محمد منير.. صوت مصر الذي علق الأجيال بكفوف الوطن
مسيرة الملك محمد منير من مولده في النوبة لأغنيته الأخيرة، مشوار من الأمل والعطاء والمحبة الخالصة للغناء والوطن.
"أنت اللي ميدبلش ضيك، ولا يخلصش زيت قنديلك" كتبتها نورهان- المجذوبة في هوى محمد منير- على صفحتها على فيسبوك، فور أن علمت بمرضه ودخوله للمستشفى في يناير 2020، لا تتصور أن تأتيه شمس المغيب، ولكن تثق أنه باقي ما بقيت مصر. من هي نورهان؟ هي أنا وأنت وأجيال رحلت وأخرى باقية ومثلها قادمة تجتمع باختلافاتها على الرنة والدندنة والشجن الذي يحمله محمد منير في صوته.
سيرة محمد منير المنسوج في خيوط الوطن وأحداثه، والقادم من أعذب بقاعه في الجنوب، تأتي دوما صادقة وحالمة على لسان محبيه مَنْ عاش "ملك- كينج" في قلوبهم، ومنصفة على لسان مَنْ عاشروه وعاونوه وساندوه وعاصروه، وسيرة محبة للحياة تبحث عن السعادة والنجاح- لا زالت- على لسانه وبروايته عن نفسه.. لكننا نقول عنها "العمر أيام وسنين بيعدي زي حكاية، يقولوها بكرة عاشقين لياليهم مش نساية".
مشوار محمد منير
التفرد والإنسانية والأصالة يمكنهم أن يصفوا مشوار محمد منير، فمع نشأته في النوبة بأسوان وحمله لصوت لم يأتِ قبله ولم يُنْجَب بعده، كان قادرا على أن يمزجه بكل ما هو عصري ويمنحه تألقا وانتشارا ومذاقا خاصا تعلق به الملايين.
في 10 أكتوبر 1954، استقبلته والدته أمينة محمد حسن ووالده منير محمد أبا يزيد جبريل متولي، أحد كبار الموظفين في محاظة أسوان، في قرية منشية النوبة بأسوان، لم يذكر طوال مشواره كثير عن حياته الشخصية، ولكنه يحكي بامتنان وتبجيل عن أخيه الأكبر فاروق، الذي كان يعمل مرشدا سياحيا ويتقن أكثر من لغة، وكان بمثابة الأب له، وأخوه سمير وأخواته البنات سميحة وخديجة وأميرة.
كان فاروق أبا يزيد هو مرشد محمد منير في طريقه الفني، فكان عاشقا للفن والغناء النوبي ويعلم بعذوبة صوته أخيه الأصغر، فقرر أن يستثمر فيه حلمه الذي لم يتحقق بالتحاقه بمعهد الموسيقى، فكان هو دليله نحو الشعراء والمغنيين الذين شاركوا في انطلاقة منير، الذي كان يبحث عن فرصة ينتقل بها إلى القاهرة، فأنهي الثنوية العامة في أسوان، ولم يقبل أن يدخل كلية إلا في العاصمة، ولذلك التحق بكلية القنون التطبيقية قسم التصوير والسينما.
رحلة منير إلى القاهرة
قبل أن ينطلق القطار، منحه أخوه الأكبر فاروق 3 جنيهات مصروفا شهريا يعينه على حياة الاغتراب في العاصمة، وصل محمد منير لمحطة رمسيس بالقاهرة "قولت أنا هابقى شئ، زي ما وعدت أبويا"، ودرس السينما التي يحبها وتعلّم التصوير، ولكن قلبه معلقا بالغناء، فاروق يعلم ويدبر لأخيه فرصة تناسب صوته الفريد الحنون، فكان على صلة بجميع مطربي النوبة، وعلى رأسهم أحمد منيب، وكذلك صديقا لشعراء الجنوب، ومن بينهم عبد الرحيم منصور.
كانت بداية الثلاثي: محمد منير وعبد الرحيم منصور وأحمد منيب، يجتمعون معا في لقاءات يرعاها فاروق بهدف الخروج بكلمات مأخوذة عن الأغاني النوبية، لكن يكتبها عبد الرحيم منصور بعد إعادة صياغتها بلهجة مصرية مفهومة، ويلحنها منيب، ويغنيها منير، ولكن لا يمكن أن يحدث الانتشار سوى باكتمال المشروع وتبني شركة إنتاج لمنير.
أسس المنتج الراحل هاني ثابت شركة سونار للإنتاج الفني، التي اقتحمت السوق المصري بإنتاج أول ألبوم لمحمد منير "علموني عينكي" عام 1977، الذي جاء بعد محاولات للبحث عن ملحنين قادرين على استغلال خامة الصوت التي تحمل ملامح نوبية، فلم يكن هناك وفتها أفضل من بليغ حمدي، الذي وضع لمنير ألحانا تقليدية لم تستوعب موهبته.
