نجلا ادوارد سعيد في كتاب
أقرأ بعض الكتب لأن عملي يقتضي أن أقرأها، وأقرأ كتباً أخرى لأنني أريد أن أقرأها، واليوم أقدم للقراء كتاباً من النوع الثاني يحكي تجربة حياة شابة وجدت نفسها تغرِّد خارج سربها فهي عربية فلسطينية لبنانية في نيويورك.
«بحثاً عن فلسطين»، أو العيش المرتبك في أسرة عربية أميركية، يحكي ذكريات نجلا سعيد، ابنة إدوارد ومريم سعيد، وشقيقة وديع، بين نيويورك ولبنان وفلسطين.
ليس سهلاً أن تجد بنت صغيرة نفسها في بيت أحد عمالقة الفكر في القرن العشرين، وأن تكون غالبية من زميلاتها في المدرسة يهوديات، وأن يكون بيتها في نيويورك لبنانياً فلسطينياً يجلب أضواء الميديا والأكاديميا كل يوم.
نجلا عانت من التناقض في حياتها اليومية، وكانت صغيرة منطوية على نفسها إلى درجة أن والديها استعانا بطبيبة نفسية تساعدها على الخروج من قوقعتها، وعندما كبرت عاقبت نفسها بعدم الأكل إلى درجة أنها كانت فوق 170 سنتيمتراً طولاً ودون 50 كيلوغراماً وزناً. إلا أنها بعد المدارس الخاصة الراقية وجامعة برنستون وجدت ضالتها في التمثيل، ونجحت في تقديم عروض خارج برودواي، وكتابها نفسه يمثل مسرحية حياتها وقد أدَّت دورها فيها لطلاب مدارس وجمعيات وغيرها.
نجلا تتحدث عن اسمها فقد اكتشفت أنه بمعنى «عينان سوداوان كبيرتان مثل (عينيّ) بقرة». هو اسم عزيز عليّ جداً فوالدتي رحمها الله كان اسمها نجلا، وأخي الذي ذهب للدراسة في الولايات المتحدة ولم يعد أطلق على ابنته اسم نجلا، ووجدت أن الأميركيين يطلقون على نجلا سعيد اسم «ناج» تخفيفاً وهو أيضاً اسم ابنة أخي بين صديقاتها. وتقوم صداقة بين نجلا سعيد وشابة مثلها اسمها مهى، وتكتشف نجلا أن معنى الاسمَيْن واحد. ما أعرف هو أن مهى مفرد مهاة، أي البقر الوحشي، ووصف امرأة بها يعني فعلاً العين الكبيرة، والشاعر قال: عيون المها بين الرصافة والجسر، أما نجلاء فهي بالمعنى نفسه عن العيون، ولكن لم أقرأ أن لها علاقة بالبقرة الوحشية.
كنت أقرأ ذكريات نجلا مع والديها، وأسترجع علاقتي بالأسرة، فقد بدأت مع جويس سعيد، شقيقة إدوارد التي عملت ناقدة أدبية وفنية في «الديلي ستار» وأنا أرأس تحريرها في بيروت، وكان بيت أسرة سعيد لا يبعد أكثر من مئتي متر عن بيتي في شارع المقدسي في رأس بيروت فكنا نتزاور إلى أن تركنا جميعاً لبنان خلال الحرب الأهلية.
كنت رأيت إدوارد في لبنان، وصدر كتابه «الاستشراق» وأصبح من نجوم الأدب العالمي، فبقينا على اتصال حتى عادت «الحياة» إلى الصدور واتفقت معه على أن يكتب لنا مقالاً كل أسبوعين. كان اتفاق «جنتلمان»، تماماً مثل اتفاقي مع الشاعر الحبيب نزار قباني، رحمه الله، فلا عقد مكتوباً على الإطلاق، وإنما هو اتفاق شفوي بين أصدقاء.
نجلا تتحدث في كتابها عن زيارة العائلة فلسطين المحتلة، بما فيها قطاع غزة، وقد كتب إدوارد عن تلك التجربة لجريدة «الأوبزرفر» اللندنية. وأجد الرحلة إنجازاً وشجاعة، فأنا يستحيل علي أن أزور القدس وهي تحت الاحتلال. وقد رفضت سنة بعد سنة أن أعود مع الرئيس جلال طالباني (مام جلال) إلى بغداد وفيها جنود أميركيون.
نجلا سعيد بنت أبيها، وأقرأ دراستها اللاتينية وشعراءها في الثانوية، والأدب المقارن في الجامعة ومادة صعبة ركزت فيها على الرواية والدراما والفكر والشعر الفرنسي ما ذكرني بعضها بدراستي العلوم السياسية في الجامعة.
بعض قصص نجلا عن أبيها عاصرته وتابعته كما حدث عندما زار لبنان ورمى حجراً عبر الحدود الجنوبية على برج حراسة إسرائيلي مهجور. كان موقفاً رمزياً وطالب أنصار إسرائيل بطرده من العمل في جامعة كولومبيا إلا أن الجامعة انتصرت له، وبقي يكتب ويقاوم المرض، فقد أصيب بسرطان الدم، وكنت لا أراه حتى أسمع منه حديثاً عن تطور المرض أفهم أقله لأنني لا أعرف الاصطلاحات الطبية التي يستعملها.
إدوارد سعيد رحل عنا، وكتبت الميديا الأميركية والبريطانية أنه كان زعيم الفكر الليبرالي على جانبَي المحيط الأطلسي. ولي عزاء في زوجته الأخت الحبيبة مريم فزيارة نيويورك لا تكتمل من دون فنجان قهوة معها وحديث خاص وعام.
أتمنى على كل قارئ قادر أن يطلب كتاب نجلا سعيد ليخرج من بؤس السياسة العربية إلى جو نقي يجمع بين أعلى درجات الفكر العالمي والوطنية الخالصة.
(الحياة)