تشارلز.. ملك أمام التناقضات يعتلي عرش بريطانيا
جو 24 :
بعد وفاة والدته الملكة إليزابيث أصبح الأمير تشارلز أخيرا ملكا لبريطانيا و14 بلدا آخر، لينتهي انتظاره لأكثر من 70 عاما لاعتلاء العرش، وهو الأطول لولي عهد في التاريخ البريطاني.
ويواجه تشارلز مهمة شاقة، فوالدته الراحلة كانت تحظى بشعبية جارفة واحترام كبير، لكنها تركت عائلة ملكية تمزقها الفضائح والخلافات الأسرية، بجانب المزاعم المتكررة عن عنصرية مسؤولي قصر بكنجهام.
ويواجه تشارلز تلك التحديات وهو في سن الثالثة والسبعين، حيث أنه أكبر ملك يتولى العرش في عائلة ملكية يعود حكمها إلى ألف عام، وبجانبه زوجته الثانية كاميلا، التي لا يزال الرأي العام منقسما بشأنها.
وبالنسبة للمعارضين، فإن الملك الجديد ضعيف ويحب التدخل في السياسة وغير مؤهل لهذا المنصب.
وسبق أن تعرض تشارلز للسخرية بسبب حديثه إلى النباتات وهوسه بالهندسة المعمارية والبيئة، وستظل سيرته مقترنة دائما بزواجه الأول والفاشل من الأميرة الراحلة ديانا.
غير أن مؤيديه يقولون إن ذلك تشويه للعمل الجيد الذي يقوم به، وإنه يُساء فهمه دائما كما أنه كان سابقا لعصره في مجالات مثل تغير المناخ.
كما يدافع عنه البعض بالقول إنه شخص رصين ودائما ما يهتم برفاه البريطانيين من جميع الطبقات والمجتمعات. كما ساعدت مؤسسته الخيرية أكثر من مليون شاب فقير وعاطل عن العمل منذ إطلاقها قبل ما يقرب من 50 عاما.
وقال تشارلز ذات مرة في فيلم وثائقي تلفزيوني "المشكلة هي أنك محصور دائما في موقف الخاسر. حتى لو لم تفعل شيئا على الإطلاق... فسوف يشتكون من ذلك. إذا حاولت وتعثرت خلال محاولتك فعل شيء للمساعدة، فسوف يشتكون أيضا".
وطوال حياته، كان تشارلز محاصرا في نظام ملكي يسعى لتحديث نفسه ويحاول التكيف في مجتمع سريع التغير وقائم على المساواة مع الحفاظ على التقاليد التي تمنح المؤسسة الهالة المحيطة بها.
ويمكن بسهولة رؤية هذا التوتر من خلال حياة ابنيه.
فالأكبر وليام (40 عاما)، والذي أصبح الآن ولي العهد، يعيش حياة مقيدة بالواجبات التقليدية ويخصص كثيرا من وقته للأعمال الخيرية والظهور بالمراسم العسكرية.
أما الابن الأصغر هاري (37 عاما) فيقيم خارج لوس أنجليس مع زوجته الممثلة الأميركية السابقة ميجان وطفليه، مُتخذا نمطا جديدا لحياته يتناسب مع هوليوود أكثر من قصر بكنجهام.
وكان الأخوان مقربين جدا من بعضهما البعض، لكنهما نادرا ما يتحدثان الآن.
وُلد تشارلز فيليب آرثر جورج في قصر بكنجهام في 14 نوفمبر عام 1948، في العام الثاني عشر من حكم جده الملك جورج السادس، ومنذ ذلك اليوم، يجري إعداده ليصبح ملكا في يوم من الأيام.
كان في الثالثة من العمر فقط عندما أصبح وليا للعهد بعد أن تولت والدته العرش عام 1952، لكن تنشئة تشارلز كانت مختلفة عن تلك التي خضع لها في الماضي ملوك بريطانيا.
