من الأرز إلى البطاطس.. هذه الأطباق ستختفي من مائدتك قريبا بسبب التغير المناخي
جو 24 :
على مدار سنوات طويلة، استقرت بعض الأطباق في بلدان العالم باعتبارها جزءا من هوية كل بلد، وأحد عناصر الثقافة الراسخة فيه. في المقابل، هناك بعض هذه الأطباق والأنواع لم يعرفها أجدادنا السابقون جدا، مثل التوابل التي كانت باهظة الثمن يوما ما، والبطاطس التي عرفها العالم في القرن السادس عشر، لكنها صارت صنفا رئيسيا على موائدنا، يحبها الجميع ويقدمونها في وصفات مختلفة، اليوم يعرف العالم أيضا قهوة كولومبيا وخوخ جورجيا، لكن التغير المناخي يهدد باختفاء كثير من هذه العناصر التي نحبها إلى الأبد.
لعل التأثير لم يتسبب في اختفاء البضائع على رفوف المتاجر وفي أسواق الخضروات بعد، لكننا نلمس تغييرا في جودتها بين الحين والآخر، كما يتزايد الجهد المبذول لكي تصل إلينا، إذ يسعى مئات الآلاف من المزارعين لمواكبة تغير المناخ، وعلى ما يبدو فإن التهديد يتطور بأسرع مما نتصور، بحيث باتت بعض الأصناف نادرة ومهددة تماما بالاختفاء من موائدنا، وقد لا يعرف أحفادنا ما هي من الأساس. إن أشهر الأطعمة بالفعل لن يكون متاحا للجميع بعد عقود قليلة من الآن (1).
عندما ترتفع درجات الحرارة يحتفظ الهواء الدافئ بمزيد من الرطوبة، ويزيد احتمال هطول الأمطار بكثافة؛ ما يُلحق أضرارا مباشرة بالمحاصيل، ويؤدي إلى انخفاض الإنتاج، يُتوقع أيضا أن تزداد الفيضانات جراء تزايد حدة العواصف الاستوائية وارتفاع مستوى سطح البحر المصاحب لتغير المناخ؛ ما يهدد بغرق المحاصيل، وبأن تنقل مياه الفيضان معها أيضا مياه الصرف الصحي أو السماد الطبيعي أو الملوثات، لتجد المزيد من الأمراض والسموم طريقها إلى طعامنا. كما يهدد التغير المناخي بجفاف طبقات المياه الجوفية التي يعتمد عليها ريّ نحو 10% من المحاصيل في مناطق الإنتاج الغذائي الرئيسية في العالم أسرع، ويجلب الجفاف بشكل عام تهديدا آخر للتربة، و هو الملوحة (2).
يتسبب ارتفاع درجات الحرارة أيضا في صعوبة شديدة في إنتاج الحبوب الأساسية في جميع أنحاء العالم، بحيث سينخفض إنتاجها، وقد يصل التأثير إلى أن تكون الحبوب الأساسية أقل في قيمتها الغذائية، وربما يمتد الخطر إلى القضاء على المحاصيل تماما في حالات الجفاف الشديد، وبالطبع فإن هذه الندرة سوف تتبدى أكثر في طعام أفقر سكان العالم، بينما ستشهد الدول المتقدمة ارتفاعا في الأسعار، خاصة أن خطرا مشابها يلوح أمام البدائل المتاحة الأخرى، إذ يؤثر تغير المناخ أيضا على إنتاج اللحوم ومصايد الأسماك التي تعتبر جوانب أساسية أخرى لإمداداتنا الغذائية (3).
