فيلم "ابتسامة".. كيف تحوّل الشعور بالذنب إلى وحش قاتل؟
جو 24 :
ليس من الصعب تمييز نوع الابتسامة التي تلمحها على وجه أحدهم، فقد تكون ودودة، أو ابتسامة إعجاب، ابتسامة غبية، أو حتى فارغة من المعنى.
وثمة أنواع أخرى من الابتسامات، بعضها يفيض بالحب، وبعضها يفيض بالكراهية والاحتقار، لكن أكثرها رعبا هي تلك الابتسامة الساخرة الشامتة في آن واحد، فهي بالضرورة مخيفة وتعد بالأذى المؤكد.
ورغم أن الابتسامة ليست موضوع فيلم "ابتسامة" (Smile) الذي يعرض حاليا في كندا والولايات المتحدة، محققا إيرادات هائلة مقارنة بالتكلفة الإنتاجية التي لم تتجاوز 17 مليون دولار، فإن تلك الابتسامة التي نجح "كائن ما" يشبه الإنسان في افتعالها بالفيلم تستدعي كثيرا من الأسئلة والخواطر عن الابتسامات التي نراها على الوجوه يوميا، ولا نهتم كثيرا بتفسير ما تعنيه.
يقدم السيناريست والمخرج باركر فين فيلما ينتمي لما يمكن تسميته بالرعب الذاتي، حيث تخرج النفس الإنسانية مخزونها من الذكريات المخيفة والبائسة والوحشية في لحظة ما من دون مقدمات، فتغتال صاحبها وأحيانا يمتد أذاها إلى الآخرين.
تدور أحداث "ابتسامة" حول الطبيبة روز (الممثلة سوزي بيكون) التي تشهد أثناء عملها طبيبة نفسية في إحدى المصحات انتحار مريضة بشكل وحشي، حيث تذبح الفتاة نفسها من الأذن إلى الأذن، لتبدأ الطبيبة في مواجهة أحداث مخيفة لا يمكنها تفسيرها؛ سقطت الدكتورة روز في متاهة لعنة لا يمكنها التحرر منها إلا إذا واجهت ماضيها المزعج.
في المشهد المحوري الذي بنيت عليه مشكلة الفيلم، تقف المريضة أمام الطبيبة لتؤكد لها أنها ليست مجنونة، وأنها تعمل على رسالة دكتوراه، وأن ما يحدث لها حقيقي تماما، حيث ترى كائنا يبتسم لها ابتسامة شريرة، ثم تدخل في نوبة رعب وتنهار، وفجأة تنتصب واقفة وعلى وجهها تعبير مختلف تماما، ثم تنتحر في مشهد دموي بشع.
فريق واعد
تجربة ثالثة للمخرج الشاب (باركر فين) تشير إلى طموح وإتقان وقدرة للسيطرة على أدواته، واهتمام بمختلف عناصر الفيلم، لكن ينقصه الاهتمام بأداء ممثليه والنفاذ إلى عمق الشخصية وبنائها.
قدم فين من قبل أفلام "لورا لا تنام" 2020 (Laura Has Not Slept) و"الاختفاء في الخطوط الخلفية" أو (The Hidebehind 2018).
وقدمت سوزي بيكون تجسيدا بسيطا لدور الطبيبة روز التي تصاب بلعنة قادمة من ماضيها، بتمثيل مقبول، لكنه لا يرقى إلى مستوى التميز، ولعل دور الطبيب النفسي في حالاته العادية يبدو بهذا السمت المحايد وهو ما يجعل جموده وقلة انفعالاته جزءا من التجسيد للدور نفسه.
يوزان بيكون واحدة من الممثلات المعروفات اللاتي يعدن بمستقبل جيد، وقد قدمت من قبل أعمالا ناجحة بينها "13 سببا لماذا" 2017 (13 Reasons Why) و"فرس البلدة الشرقية" 2017 (Mare of Eastown)
تمهيد مرعب
يبدأ الفيلم بلقطة كبيرة لعينين مفتوحتين، نكتشف بالتدريج أنهما لجثة امرأة منتحرة، حيث استخدم المخرج نوعين من التقنية: الأول فتح العدسة (زوم آوت) ليظهر بالتدريج الجسد المسجّى، وتدوير الكاميرا التي بدت كما لو كانت ممددة على جانبها الأيمن بعكس الجثة التي كانت ممددة على جانبها الأيسر، ومع الحركة السريعة نسبيا للدوران، جاءت الموسيقى الدائرية المتماوجة والمخيفة في آن واحد.
وأكدت جودة تنفيذ المشاهد السابقة أننا أمام فيلم رعب من الطراز الأول.
