فتحي خازم.. عقيد متقاعد ووالد شهيدين يتربع على قلوب الفلسطينيين- (فيديوهات )
لا يمنح الفلسطينيون ألقابا لأحد بشكل مجاني، ويقصد بالفلسطيني هنا، الحالة الشعبية العامة البعيدة عن الفصائلية وعمليات إدارة الشعبية عبر أدوات الدعاية والإعلان. والحال مع المطارد فتحي خازم، والد الشهيدين رعد وعبد الرحمن، دليل حي على ذلك، حيث تُوج وتربع قائدا على قلوب الفلسطينيين.
قبل تاريخ 7 أبريل من عام 2022، لم يكن فتحي، العقيد الخمسيني المتقاعد في صفوف قوات الأمن الوطني معروفا إلا لعدد قليل من أصدقائه وجيرانه من سكان مخيم جنين شمالي الضفة الغربية، لكن بعد هذا التاريخ، وتحديدا يوم 8 أبريل، بدأ نجمه بالصعود من اللحظة التي تلقى فيها نبأ استشهاد ابنه رعد منفذ عملية ديزنغوف في تل أبيب التي نجم عنها مقتل 3 إسرائيليين وإصابة 16 آخرين، وأسفرت عن استشهاده بعد 9 ساعات في اشتباك مع جنود الاحتلال الإسرائيلي.
في ذلك اليوم، حيث حضر مئات الشبان من المخيم لمواساة الأب وعائلة الشهيد، فقدّم فتحي خازم خطبة وصفت بالتاريخية، حيث ارتجل حديثا استمر لأكثر من ساعة وبصوت قوي هز أركان المخيم.
ووقف العقيد فتحي أمام الحشود في ساحة صغيرة أمام المنزل (الذي تم اقتحامه يوم أمس واستشهد فيه ابنه الثاني عبد الرحمن) وخطب في الجموع ملهبا المشاعر عبر تقديمه كلمة مليئة بالآيات الدينية والمفاهيم المرتبطة بالشهادة والموت والصراع مع الاحتلال.
وكان الأهم في تلك الخطبة المؤثرة، أنه وضع عملية ابنه في تل أبيب في سياق أحاديث الاحتلال عن تسهيلات ومطالب الشعب الفلسطيني، حيث قال: "يعدنا الاحتلال بفتات التسهيلات من أجل زيارة مسجدنا ومسرى نبينا في القدس، ومن ثم يقول بعد هذه العملية إنه لم يبق هناك أي تهدئة أو أي تسهيلات أمنية، وهنا أقول إن شعبنا لا يبحث عن تسهيلات بل يبحث عن حرية واستقلال، يبحث عن صلاة في المسجد الأقصى من دون قلق أو خوف، شعبنا يبحث عن حرية، ولقمة عيش كريمة، شعبنا لا يبحث عن تصريح إسرائيلي مغمس بالذل كي نأكل السم المغمس بالعار”.
وفي نفس الخطبة الطويلة التي ألقاها من يُعتبر أحد قيادات الانتفاضة الثانية، وصف مخيم جنين "بقلعة الأبطال والشجعان الذين لا يخافون الموت”، وشدد أن "مخيم جنين رأس الحربة للمقاومة الفلسطينية وسيستمر على هذا النحو كونه يحمل الأمانة وسيستمر بحملها”.
وقال برباطة جأش مثيرا الحماس في نفوس الحاضرين، إن المخيم "لا ينقلب ولا يتراجع رغم سقوط الشهداء”.
ويوم أمس، كرر خازم نفس الأفكار في كلماته بعد أن تلقى نبأ استشهاد ابنه الثاني عبد الرحمن، حيث طالب بتوحد المقاومة والفصائل في جنين.
وظهر المطارد خازم وكأنه قائد للمقاتلين في المخيم محاطا بالعشرات منهم، حيث أتيحت له مساحة خاصة لوداع ابنه من خلال تأدية التحية العسكرية له، وقال: "يا فلذة كبدي قاتلت في سبيل الله واشتبكت مع عدو الله، عدو الدين مقبلا غير مدبر.. اللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك وحملة عرشك، أنني راض عن ابني عبد الرحمن وارضَ عنه يا االله”.