أطباقنا الرئيسية في خطر
الشعير
الشعير من الحبوب الرئيسية الأكثر استهلاكا في العالم (مواقع التواصل)
وفقا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، يوفر الأرز والذرة والقمح 60٪ من الطاقة الغذائية المُستهلكة في العالم، وقد تأثرت هذه المحاصيل في السنوات الأخيرة بالتغيرات المناخية (4). ذكرت دراسة نشرتها مجلة "بلوس وان" (PLOS ONE) عام 2019 أن تغير المناخ قد أثر بالفعل على إنتاج أفضل 10 محاصيل في العالم في مناطق معينة، بينها بعض الحبوب الرئيسية والأكثر استهلاكا في العالم مثل الذرة والقمح والشعير والأرز.
أما المحاصيل الأخرى التي ذكرتها الدراسة فهي نخيل الزيت وبذور اللفت والذرة الرفيعة وفول الصويا وقصب السكر والكسافا (وهو أحد المصادر الرئيسية للكربوهيدرات في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية)، وهذه المحاصيل توفر مجتمعة 83% من جميع السعرات الحرارية المنتجة من الغذاء المزروع.
وجدت الدراسة تأثيرات متنوعة لتغير المناخ على المحاصيل في مناطق العالم المختلفة، في دول أوروبا وجنوب إفريقيا وأستراليا كان التأثير سلبيا، بينما كانت التأثيرات إيجابية في دول أميركا اللاتينية، وكانت التأثيرات في آسيا وأميركا الشمالية والوسطى متفاوتة، لكن المشكلة أن نصف الدول التي لم تكن تتمتع بالأمن الغذائي من الأساس هي من عانت من انخفاض إنتاج الغذاء (5).
الأرز
يزدهر محصول الأرز في الأراضي الرطبة، ويتمثل الخطر الذي يواجهه في الجفاف وفي زيادة هطول الأمطار غير المتوقعة أيضا (مواقع التواصل)
لنأخذ الأرز على سبيل المثال، والذي يدخل في تكوين العديد من الأطباق الشعبية حول العالم، بحيث يمثل عنصرا رئيسيا للغذاء لأكثر من 3.5 مليار شخص، ومصدرا لنحو 20% أو أكثر من السعرات الحرارية. وعلى الرغم من أن تاريخ الأرز ينتمي إلى آسيا، فإن استهلاكه الأكبر كان في إفريقيا، لكن تسارع تغير المناخ يدق ناقوس الخطر بشأن تزايد تهديدات محصول الأرز، مثل التلوث بالزرنيخ والأمراض البكتيرية.
يزدهر محصول الأرز في الأراضي الرطبة، ويتمثل الخطر الذي يواجهه في الجفاف وفي زيادة هطول الأمطار غير المتوقعة أيضا. يتم إنتاج 90% من الأرز في العالم في آسيا وفي بلدان مثل الصين -التي تعتبر أكبر منتج للأرز في العالم- والهند وبنغلادش وإندونيسيا وفيتنام. في بنغلاديش -على سبيل المثال- تتسبب الفيضانات الساحلية في زيادة ملوحة الأرض؛ ما يجعل زراعة الأرز مستحيلة في مساحات كبيرة، ويُتوقع أن تنخفض قابلية الأرض لزراعة محاصيل الأرز لأكثر من 50٪ خلال القرن المقبل في آسيا كلها، كما يمتد الخطر إلى القارة الإفريقية، حيث نيجيريا التي تعتبر من أكبر البلدان التي تزرع الأرز.
تشهد كاليفورنيا التي تعتبر ثاني أكبر منتج للأرز في الولايات المتحدة (ولذلك فهي نموذج بحثي ممتاز) أزمة بسبب الجفاف في وادي ساكرامنتو، أجبرت المزارعين على ترك مساحات من الأراضي القاحلة. على النقيض قبل نحو 5 أعوام، أوقفت كثرة الأمطار زراعة مساحات كبيرة هناك، وتحدث المزارعون عن مساحات من الأرض غير مزروعة بسبب الفيضانات، إذ لم تتمكن الجرارات من التحرك عبر التربة الموحلة لإعداد الحقول للغرس(6).
