطلاقها بتاريخ 13 تشرين الأول2021 "الدليل الإعلامي للمرأة السياسية"، والذي يعنى بالعمل مع النساء السياسيات لتدريبهن على آليات التواصل مع الإعلام والظهور الإعلامي، وبالتالي زيادة تبني إدماج النوع الاجتماعي في العمل السياسي وتنمية المعرفة والخبرة في حملات كسب التأييد حيال مختلف القضايا.
كنت أظن أن صندوق الملك عبد الله الذي أسس عام 2001 بموجب قانون رقم (13) لسنة 2001 ، والذي أصبح فيما بعد قانون رقم (37) لسنة 2004) يهتم فقط بعملية التنمية المستدامة للبلاد ،استنادا الى الكلمات التي دشن فيها الملك انطلاقة الصندوق وجاء فيها: "فإننا نود إنشاء صندوق خاص يكون بمثابة مظلة مؤسسية، يساهم بدعم الجهود التنموية والاجتماعية والتعليمية، بحيث يكون هذا الصندوق المبادر في تحفيز تنمية شاملة، تعتمد على مشاريع تسخر طاقات المواطنين للإنتاج والإبداع، وتقوم بمساعدة الفئات العاملة في إنجاح المشاريع". عبدالله الثاني ابن الحسين - كانون الأول 2001 6.
وكما هو مكتوب على موقع الصندوق حول رسالته فهو: "مؤسسة أهلية تسعى لتوزيع عادل لمكاسب التنمية بين المحافظات، من خلال دعم جهود زيادة الإنتاجية وتأسيس مشاريع ريادية إنتاجية للمواطنين، ودعم الجهود الرامية الى زيادة الوعي المجتمعي ، بهدف تعزيز التنمية المستدامة للبلاد، ويسعى الصندوق بالشراكة مع القطاعين العام والخاص، إلى تنفيذ مشاريع وبؤر تنموية خصوصاً في المناطق التي تعاني من الفقر والبطالة".
لكن في الخبر المشار اليه آنفا يتضح أن للصندوق اهتمامات سياسية، وهنا لا بد من ملاحظة أن إحدى المؤسسات الرئيسية المرتبطة بالصندوق هي "هيئة شباب كلنا الأردن"، ويجدر التنويه الى ما تضمنته مخرجات لجنة تحديث المنظومة السياسية من تركيز على دور الشباب، لجهة إعطائهم حصة مهمة في الأحزاب وتخفيض سن الترشح لمجلس النواب الى 25 عاما، وخلال العقدين الماضيين تم رعاية جيل من الشباب ضمن الفئة العمرية بين "18 الى 35" عاما، أصبح الآن جاهزا للانخراط بالأحزاب، بالتزامن مع انجاز مخرجات لجنة إصلاح المنظومة السياسية ، فهل هذه مصادفة محضة ؟
ويمكن الاستشهاد بالفقرة التالية على لسان الملك، للإشارة الى أهمية "هيئة شباب كلنا الأردن" في الأجندة الرسمية "أريد أن تكونوا على ثقة أنني شخصياً أنظر إلى مظلة كلنا الأردن وشباب كلنا الأردن نظرة مستقبلية في غاية الأهمية والجدية، ولا أريد أن يفكر أي واحد منكم أن هذه المظلة يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها، بل على العكس، هذه المظلة لا بد من تطويرها بحيث يتفرع عنها أجهزة أخرى في المستقبل تتكامل مع الأجهزة الشبابية الموجودة". عبد الله الثاني ابن الحسين - في الخامس من تشرين الأول عام 2006م.
ويتضح من ذلك أن الهدف الأساسي من إنشاء هذه الهيئة ، كما ورد في التعريف ببرنامج التمكين السياسي لها ، هو" تفعيل دور الشباب كشريك حقيقي ومؤثر في الحياة العامة"، وورد بالنص الحرفي ما يلي: "يهدف البرنامج إلى رفع قدرات الشباب الأردني وزيادة وعيهم وإنخراطهم في الحياة السياسية، من خلال جلسات نقاشية ودورات تدريبية حول الاحزاب، والانظمة الانتخابية والادارة المحلية، ومبادئ الحوكمة (النزاهة والشفافية ومحاربة الفساد)، كما يهدف البرنامج الى تعزيز ثقافة الحوار لدى الشباب وتوفير الأدوات اللازمة لهم، لتفعيل مشاركتهم في الحياة السياسية من خلال الجلسات النقاشية التي تعقد في جميع المحافظات، والمشاركة في العملية الانتخابية".
