ثمن التغير المناخي.. سوء إدارة ملف المياه يفاقم الخطر في الأردن
جو 24 :
العربي الجديد
خسر الفلاح الأردني علي بريزات محصول الخضروات التي زرعها في حقله بوادي الهيدان في محافظة مادبا العام الماضي، بسبب عطشها بعد انقطاع المياه نتيجة جفاف سد الوالة (جنوب مادبا) في سبتمبر/أيلول 2021.
"زرعتُ ولم أحصد، وذهب تعبي سدى"، يلخص بريزات ما جرى معه، موضحا أن آماله تبخرت بعدما انقطعت المياه في وقت اقترب فيه المحصول من النضج، كما طاول الضرر أشجار الحمضيات والجوافة والزيتون المزروعة منذ 10 أعوام، والتي تعرضت للعطش في شهري سبتمبر وأكتوبر/تشرين الأول المثاليين لتغذية الأشجار حتى تتحسن الإنتاجية.
ولم تكن مزرعة بريزات الوحيدة التي تضررت بسبب جفاف ماء السد، بحسب نتيجة حصر اللجنة المختصة بتوثيق الأضرار المشكلة من قبل وزارة الزراعة والتي وثقت تضرر 2670 دونما، و109 مزارعين، بالرغم من التحذيرات العديدة التي أطلقها مزارعو المنطقة على طول وادي الهيدان خلال أغسطس/آب وسبتمبر 2021، والذين يروون مزارعهم عبر آبار تُغذّى من السد، بسبب قلة المياه وأثرها على الموسم الزراعي، إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل.
"هذا المشهد جزء من الأزمة التي عاشتها البلاد خلال الفترة الممتدة بين سبتمبر ونوفمبر/تشرين الثاني الماضيين نتيجة جفاف 6 سدود مائية من أصل 17 سدّا، أهمها الوالة والموجب والتنور، بسبب تأخر الهطل المطري وارتفاع درجات الحرارة، ما شكل ضغطا مضاعفا لتأمين مياه الشرب والريّ"، وفق إفادة عدنان خدام، رئيس اتحاد مزارعي وادي الأردن.
يصنّف الأردن من بين 17 دولة تعاني من ضغوط مائية عالية للغاية، حتى أصبح العطش مهددا مقلقا، ويتسبب بخسائر اقتصادية كبيرة بسبب ندرة المياه المرتبطة بالتغير المناخي، ويقدِّر البنك الدولي الخسائر بنحو 6% إلى 14% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2050، بحسب ما جاء في كتاب "ولادة المرض احترار الكون وتفشي الأوبئة" الصادر عام 2021، للكاتب والصحافي المتخصص في قضايا التغير المناخي والمياه خالد سليمان.
كما أن الأردن يعد ثاني أفقر دول العالم من حيث توفر المصادر الصالحة للشرب، على حد توضيح الناطق باسم وزارة المياه والريّ عمر سلامة، مشيرا إلى أن التغيرات المناخية فاقمت هذا الفقر بتأثيرها على مصادر المياه الطبيعية، والتي تنقسم إلى المصادر المائية التقليدية وتشمل المياه السطحية كقناة الملك عبد الله ونهر اليرموك وينبوعي زارا وماعين، وآبار المياه الجوفية كالديسي، ومياه السدود.
وتشمل المصادر غير التقليدية، المياه الجوفية المالحة التي تتم معالجتها للاستفادة منها بالري ومياه الشرب، بالإضافة إلى معالجة مياه من محطات الصرف الصحي (المياه العادمة) وفق المواصفات الأردنية لمياه الري لاستخدامها في بعض الزراعات المقيدة (المزروعات التي لا تُستهلك طازجة مثل الأشجار الحرجية ونباتات الزينة والأعلاف).