جاءت المفاجأة في العمل الذي استخدم المخرج خلاله موسيقى رعب مثالية، لكنه بدا كما لو كان قد نسي أنه يقدم فيلم رعب، فاتسعت عدسة الكاميرا لتأتي أغلب المشاهد متوسطة أو عامة، فلا تلتقط عينا المشاهد تلك التفاصيل الدقيقة للرعب على نحو يليق برعب يأتي من داخل النفس الإنسانية عبر ذاكرة تستيقظ من إغماءة امتدت 10 أعوام، فقد انتحرت الأم المريضة عقليا بينما تجاورها ابنتها الطفلة ولا تجرؤ على الاقتراب منها.
المشهد الميلودرامي المرعب التالي في حياة البطلة كان انتحار مريضتها أمامها، فاستدعى انتحار والدتها أمامها في طفولتها.
يعرض الفيلم للتفاصيل التي تظهر تدريجيا، وذلك الرعب الذي تعيشه نتيجة الهلاوس، وإصابتها بتلك اللعنة الشبحية التي تدفع المبتلى بها إلى الانتحار أو القتل للخلاص منها، لتتكشف الحقائق في حفل عيد ميلاد ابن شقيقتها، وعلى لسان تلك الشقيقة تظهر قصة المعاناة والماضي اللذين أنتجا طبيبة نفسية تحتاج إلى طبيبة نفسية.
إتقان سخيف
تسعى الأعمال الدرامية دائما للوصول إلى حالة من الإتقان في صنع الحبكة، باعتبارها الأساس الأهم لنجاح العمل الدرامي، وقد جاءت الحبكة في "ابتسامة" متقنة لدرجة مزعجة، فمنذ المشهد الأول يسعى المخرج المؤلف لعدم إضاعة الوقت أو الجهد أو اللقطات في شيء آخر عدا دعم سرديتهما، ليؤدي العمل إلى نتيجة واحدة هي الذروة الدرامية أو بتعبير أكثر وضوحا؛ يسعى إلى إحكام لف الحبل حول عنق الطبيبة روز كوتر حتى تنتهي إلى الانهيار أو التحول، وهو ما حدث بالفعل.
ولعل تلك الدقة في صناعة تفاصيل أقدار البشر داخل العمل الفني تدل على مهارة كبيرة، لكنها تشبه المبالغة التي تفقد الأشياء معناها، وتفقد فكرة السينما معناها أيضا، إذ يبقى الفن مرآة الواقع، بمعنى أنه ليس الواقع لكنه يحمل ملامحه بما يكفي للتعرف عليه، وليس عملية حسابية آلية.
تبدأ الطبيبة روز اكتشاف الحقائق المتعلقة بالإصابة الغامضة التي لحقتها، لكن على التوازي تنهار علاقاتها الإنسانية، حيث يعتقد مديرها في المصحة أنها بحاجة للراحة، فيمنحها إجازة رغم إرادتها، ويرى صديقها أنها أصبحت شبه مجنونة فيتركها، وترفض شقيقتها الحوار معها.
لا تجد روز المحاصرة إلا صديقا سابقا يعمل ضابطا للشرطة، يجمع لها من المعلومات ما يشير إلى أنها الرقم 20 من بين من أصيبوا بتلك اللعنة.
اللعنة التي يصاب بها بطل الفيلم أو المسلسل أو الرواية ويحاول البحث والكشف عن طريقة للتخلص منها هي فكرة مستهلكة تماما، لكن يمكن فهمها في إطار الحبكة المتقنة ليعتقد المشاهد أنه أمام فيلم رعب كلاسيكي لا يسعى إلى تقديم الجديد على مستوى المعنى أو القيمة الفنية أو الإنسانية، لكن فكرة الانتباه إلى الرعب القادم من أعماق الذات كافية تماما للفت النظر ومحاولة استجلاء ذلك الوحش القابع داخل كل منا دون استثناء للأشخاص الأكثر هدوءا من الخارج.
المواجهة
ثمة آثار لجروح البدن يتركها الزمن، ويحكي كل أثر عن حادثة ما، وكما تظهر تلك الآثار والندوب المادية، فإن آثارا نفسية تظل عالقة بالشخص، بعضها يظل أثرا خامدا لجرح شفي بالزمن أو العلاج، لكن بعضها -وهو الأخطر- يشبه جرح الطبيبة روز التي رافقها شعورها بالذنب منذ طفولتها، واغتال قصص اقترابها من الآخرين، فأكسبها علاقات سطحية غير حقيقية، وخسرت بسبب خوفها وفكرتها السيئة عن نفسها علاقات حقيقية، كان يمكن أن تمثل طوق نجاة في حياتها.
ويقدم الفيلم في نهايته حلا لتلك الإعاقة النفسية المتمثلة في الشعور بالذنب، وهو المواجهة، فإما الغفران من الطرف الذي تشعر بالذنب تجاهه وتتوقف عن جلد الذات، وإما كشف الحقيقة أمام الذات باستعراض مبررات كل طرف، لكن تلك المواجهة لا تبدو سهلة أو حتى آمنة، وقد لا يجرؤ عليها كثيرون.
المصدر : الجزيرة