في أماكن مختلفة من العالم يجري اختبار خيارات أخرى لمساعدة الأرز على النجاة من هذه الظروف المعادية المتزايدة، ويعد تشجيع التناوب مع المحاصيل الأخرى هو أحد الحلول التي جرى تطبيقها في تايلاند، حيث يتم تناوب زراعة الأرز مع محاصيل أخرى، مثل قنب السونة، لكنه يعني أيضا أن ينخفض الإنتاج. وتستمر جهود الباحثين في محاولات عزل السلالات التي تتحمل الجفاف والفيضانات ويمكنها التكيف مع أنماط الطقس المتغيرة، لكن ما يفاقم المشكلة أن أغلب الإنتاج العالمي من الأرز يعتمد على صغار المزارعين الذين لا يمتلكون الموارد اللازمة لمواجهة التغيير(7).
الذرة والبطاطس المقلية
الذرة والبطاطس المقلية
لا يزال بقاء زراعة البطاطس متوقفا على أن تحقق درنات البطاطس نجاحا في الصمود أمام التغير المناخي (مواقع التواصل)
في المستقبل القريب، قد لا يصبح بوسعك الحصول على كيس من الفشار الساخن بسهولة، حيث يبدو محصول الذرة ُمهددا بالانخفاض بنسبة 10% في أكبر 4 دول مُصدّرة له في العالم وهي الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين وأوكرانيا حال ارتفعت متوسطات درجة الحرارة بمقدار درجتين مئويتين. ترتفع احتمالات الانخفاض المتوقعة في الإنتاج إلى مستويات كارثية تصل إلى 86% إذا ما ارتفعت درجات الحرارة بمقدار 4 درجات مئوية، وهذا رقم ممكن بحلول نهاية القرن.
بشكل عام، يُتوقع بحلول عام 2100 أن ينخفض إنتاج الولايات المتحدة من الذرة إلى النصف إذا ما استمر ارتفاع درجات الحرارة (8). لكن الأمور لن تقف عن هذا الحد، فربما سيكون على مواطني بعض الدول تخيل حياتهم دون أصابع البطاطس المقلية اللذيذة، وأطباق البطاطس الموجودة في كل دول العالم تقريبا.
تحتل الصين والهند وروسيا وأوكرانيا اليوم صدارة الدول المنتجة للبطاطس، لكن الثمرة التي لم تنتقل من جبال الأنديز -حيث موطنها الأصلي- إلى أنحاء العالم المختلفة إلا في القرن السادس عشر، باتت مهددة بشكل غير مسبوق، فالانبعاثات المتزايدة تهدد بانخفاض غلة درنات البطاطس بنحو 26% بحلول عام 2085، كما تهدد باستحالة زراعتها في بعض المناطق، مثل البيرو، موطنها الأصلي، ومحل زراعة الأنواع المتنوعة منها(9).
خلال القرون السابقة وفي رحلتها الطويلة إلى مناطق العالم المختلفة، شهدت زراعة البطاطس عمليات تلقيح طبيعي في محاولات لاستنبات أنواع جديدة منها لديها القدرة على مقاومة الأمراض، وتجري اليوم محاولات تحسين قدرتها على الصمود في مواجهة التغيير المناخي، وهي محاولات ستحدد مصير أطباق البطاطس اللذيذة في مختلف أنحاء العالم (10).
والشوكولاتة أيضا
الشكولاتة
يمكن لتغير المناخ أن يقضي تماما على نبات الكاكاو بحلول عام 2050 (مواقع التواصل)
فنجان القهوة الذي يعشقه الكثيرون مهدد بأن يختفي تماما أيضا، ويتحول إلى رفاهية كل الناس. وبالنسبة إلى هؤلاء الذين يستطيعون تحمل التكاليف، فإن بعض الأطعمة مثل البن أو الكاكاو ستكلفهم أكثر في المستقبل، لكن أولئك الأكثر فقرا سيواجهون اختفاء تلك الأطعمة من وجباتهم الغذائية تماما، حيث ستصبح أمور مثل كوب من الشوكولاتة الساخنة في ليلة باردة، أو كعكة تغرق في الشوكولاتة ليتناولها أطفال الأسرة في أحد الاحتفالات، نوعا من الترف الذي لن يحظى به الجميع.