على عكس أسلافه الذين تلقوا تعليمهم على أيدي مدرسين خاصين، ذهب تشارلز إلى مدرسة هيل هاوس في غرب لندن قبل أن يصبح طالبا في مدرسة تشيم في بيركشاير والتي درس فيها والده الأمير فيليب.
أُرسل إلى جوردونستون وهي مدرسة داخلية صارمة في اسكتلندا حيث درس فيليب أيضا. ووصف تشارلز فترته هناك بأنها كانت كالجحيم، كان عانى من الوحدة والتنمر. ونُقل عنه قوله عن هذه الفترة إنها كانت "حكما بالسجن".
خالف تشارلز التقاليد مرة أخرى عندما ذهب إلى كلية ترينيتي في كمبردج لدراسة علم الآثار والأنثروبولوجيا لكنه تحول لاحقا إلى التاريخ.
خلال دراسته جرى تنصيبه رسميا أميرا لويلز، وهو اللقب الذي يحمله تقليديا وريث العرش، في حفل كبير في عام 1969 بعد أن أمضى تسعة أسابيع في إحدى جامعات ويلز حيث قال إنه واجه احتجاجات شبه يومية من القوميين هناك.
في العام التالي أصبح أول ولي عهد بريطاني يحصل على شهادة جامعية.
مثل العديد من أفراد العائلة المالكة قبله، انضم إلى القوات المسلحة، في البداية إلى سلاح الجو الملكي في عام 1971 ثم البحرية، وترقى في الرتب حتى أصبح قائد كاسحة الألغام إتش.إم.إس بروننجتون قبل أن ينهي الخدمة الفعلية عام 1976.
في فترة شبابه، رسم حول شخصيته صورة الأمير الرياضي الذي يحب التزلج وركوب الأمواج والغوص. كما كان شغوفا بلعب البولو وامتطى الخيل في العديد من السباقات التنافسية.
في عام 1979، قُتل عمه الأكبر اللورد مونتباتن، في تفجير نفذه الجيش الجمهوري الأيرلندي، وهي خسارة أثرت عليه بشدة. وقال في وقت لاحق "بدا كما لو أن أساس كل ما نعتز به في الحياة قد انهار بشكل لا يمكن إصلاحه".
عندما ترك البحرية في عام 1976، بحث عن دور في الحياة العامة في وقت لم تكن هناك فيه وظيفة دستورية واضحة لوريث العرش، حيث قال إنه تعين عليه "استحداثها مع الوقت".
قال عن دوره، متحدث في فيلم وثائقي بمناسبة عيد ميلاده السبعين "هذا ما يجعل الأمر ممتعا للغاية ومليئا بالتحديات وبالطبع معقدا".
شبح ديانا
ومع ذلك، فبالنسبة للكثيرين في بريطانيا وخارجها، سيظل اسم تشارلز مقترنا دائما بزواجه المشؤوم من ديانا سبنسر وعلاقته مع كاميلا باركر بولز، حب حياته.
وعندما تزوج هو وديانا في عام 1981 في حفل تابعه على شاشات التلفزيون نحو 750 مليون شخص حول العالم، بدت عروسه الخيار الأمثل.
وبدا كل شيء على ما يرام في البداية، ورزقا بابنين، وليام وهاري، في عامي 1982 و1984. لكن وراء الكواليس، واجه الزواج مشاكل عديدة، وألقت ديانا باللوم على كاميلا في انهياره بالكامل في عام 1992، قائلة في مقابلة تلفزيونية "كان هناك ثلاثة أشخاص في هذا الزواج".
وقال تشارلز إنه ظل مخلصا لديانا "حتى انهار (الزواج) بشكل لا رجعة فيه". وانتهى الأمر بالطلاق في عام 1996.
وعندما قُتلت ديانا في حادث سيارة في باريس عام 1997، كانت هناك انتقادات لاذعة في الصحافة ضده وضد كاميلا، وتراجعت شعبيته.