وأضاف في تصريحات صحافية موجهة لفصائل المقاومة: "إن المخيم أمانة في أعناقكم، ووحدة المخيم أمانة في أعناقكم، ووحدة الفصائل، إياكم أن تضيعوها هذا الصف، إياكم أن ننكسر”.
وأضاف: "استمروا يدا واحدة، وروحا واحدة، وعلى قلب رجل واحد”.
وقال: "هدموا بيتي ولم يهدموا إلا حجارا، لم يهدموا لا عزيمتنا ولا إرادتنا، قتلوا أبنائي ولكنهم ليسوا بقتلى فقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، الله مولانا ولا مولى لهم، عقيدتنا تجعلنا نفرق صبرا على قلوبنا”.
وعلى مقبرة الشهداء، وهو محاط بالمسلحين من مختلف الفصائل، قدم العقيد فتحي تصريحات قوية ضد من يصفون حملة السلاح المقاوم بـ”الزعران”.
وأضاف بصوت غاضب: "المقاومون هم أبطال وأحرار، وعار ثم عار ثم عار على من يصف سلاح المقاتلين بسلاح الزعران”.
وقال: "يا أبناء الضفة.. يا أبناء القدس.. فلسطين غالية، وهي أمانة في أعناقكم، وجنين تنزف على مذبح الحرية فقوموا أيها الأبطال أيها الأحرار قوموا وأعلنوا عن موقفكم”.
وطالب بإعلان "يوم غضب على الاحتلال، وإضراب شامل يعم كل مناحي الحياة ليس مؤازرة لجنين ومخيمها.. بل لأجل المقاومين الذين يحاربون الآن، ويعتقلون باسم أنهم زعران”.
واحتفت الشبكات الاجتماعية بالمطارد فتحي، حيث انتشرت صورة وفيديوهات له محاطا بالمقاتلين، وأخرى يقبّل وجه ابنه الشهيد، إضافة إلى فيديوهات يدعو فيها للإضراب الشامل على أروح الشهداء.
وقام ناشطون في مدن فلسطينية بإغلاق الميادين العامة تلبية لدعوة أبو رعد، فيما انتشرت بوسترات في مدينة رام الله كتب عليها: "التزاما بقرار والد الشهداء فتحي خازم أبو رعد، رام الله اليوم مغلقة حدادا على أرواح شهداء جنين”.
ونشر عشرات الناشطين الفيديو للعقيد وفتحي هو يدعو للإضراب، مؤكدين أنه يمثلهم وهو قائد لهم، حيث أطلقوا عليه "قائد بحجم الوطن” وطالبوا بالامتثال لدعوة المقاومة للإضراب كونه يحمل تعبيرا جديدا ورمزية مهمة في ظل تهديدات الاحتلال بمزيد من الاغتيالات وعمليات القتل اليومية.
أيقونة حقيقية
يقول أحد الناشطين من مخيم جنين: "كنا نعتقد أنه سيكتب في تاريخ المقاومة الفلسطينية وعملياتها النوعية أن عملية رعد الخازم (29 عاما) ليست كسابقاتها من عمليات نوعية نفذت داخل المناطق الفلسطينية عام 1948، وأنها ستكون نقطة مهمة في التاريخ النضالي الفلسطيني، لكن الأمر تجاوز ذلك، حيث منحتنا هذه العملية القائد والد رعد الذي أصبح أكبر المطلوبين ليس لكونه يحمل السلاح وينفذ العمليات ضد الاحتلال، بل لكونه تحول إلى أيقونة حقيقية ورمزا يجمع عليه كل الفلسطينيين”.