وتبين دراسة تقييم مصادر المياه الجوفية في الأردن الصادرة عن "المعهد الفيدرالي الألماني لعلوم الأرض والمصادر الطبيعية بالتعاون مع وزارة المياه الأردنية عام 2019، الأثر المباشر للتغيرات المناخية على معدل تصريف الينابيع (خروج من مخزون المياه الجوفية على شكل ينابيع) في المملكة والذي تراجع إلى أقل من 50% منذ عام 1970 وحتى 2019، بينما أحواض المياه الجوفية، فقد بيّنت الدراسة انخفاض منسوب المياه فيها بمعدل 8 أمتار سنويا، ويُرجع سلامة ذلك إلى الضخ الجائر في الوقت الذي تراجعت فيه الهطولات المطرية نتيجة التغيرات المناخية، في حين تتزايد معدلات التبخر بسبب ارتفاع درجات الحرارة، إذ بلغت نسبة الهطول المطري في المملكة لشهر يناير/كانون الثاني من عام 2019 من معدل الهطول المطري طويل الأمد (المعدل التراكمي للأمطار التي هطلت على المملكة طول فصل الشتاء) والمحدد بـ 8.1 مليارات متر مكعب (50%)، وفي يناير 2020 كانت نسبة الهطول ذاتها، بينما تراجعت النسبة عام 2021 إلى 32%، وبلغت 35.4% في يناير عام 2022، بحسب بيانات الوزارة، ما أثر على مستوى المياه الجوفية، ومخزون السدود، وفي الوقت الذي لا تتوافر فيه مصادر بديلة، يزداد الضغط على استخدام المياه الجوفية كمصدر للشرب والزراعة التي تستهلك كميات كبيرة من المياه تصل إلى 60% من كمية المياه المتاحة في المملكة.
يقع الأردن في المنطقة الأكثر تأثراً في العالم بارتفاع درجات الحرارة، وتتميز بأنظمة بيئية هشة تتأثر بالتغيرات المناخية بشكل واضح ما يزيد من حالات الجفاف ويفاقم النقص في المياه، بحسب الدكتور مهيب عواودة، المحاضر في قسم علوم الأرض والبيئة بجامعة اليرموك، وتنعكس تبعات هذا الموقع على الدورة الهيدرولوجية للماء (التبخر والهطول ونشاط الكائنات الحية)، إذ يؤدي ارتفاع درجة الحرارة إلى زيادة معدلات التبخر من المسطحات المائية ومياه السدود.
وتلقي التغيرات المناخية بآثارها السلبية على العالم بأسره نتيجة تأثر طبقات الجو العليا بانبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون الناتج عن عمليات الاحتراق بأشكاله كافة، ما يؤدي إلى ارتفاع درجة حرارة الكوكب، ومن ثمّ ارتفاع في حجم الفاقد من كميات التساقط المطري إلى 90% (يتبخر من الأمطار المتساقطة)، وما تبقى من مياه الأمطار ترشح إلى التربة لتغذيتها، وما يزيد عن حاجة التربة يتغلغل لتغذية المياه الجوفية، والفائض عن قدرة التربة الاستيعابية يتحول على شكل جريان سطحي مثل السيول وجزء منه يذهب إلى الأودية والتجمعات المائية السطحية، وإذا وقع على المساقط المائية للسدود يساهم برفدها، لكن هذه الكميات أصبحت تقل بمرور الزمن وبشكل واضح خلال السنوات الأخيرة في ظل زيادة الفاقد من التبخر، بحسب الدكتور محمد الفرجات، أستاذ علم جيولوجيا المياه وجيوفيزياء البيئة في جامعة الحسين بن طلال، والذي يوضح أن هذه التغيرات نتجت عنها زيادة ظاهرة الجفاف في الأردن، وشح وتأخر الأمطار وزيادة المساحات الصحراوية وتدني جودة التربة وإنتاجيتها وتراجع كبير في التغذية الجوفية وانحسار الغطاء الأخضر، وتأثر بعض أنواع التنوع الحيوي الطبيعي النباتي والحيواني ما أسفر عن آثار اقتصادية وبيئية واجتماعية سلبية.