يمكن لتغير المناخ أن يقضي تماما على نبات الكاكاو بحلول عام 2050، الذي نحصل على نحو 50% منه من دولتَي غانا وساحل العاج، إذ تتزايد صعوبة زراعة الكاكاو وإنتاجه في ظل ارتفاع درجات الحرارة وتأرجح هطول الأمطار والرطوبة في المناطق الاستوائية التي تعتبر المناخ المثالي لزراعة النبات الذي نعشقه.
منذ سنوات، أدركت شركة "MARS" (مارس)، إحدى الشركات العملاقة المنتجة لألواح الشوكولاتة، خطر تغير المناخ على زراعة الكاكاو، لتشارك مع باحثين من جامعة كاليفورنيا في محاولات تطوير تكنولوجيا لمساعدة النبات على البقاء، وهو الأمر الذي يستغرق وقتا، وحتى ذلك الحين فلا يزال الخطر يتهدد الحلوى التي يعشقها الملايين حول العالم.
الموز أيضا الذي زاد إنتاجه في العقود الأخيرة مع ارتفاع درجات الحرارة مهدد بالتأثر بشدة باستمرار هذه الزيادة، بحيث يمكن أن نفقد القدرة على زراعته في 10 دول بحلول عام 2050، في أميركا الجنوبية، وفي آسيا أيضا، حيث يُتوقع أن تعاني الهند -وهي أكبر منتج ومستهلك للموز في العالم- من مشكلات في زراعته، إلى جانب الفلبين التي ستشهد انخفاضا كبيرا في غلة الموز في العقود القادمة(11).
البحث عن أطباق أخرى
زراعة القمح
يحاول العلماء زراعة أنواع برية من 28 محصولا، ويضعون أولوية لمحاصيل مثل القمح والأرز والبطاطا الحلوة والموز والتفاح (شترستوك)
هذه الاضطرابات غير المسبوقة التي تشهدها الحقول بين الجفاف وزيادة الأمطار، وصعوبة التنبؤ بدورات الصقيع والحرارة والأمطار؛ أدت إلى إطالة مواسم النمو في بعض المناطق. نتحدث عن نظام معقد ومتشابك لدورة إنتاج الغذاء، حيث يمكن لأسبوعين أو 3 أسابيع من التأخر في موسم النمو أن تعطل دورة العمل بأكملها. هذا وتُواصل مشكلة التغير المناخي تأثيرها على طعامنا حتى الرمق الأخير، لتعطل أيضا حركة نقل الغذاء، بسبب الجفاف والعواصف الشديدة، فضلا عن الحاجة إلى جهد أكبر لتخزين الطعام لحمايته من خطر التلف والتلوث حتى لا تتسبب الأغذية في نقل الأمراض (12).
يحاول العلماء اليوم زراعة أنواع برية من 28 محصولا حيويا، ويضعون أولوية لمحاصيل مثل القمح والأرز والبطاطا الحلوة والموز والتفاح، لكنه قد لا يكون حلا كافيا لمواجهة الأزمة المقبلة، إذ قد لا تنجح المحاصيل القديمة في التكيف والمقاومة.
لكل هذه الأسباب، من المرجح أن نشهد في العقود القادمة تغييرات واضحة في قوائم الطعام في البلدان المختلفة، ولن تعود الأطباق الرئيسية فيها هي نفسها التي نعرفها اليوم، وسنحتاج لبذل جهد أكبر للحصول على الأطعمة التي نحبها، والبحث بين 50,000 نبات صالح للأكل في العالم، أو بالأحرى بين ما سيبقى منها، عن مصدر جديد لطعامنا، بطرق جديدة تماما (13).