وبحسب الأكاديمي في العلوم السياسية الدكتور إياد أبو زنط، فإنه "ليس هناك ما يُكتب في حكاية أبو رعد سوى أن هنالك من يصنعون لأنفسهم تعريفاً خاصاً، تعريفاً مختلفاً، مرتبطاً بالفداء كتفاً إلى كتف، مرتبطاً بالتضحية ولداً بعد ولد، مرتبطاً بالصبر امتحاناً بعد امتحان، مرتبطا بالشوق لملاقاة المصير”.
وأضاف: "أبو رعد يحفر بالصخر ليصنع تعريفاً خاصاً له، بل ليصنع لنا تعريفات جديدة، من نحنُ ومن هم؟ كيف نكون وما نكون؟ كيف نصبر؟ كيف نحتسب؟ كيف نُضحي؟ باختصار هو يُعيدنا إلى حقيقتنا”.
أما المحلل السياسي عصمت منصور، فقال إنه "كلما اشتدت المعركة، برز أكثر دور القيادة الحقيقية للشعب الفلسطيني القادرة على هزيمة العدو، والتي تواجهه في الميدان، وتمكث في السجون، وتضاءل حجم وحضور الممثلين السياسيين”.
وتابع: "لا مكان للمقارنة بين السياسي والشهيد وذويه، غير أن السياسي فيه من الجشع أنه يفعل كل شيء كي لا يكون مكانه، ويطمح في ذات الوقت أن يحتل مكانته في قلوب الناس” وقصد بذلك فتحي خازم الذي أصبح السياسيون يطمحون إلى شعبيته.
ووصف جمال حويل، عضو المجلس الثوري لحركة فتح، من على مقبرة الشهداء في مخيم جنين، أبو رعد بأنه "شيخ المطارَدين”.
وقال: "لا يستسيغ أحد الكلام في حضرة من فعل ثم قال، إنه شيخ المقاومين وشيخ المطاردين في فلسطين، الجنرال الأكبر أبو رعد الذي أصبح أيقونة للمقاومة وملهما لأجيال يتقدم كل الشباب والمجاهدين الذين يقدمون أنفسهم رخيصة”.
يذكر أن الشهيد عبد الرحمن، ابن فتحي خازم كان من الذين شكلوا غرفة العمليات المشتركة والسيطرة لجميع فصائل العمل الوطني المسلحة في مخيم جنين.
ويبدو أن الاحتلال ومن دون أن يدري، حوّل "الشيخ الجنرال” إلى أيقونة نضالية فلسطينية تلتف حولها الجماهير في سبيل حمايته من محاولات الاحتلال لاعتقاله أو اغتياله.
وفي الجانب الآخر، كتبت الصحافة الإسرائيلية تغريدات وتقارير تتضمن تحريضا مباشرا على اغتيال الأب، ومن هؤلاء الصحافي الإسرائيلي يوني بن مناحم حيث قال: "فتحي خازم، ضابط رفيع في الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ابنه نفذ عملية ديزنكوف، وابنه الثاني قُتل اليوم في مخيم جنين، هو الآخر نهايته ستأتي”.
يذكر أن فتحي رفض في وقت سابق تسليم نفسه لقوات الاحتلال الإسرائيلي، عقب تنفيذ ابنه رعد عمليته الاستشهادية، كما فشل الاحتلال أكثر من مرة في اعتقاله.
وكان "خازم” قد كتب بعد استشهاد ابنه الأول وصيته على صفحته الخاصة في "فيسبوك” وفيها أشار إلى تعرضه لضغوطات من جهات عدة لتسليم نفسه للاحتلال، وشدد على أنه لن يفعل ذلك حتى يتسلم جثمان ابنه الشهيد.
وقال: "فقدتُ فلذة كبدي ويبحثون عن باقي أفراد أسرتي، وأسأل الله أن لا يصلوا إلينا، ثم يطلب أعدائي وبعض أبناء جلدتي أن أسلم نفسي، لن أفعل حتى أتسلم جثمان ابني”، وطلب "خازم” المسامحة ممن ظلمه، كما أعلن عفوه عمّن ظلمه.