"عبيدُ الأمزِجة ولسنا سلاطين الرأي العام"
جو 24 :
كتب ازهر الطوالبة - كُلّ حادثةٍ مُفجِعة تحدُث في هذه البِلاد، ولا تُعامل إلّا بالبلاهة مِن قبل المسؤولين، هي حادثةٌ تؤكِّد لكَ كمواطِن ما لا تُريد أن يؤكَّد، ألا وهو العدَد الهائل للقوى الدّاخليّة والخارجيّة التي تسخِّر كُلّ طاقاتها في سبيلِ اللَّعب في الوعي الثقافيّ والاجتماعيّ والسياسيّ للمُجتمَع.
فعلى هذا الرقعة الأكثر بؤسًا في الأرض، تحدُث أحداث تؤدّي إلى القناعة المُطلقة التي مفادها أنَّ هذه القوى نجحَت في عدم إيجاد رأيًا عامًّا يجعَل وعينا صلبًا متينًا في مواجهَتهم وكُلّ مَن يسعونَ لهدّمه، وهذه القناعة ليسَ فيها تجنِّ على أحد، إطلاقًا، وإنّما هي الحقيقة التي سعيتُ كثيرًا لعدَم تأكيدها. فالسُموم التي تضخّها وسائل الإعلام في المُجتمع، والدّور الهزيل الذي تلعبهُ مواقع التراشق الاجتماعيّ ( بسبب عدم إدراك قيمة هذه المواقع مِن قبل مستخدميها) رسّختا حالة غير مفهومة مِن البلاهة التي نعيشها، وقد تؤدّي بنا هذه الحالة، إن لَم نجتَرح الحُلول للخُروج مِنها، إلى أن نُحكمَ بما لَم تعرِفهُ البشريّة مِن حُكم ؛ وذلكَ بسبب عدَم الجُرأة على العمَل (الفكريّ، السياسيّ، الثقافيّ) ليكونَ هُناكَ وعيًا مجتمعيًّا حصيفا، ليسَ على المدى القريب، وإنّما على المدى المُتوسّط على أقلّ تقدير.
والدَّور الأبرَز في الوصول إلى هذه الحالة، قد لعبتهُ بل تفرَّدت بهِ السُلطة، وذلكَ مِن حيث سيطرتها على كُلّ ما يتعلَّق بالمؤسسة الإعلاميّة، وإيصالِ السُّخفاء إلى كُبرى (كما يسمّونها وهي ليست كذلك) القنوات الإعلاميّة المحليّة، وفتح المجال أمامَ فئةٍ تُسمّي ب"المؤثرين" ليصبحوا مِن مقدّمي أو مُعدّي البرامج التسخيفيّة الهابِطة، التي لا تعمَل في سبيل صناعة رأي عام مُقدَّر ومُحترَم، يكون لهُ ما له، وعليهِ ما عليه، بقدَر ما تعمَل على زيادَة أعداد المُتابيعنَ لها، والتي ستُمكّنها مِن تجميعِ ثرواتٍ طائلة، وهذا يعني، أنّنا لَن نتمكَّن مِن ركوب أيّ حصانٍ يقلنا إلى حيث ما يجِب أن نكون، أي إلى حيث ما يُمكِن أن نُخافظَ فيه على وجودنا، وتمكّننا مِن بناء أركان الرأي العام، لافّينَ حِبالنا على أعناق المزاجيّة التي ولّدتها السُلطة وما ذُكرَ مِن أسبابٍ نجحَت في قتل كُلّ ما يمتّ للرأي العام بأيِّ صِلة.
وأكثَر إيضاحًا..نحنُ شعبٌ تحكمنا المزاجيّة، وتأخذ بنا إلى منصاتِ الحُكم التي تُريد، والتي تدّعي أنّها الأقدَر على إدارَة الشؤون للمحكومين. فهذه المزاجيّة تختلف اختلافًا كبيرًا عن الرأي العام . إذ أنّها لا تستَند على أيٍّ مِن الأُمور التي يستَند عليها الرأي العام .
فالرأي العام يستَنِد على موضوعيّات وقناعاتٍ ثابِتة، وعلى قضايا يتبنّاها، وتفاصيلٍ يُمحّصها بدِقة، بينما المزاجيّة، هي ليسَت أكثر مِن التعبير عن حالة مَلل مِن أمرٍ ما، أو التعبير اللّحظيّ عن فاجعةٍ ومصائب، دونما أن تُشكّل هذه المزاجيّة أيّ ضغطٍ يدّفع إلى محاسبة/معاقبة مرتكبي الفواجِع والمصائب والمُتسبّبينَ بها.
نعم، وضعنا أنفُسنا في مآزقٍ كثيرة، إلّا أنّ أهمّها، أنَّنا قبلنا بأن نُجرَّد تجريدنا كاملًا مِن قوّة "الرأي العام" وهي قوَّة الضّغط الوحيدة التي تمتَلكها الشّعوب، وأنّنا قبِلنا بأن ننتَهجَ المِزاجيّة( التي اشتغَلت عليها كلّ مراكز صُنع القرار) في مواجهَة مُرتَكبي الفظائع مِن قِبل أجنِحة السُلطة، ونحونا نحو الإكتِفاء بسرديِّة التّضامُن التي لا يُمكِن أن تكونَ طريقًا قويمًا للدِّفاع عن أقلّ الحُقوق البسيطة لأيّ شعبٍ كان.
فأسلوبا التّضامُن والمزاجيّة المُتّبعان مِن قبل الشَّعب، هُما أسلوبان قَد يكونا جيّدان في مسألةٍ ثقافيّة في مُجتمعٍ ضيِّق، فيه فئاتٌ تُصارع بعضها بعضا، أو قد ينجحا داخلَ فخذٍ مِن أفخاذ عشيرة ما، فقَد ينتَهِجهما البَعض على أساس المعرِفة الشخصيّة وليسَ على قدرِ "المُواطنة" وعلى مدى أبعَد على قدر "الإنسانيّة"، لكنَّهُما في سياقِ مواجهَة السُلطة لا يُمكن أن يكونا إلّا طُرقًا مُعبِّدة تسير عليهِا السُلطة، وتُمكّنها مِن النجاح في كُلّ مُخطّطاتها الرّامية إلى تمييعِ البُنية الشعبيّة. كما وأنّهما أسلوبان يُظهِران الزّيف الكثير في المُجتمع.
الخُلاصة: الفرقُ بينَ "الرأي العام" و المزاجيّة أو التضامُن" كبير، ولا يُمكِن أن يقبَل أن نكونَ نعيش في القرن الواحد والعشرين وهناكَ مَن لا يُجيد التّفريق بينهُما، وليسَ هذا إلّا بسبب أنَّ هُناكَ تدمير مُمنهَج للوعي بكُلّ أشكالِه (الثقافيّة، الفكريّة، السياسيّة، الاجتماعيّة)، وهذه هي مكامِن المُعضِلة الرئيسيّة التي نعيشها.
ولأنّهم يعلمونَ بأنَّ الفوضى المُنتَشرة في كُلّ مؤسسات الدّولة، لا تُرتَّب بسهولةٍ تامّة إلّا بالوعي ؛ فهم يُحاربون الوعي، ويبدعونَ في تهديمِ ما بقيَ منهُ.
لذا، تصدّوا لهُم، وادّفنوا مزاجيّتكم في مقابرِ اللاوجود، وكوّنوا الرأي العام الحقيقيّ المُتّزن، الذي يجعلهم يقومونَ بمسؤوليّاتهم على أتمّ وجه، والذي يضع حدودًا لكُلّ تجاوزاتهم.