يعتمد الأردن بشكل كلي تقريبا على المياه الجوفية للأغراض كافة، وبالتالي فإن انخفاض منسوبها وزيادة ملوحتها بسبب قلة التغذية وزيادة استنزافها بالضخ الجائر يشكل تهديدا لمصادر الشرب وتباطؤ التنمية، وفق ما يؤكده المختص الجيولوجي الفرجات، والذي يقول إن الزراعة المعتمدة على مياه السدود تتضرر بانقطاع مياه السدّ التي ترويها أو تذبذبها، ما يعد تهديدا للأمن الغذائي الوطني، كما تتعرض المحاصيل الزراعية للخطر بسبب نوعية مياه السدود التي تزداد نسبة الملوحة فيها عندما ينخفض منسوبها.
وسجّل الأردن عجزا في مياه الشرب خلال العام الماضي، بحوالي 50 مليون متر مكعب، فيما تحتاج البلاد سنويا إلى ما يتراوح بين 1.2 و1.3 مليار متر مكعب للاستخدامات كافة، بينما كان المتاح 900 مليون متر مكعب وفق عمر سلامة.
ويقدّر العجز في الاستخدام سنويا بما يتراوح بين 400 و500 مليون متر مكعب من الكميات المطلوبة للزراعة والتجارة والسياحة وغير ذلك وفق سلامة، وبسبب هذا العجز يُزود المواطنون بالمياه مرة واحدة أسبوعيا، وبعض المناطق تصل المياه إلى منازلها كل 20 يوماً.
وتبلغ حصة الفرد من المياه 80 متراً مكعبا، وهي أقل من خط الفقر العالمي المائي الذي يقدر حصة الفرد بـ 500 متر مكعب، وانعكس التقشف المائي الذي يفرضه شح المياه على حياة الناس، إذ تقول رغدة الفقير القاطنة في محافظة الزرقاء شرق عمان: "نستدعي صهاريج المياه لتعبئة خزانات المنزل أسبوعيا، ما ولّد عبئا إضافيا على كاهل أسرتنا، إذ يكلفنا هذا الأمر 150 دينارا شهريا، ونلجأ للصهاريج بسبب ضعف المياه الواصلة إلى الحيّ الذي نقطنه".
سوء إدارة يفاقم الضرر
يكشف مسؤول سابق في قطاع المياه طلب التحفظ على اسمه (بسبب تعرضه لضغوط لثنيه عن التحدث بالأمر) أن جفاف ثلاثة من السدود الرئيسية نهاية العام الماضي ونفوق ملايين الأسماك الموجودة فيها، بالإضافة إلى تضرر المزارع التي تُروى بمياهها، سببه إهمال وسوء إدارة متكرر، إذ جرى فتح مياه سدي الوالة والموجب، وإفراغ ما يقارب 4 ملايين متر مكعب (الإفراغ عملية فنية تجري عبر فتح بوابات السدود للتخلص من المياه القديمة وتصريفها لتخزين مياه الأمطار في الموسم الجديد، وتُجرى عادة لدى بدء الموسم المطري) قبل بدء الموسم المطري الذي تأخر عن المعتاد، وهذا أحد وجوه سوء الإدارة لموارد مائية رئيسية.
وفوق شح المياه يعاني الأردن من فاقد كبير نتيجة تسرب المياه من الشبكات القديمة والمهترئة، والتي تصل في العقبة إلى 37%، أما في العاصمة والزرقاء ومادبا فوصلت نسبة الفاقد إلى 46%، بسبب وضع شبكات المياه بحسب الناطق باسم وزارة المياه والريّ، والذي أشار إلى أن الوزارة حاليا تعكف على تحسين تلك الشبكات للحد من الفاقد، وعن إجراءات الوزارة لتفادي تداعيات التغيرات المناخية، يبين سلامة أنها بدأت العمل على مشروع الناقل الوطني لتأمين مصادر مياه بديلة مثل تحلية مياه البحر الأحمر، من أجل زيادة كميات المياه والتحول إلى الضخ المستمر خلال 5 سنوات، بالإضافة إلى وضع الخطة الاستراتيجية للتكيف مع المناخ حتى عام 2025، كما جرى البدء بمشروع الديسة للتحلية، لتعويض الاستهلاك المستمر، لكن نقص التمويل يقف حائلا أمام الاستمرار في تنفيذ الخطة، قائلا: "تسعى الوزارة منذ سنوات لتنفيذ مشاريع استراتيجية لمواجهة نقص المياه، لكن نقص الأموال المخصصة يوقفها".