وفي العقود التي تلت ذلك، تحسنت صورته شيئا فشيئا، وإن ظل أقل شعبية من والدته. وفي عام 2005، تزوج أخيرا من كاميلا التي اكتسبت قبولا أكبر لدى دخولها دائرة الضوء ولاقت إشادات واسعة لأسلوبها السهل والبسيط.
ومع ذلك، لا يزال شبح ديانا يطارد تشارلز مع استمرار اهتمام الناس بتفاصيل حياتها. وفي السنوات الأخيرة، كانت حياة الأميرة الراحلة موضوع فيلم كبير ومسرحية موسيقية في برودواي، كما ركز مسلسل "ذا كراون" (التاج) الشهير من إنتاج نتفليكس على تطور علاقة الزوجين.
ازدراء وسائل الإعلام
مع تركيز الصحف على علاقاته، لم يكن من المستغرب أن يسود التوتر تعامله مع وسائل الإعلام كما لم يحاول إخفاء ازدرائه للمصورين الذين يلاحقون المشاهير.
وقال في عام 1994 "أنا لا أجيد لعب دور القرد الراقص حقا. أعتقد أنني شخص يهتم بخصوصيته".
وخلال جلسة تصوير في أثناء عطلة تزلج عام 2005، سمع صوته وهو يصف وسائل الإعلام بالأشخاص "الملطخين بالدماء" ويقول عن مراسل الشؤون الملكية في شبكة (بي.بي.سي) "لا يمكنني تحمل هذا الرجل. إنه فظيع للغاية".
وبينما اهتمت وسائل الإعلام بالتركيز على حياته الخاصة، أراد تشارلز الحديث عن القضايا الاجتماعية والروحية، ولم يخجل أبدا من الإفصاح عن آرائه حول الأمور التي تهمه.
ولكن بسبب أعمال مثل تأسيس علامة (داتشي أوريجينالز) التجارية للترويج للأغذية العضوية وقوله إنه يتحدث إلى نباتاته ويصافح الأشجار عندما يزرعها، وصفته بعض وسائل الإعلام بأنه شخص غريب الأطوار يصلح أن يكون مزارعا وليس أميرا.
كما تعرض لانتقادات بسبب وجهات نظره الصريحة حول الهندسة المعمارية، حيث وصف ذات مرة الملحق الحداثي الطراز للمعرض الوطني بلندن بأنه يشبه "البثرة"، واتهم بالترويج للدجل بسبب دفاعه عن الأدوية البديلة.
وقال كاتب السير الذاتية توم باور إن الأمير اهتم بقضايا مثل البيئة، لكنه كان عنيدا ولا يتقبل الانتقادات.
وأضاف "هو شخص تحركه دوافعه، ويريد بلا شك أن يفعل الخير لكنه لا يفهم أن عواقب الكثير من أفعاله تسبب الكثير من المتاعب".
لكن حدة الانتقادات خفت في السنوات الأخيرة حيث قامت الصحف بدلا من ذلك بتوجيه سهامها صوب ابنه هاري، لكنها لم تختف تماما.
وذكرت وسائل إعلام في يونيو أنه دخل في خلاف مع الحكومة بشأن سياستها الخاصة بإرسال طالبي اللجوء إلى رواندا، وهو أمر قيل إن الأمير وصفه "بالمروع"، مما أدى إلى انتقادات من وزراء وصحف.
وقالت صحيفة ديلي ميل في افتتاحيتها "إذا لم يكن حذرا للغاية، فإن أولئك الذين يختلفون مع تدخلاته السياسية الاستفزازية قد يخلصون أيضا إلى أن الملكية الدستورية في بريطانيا لم تعد تستحق الإبقاء عليها".
يقول المؤيدون إن مواقف الملك الجديد تظهر أنه رجل جاد ويهتم حقيقة بشعبه.