مؤسسة ولي العهد ورعاية الشباب
وبالإضافة الى الدور المحوري لصندوق الملك عبد الله في رعاية الشباب ، من الجدير الاشارة الى الفعاليات التي تقوم بها مؤسسة ولي العهد ، التي أنشئت عام 2015 بقانون أقره مجلس الأمة ، ومن أبرز أهدافها الاستراتيجية " دمج "الشباب في جميع القطاعات السياسيّة والوطنيّة . وإعداد جيل من القادة الفاعلين في مجتمعاتهم المحليّة".
ومن بين أهم أذرعها مبادرة "حقق" ويتم تنفيذها بالشراكة مع وزارة التربية والتعليم، وبرامجها وأنشطتها مخصصة لطلبة المدارس الحكومية من كلا الجنسين وفي مختلف محافظات المملكة، حيث تضمّ هذه البرامج ورشات عمل تدريبية وزيارات ميدانية ومخيّمات، تركز على بناء وتطوير المهارات الحياتية والشخصية والقيادية والمجتمعية للشباب والشابات، بشكل يعزز من روح الانتماء والولاء والمواطنة الفاعلة عند الشّباب والشابات، إضافة إلى تعزيز مفهوم العمل التطوعي بشكل يخدم متطلبات المجتمع الأردني".
صحيح أن من مسؤوليات الدولة رعاية الشباب من قبل الحكومة، من خلال التعليم وتوفير فرص عمل، لكن بدون تربيتهم سياسيا باتجاه محدد، فهذا نهج تميزت به الأنظمة الشمولية، لان هذا النمط من الرعاية والتربية المدعوم بإمكانات الدولة، يتعارض مع مفهوم التعددية السياسية، ويصادر فرص الاحزاب السياسية في استقطاب الشباب !
**
وهنا ينبغي الإشارة الى حقيقة أساسية تتعلق بالتنمية السياسية، والممارسة الديمقراطية في الدول ذات التجارب العريقة، في انتهاج هذا الطريق وتداول السلطة، وهي أن الهدف من تفعيل الحياة الحزبية هو خلق معارضة حقيقية، تراقب أداء الحكومات وتحاسبها وتنتقد أخطائها وتدفعها، باتجاه تجويد عملها والسعي للجلوس محلها، وليس تأطير الموالاة في أحزاب سياسية لتحل مكان "العشائرية السياسية"!
ومن خلال رصد المشهد السياسي يبدو أننا أمام عملية مبرمجة منذ فترة طويلة، وطالما أن عدد الاحزاب المرخصة حتى الان وصل الى 53 حزبا، وهناك 17 حزبا تقدمت بطلبات ترخيص، وهي أحزاب في الواقع "كرتونية" باستثناء حزب جبهة العمل الاسلامي، الذي لديه قاعدة جماهيرية ربما تمكنه من الفوز بعدد مقاعد لا يزيد عن عشرة، من الكوتا المخصصة للأحزاب "41 مقعدا" في برلمان رقم 20، كخطوة أولى قبل أن ترتفع النسبة بالتدريج خلال 12 عاما لتصل الى 67 مقعدا، بعد أن تنضج "خارطة الطريق" التي وضعتها لجنة اصلاح المنظومة السياسية، فإن حصة بقية الأحزاب ستكون مجرد فتات، وأي حزب أو إئتلاف يضم مجموعة أحزاب من الموجودة حاليا بعد "العمل الاسلامي"، لن يحصل على أكثر من مقعدين الى ثلاثة، أما "حصة الأسد" فستكون من نصيب الأحزاب الجديدة التي سيتم إنتاجها برعاية رسمية مبطنة، وهناك حوافز مالية مجزية الأحزاب تتناسب طرديا مع النتائج التي تحققها في الانتخابات النيابية وفق مشروعي قانوني الاحزاب والانتخاب اللذين وضعتهما لجنة تحديث المنظومة السياسية!
وأود التذكير بفقرة وردت في كتابي "الشبع من الحياة "، الذي صدر العام الماضي تتعلق تلخص حالة التنمية السياسية في الأردن وجاء فيها "الحياة السياسية في الأردن، تسير باتجاه واحد محدد السقف، أشبه بشخص يقود سيارته في مسرب واحد على أوتستراد بسرعة لا تزيد عن 50 كم في الساعة، يسمح له بالتوقف في استراحة أو مطعم لتناول وجبة وأخذ قسط من الراحة، أو تناول ما يرغب من مشروبات ساخنة وباردة من كشك على جانب الطريق، وإذا رغب بالتمشي على الرصيف فلا مانع، لكن غير مسموح له بالالتفاف الى الاتجاه الآخر من الطريق".