ينتقد البروفيسور إلياس سلامة المتخصص في إدارة مصادر المياه، والأستاذ سابقا في الجامعة الأردنية (حكومية)، غياب استراتيجية واضحة لمواجهة التغير المناخي وشح المياه الذي تنبهت له الجهات المعنية في وقت مبكر ووضعت حلولا، لكنها ليست مستدامة، مثل زيادة ضخ المياه الجوفية، وكانت النتيجة انخفاض منسوبها وازدياد خطر تملحها، مشيرا إلى عدم وجود استراتيجية متكاملة تعدها الجهات المعنية مجتمعة من وزارات البيئة والمياه والري والزراعة، بالإضافة إلى ضرورة وجود علماء وخبراء ومختصين، وتخصيص موازنة كافية للدراسات والبحوث العلمية.
ويتطابق هذا مع ما يوثقه التحقيق من وضع كل وزارة خططاً منفصلة، كما يتبين من رد وزارة المياه والري ورد الناطق الإعلامي باسم وزارة البيئة أحمد عبيدات، الذي يوضح لـ"العربي الجديد" أنه تم الانتهاء من تحديث وثيقة "السياسة الوطنية للتغير المناخي" والتي سيتم تقديمها لمجلس الوزراء للمصادقة عليها ليصار بعد ذلك للبدء بتنفيذ توصياتها حيث ستغطي هذه السياسة إطارا زمنيا يمتد من عام 2022 وحتى عام 2050. وأهم ما فيها الوصول في العقدين القادمين إلى اقتصاد خال من الكربون بين عامي 2050 و2070 مع العمل على زيادة مقاومة ومنعة كافة القطاعات للتأثرات المناخية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة على المستوى الوطني، وإجراءات التكيف مع التغيرات المناخية، وإجراءات تخفيف الانبعاث، والاستثمار بالنمو الأخضر، وتعزيز دور الإعلام والتعليم البيئي والتوعية والبحث العلمي.
ويستدرك البروفيسور إلياس سلامة، بالقول "لو التزمت وزارة المياه والري بالاستراتيجية التي وضعتها اللجنة الملكية للمياه (شكلت لوضع البرامج والاستراتيجيات) عام 2009 لما وصلت البلاد إلى هذه المرحلة، لأنها تشمل بدء مشروع تحلية مياه البحر في عام 2022، إلا أن كل وزير اجتهد بشكل مختلف ولم يلتزم بالاستراتيجية التي قامت بها اللجنة، والتي ضمت 3 وزراء (المياه والري، والبيئة، والزراعة) وخبراء.
ويرد الناطق باسم وزارة المياه والري، عمر سلامة، على ذلك بقوله إن الحكومات المتعاقبة عينت وزراء غير مختصين بقطاع المياه ما فاقم المشكلة، إذ عينت وزيرا بتخصص اقتصاد وآخر مهندس مدني، ثم جرى تغييرهم، وهذا يعمل على قطع ما بدأ به الوزير الذي سبقه إذ لا يوجد خطة طويلة الأمد ولا يكمل الوزير الجديد ما بدأ الوزير السابق به.
ويتفق رئيس جمعية مربي الأسماك والأحياء البحرية، محمد شاهين، مع ما جاء به إلياس سلامة بأنه لا توجد خطوات وقائية بشكل منهجي، وإنما تتخذ وزارة المياه سلسلة من ردات الأفعال، ويذكر مثالا على ذلك بقوله لقد دفعت الحكومة مليون دينار تعويضات للمزارعين المتضررين من جفاف سد الوالة، ولو كان هناك استراتيجية متبعة لما حدثت المشكلة، وجرى استثمار هذا المبلغ لدعم المزارعين من أجل التوجه إلى الزراعة الذكية كان أفضل، فالعلاج مفعوله مؤقت وغير مستدام.