وبالنسبة للبعض فإنه يواجه مهمة مستحيلة، بين اتهامه بالتدخل السياسي إذا أدلى بدلوه في القضايا الاجتماعية أو المجازفة بوصفه أميرا مدللا لا يكترث بالآخرين.
وقال في مقابلة تلفزيونية في عام 2021 حول تغير المناخ "لماذا تعتقدون أنني فعلت كل هذا طوال تلك السنوات؟ لأنني كنت أهتم بالجيل القادم وسأظل اهتم به دائما".
وفي سبعينيات القرن الماضي، في فترة تدهور للاقتصاد البريطاني، تبرع بمكافأة نهاية الخدمة في البحرية البالغة 7400 جنيه إسترليني لتمويل مبادرات مجتمعية. وفي وقت لاحق، ومع انتشار أعمال الشغب والبطالة في العديد من المدن، بدأت جمعيته الخيرية في مساعدة الشباب المحرومين على بدء أعمالهم التجارية الخاصة.
وقال "كنت سأبدو أحمقا أعمى إذا لم أكن قد أوليت بعض الاهتمام لهذه الأمور. أتذكر أنني قلت لنفسي إنني متأكد من أن هناك شيئا يمكنني القيام به للمساعدة".
ومن بين أهم القضايا التي يهتم بها، وهي البيئة، يمكن لتشارلز الآن أن يشعر بالإنجاز بعدما استجاب قادة العالم لمطالبه بشأن ضرورة التصدي لأزمة تغير المناخ.
وفي مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (كوب-26) الذي عُقد في بريطانيا عام 2021، أشاد الرئيس الأميركي جو بايدن بقيادة تشارلز.
وقال وليام ابن تشارلز "لقد واجه صعوبات في ذلك، وأعتقد أنه أثبت أنه كان متقدما على الجميع".
مصدر السعادة
بعيدا عن واجباته الملكية أو أنشطته الاجتماعية، ينعم تشارلز بأسعد لحظاته في حديقة منزله في هايجروف في غرب إنجلترا، أو، مثل والدته الراحلة، عندما يتمشى ويصطاد السمك في المناطق الملحقة بضيعات العائلة المالكة في اسكتلندا، حيث يرسم أيضا بالألوان المائية.
كما أنه شغوف بالفنون، وخاصة أعمال شكسبير والأوبرا وليونارد كوهين.
وقال مساعدوه إنه يتمتع "بحس دعابة لاذع" ولكنه أيضا سريع الغضب وكثير المطالب. ويرفضون الاتهامات بأنه يصر على مظاهر الرفاهية، رغم أنهم يقولون إنه يعتقد أنه يجب أن يظهر طابع الفخامة عندما يتطلب الأمر ذلك.
ويقول بعض المقربين منه إنه لطيف ويعمل بجد، ويتحدث أصدقاؤه وكذلك خصومه عن تفانيه في أداء واجبه.
وقال وليام في فيلم وثائقي بمناسبة عيد ميلاد والده السبعين "إنه لا يتوقف أبدا عن العمل. أعني عندما كنا أطفالا، كان هناك الكثير والكثير من ملفات العمل التي يرسلها المكتب إليه. بالكاد كان يمكننا حتى الوصول إلى مكتبه لنقول له ‘ليلة سعيدة‘"
وقالت زوجته كاميلا إنه على الرغم من انتظاره الطويل لبلوغ العرش، لم يكن تشارلز يفكر كثيرا في هذا الأمر.
وردا على سؤال عما إذا كان يتحدث عن الجلوس على العرش، قالت "ليس كثيرا... لا. إنه مجرد شيء سيحدث".
وعبر تشارلز بنفسه عن هذه المشاعر.
فقد قال في عام 2010 "للأسف، يحدث ذلك نتيجة وفاة والدتك أو والدك، وهو أمر ليس من اللطيف التحدث عنه على الأقل، لذلك من الأفضل عدم التفكير كثيرا في الأمر".