"إحنا بنتعامل مع موسيقانا اللي من الأقاليم ببعض من العنصرية، مكنتش عاوز أنه القاهرة هي اللي تكون صاحبة القرار في صناعة أغانيا" كان محمد منير واضحا، يحتفي بأصوله النوبية ويريد أن يصل بها للعالمية، وكانت بداية الرحلة الحقيقية مع الموسيقار هاني شنودة، الذي فور أن سمع صوته علم أنه "نجم".
تعاونت فرقة المصريين لصاحبها هاني شنودة مع أحمد منيب في صنع موسيقى تليق بصوت محمد منير وكلمات عبد الرحيم منصور وسيد حجاب، فخرج ألبومه "علموني عينكي"، الذي تقاضى عنه منير 300 جنيه، يذكر أنه أنفقهم على أصدقائه، فكان دائم التواجد في سهرات الفنانين في منازلهم، وجمعته صداقة قوية بعلي الحجار الذي صاحبه أيام التجنيد بالجيش يغنيان معا للجنود.
محمد منير ويحيى خليل
كان جليا أن الألبوم الأول مميز ومختلف، لكنه لم يصنع النجاح الكافي، واستمر تعاون محمد منير وهاني شنودة، الذي انضم إلى فرقته حديثا الموسيقي يحيى خليل، الذي عاد إلى مصر بعد سنوات قضاها في الولايات المتحدة الأمريكية يدرس الموسيقى ويعزف في أشهر نوادي الجاز، وتم إنتاج الألبوم الثاني "بنتولد" عام 1978، باغاني كتبها مجدي نجيب وسيد حجاب وعبد الرحيم منصور.
نجح الألبوم الثاني في إثبات أن منير موهبة متكاملة لم يجد الزمان بمثلها، وأن ما يقدمه لا يشبه أي من زملائه، وهو ما جعله يثق أن نجاحه سياتي من التركيز على اختلافه، وأن يحقق ما يروي عطشه للمزيد "كنت بحلم برؤية موسيقية مختلفة في الأغنية العربية، ويحيى واحد من الموسيقين اللي يمتلكوا وجدان مصري إلى جانب سفره لأمريكا" فتعاون معه وانضم لفرقته التي أسسها عام 1979، وكانت تضم علامات موسيقية، منهم: فتحي سلامة، وعزيز الناصر ومايكل كوكس.
"قبل (شبابيك) مكنش في حاجة شبهها.. والحقيقة أخد سنة شغل وبروفات" يحكي الموسيقي فتحي سلامة عن إنتاج ألبوم شبابيك عام 1981، حين كان عضوا بفرقة يحيى خليل، الألبوم والأغنية التي ما زالت تحظى بنفس الوهج والتألق، رغم مرور عشرات السنوات، تعاون فيه منير مع فؤاد حداد وشوقي حجاب ومجدي نجيب، ولحنه أحمد منيب وبليغ حمدي ويحيى خليل وحسين جاسر.
كان يحيى خليل يقول عن منير "عنده مقومات النجم العصري.. اللي بيهتم بالمضمون وعنده فكر فني عاوز يقدمه"، وبعد ألبوم "شبابيك" تعاون منير معه في ألبوم "اتكلمي" عام 1983، وتلاه ألبوم "برئ" عام 1986، وأخيرا ألبوم "وسط الدايرة" عام 1987، الذي كان التعاون الأخير بينهما بعد أن شهد خلافا على من هو صانع نجومية الآخر، واستمرت القطيعة لسنوات تخطت الـ 25 عاما، يتبادلا التصريحات الصحفية الموجعة دون لقاء أو إفصاح وتسامح.
سرّ "شبابيك"
كيف صمدت "شبابيك" كل هذه السنوات؟ كيف حقق هذا الألبوم أعلى المبيعات حينها؟ تساؤلات حاول كثيرون الإجابة عنها، لمعرفة كيف تحولت كلمات الشاعر والصحفي مجدي نجيب، التي كتبها في السجن لجمال عبد الناصر "والكلام كان كان عليك، واللي كان خايف عليك، انتهى من بين إيديك" تصبح رفيقة أجيال متعاقبة وتخطف قلب كل مَنْ يسمعها، ويصحبها معه في أحلامه وإخفاقاته.
"منير كان حلم.. إنك تلاقي حد تعمل معاه تجربة مختلفة" يعرف مجدي نجيب أنه لا يمكن لأحد أن يغني كلماته مثلما فعل محمد منير، ويمكن اعتبار مفتاح نجاح الألبوم والأغنية هو الصدق، فبعد أكثر من 40 عاما يخبرنا منير بالسر "صدق نفسك.. قول نفسك.. كن نفسك.. هتوصل".
ويقول الكاتب عمر طاهر في مقاله عن ألالبوم "لم يحدث قبل شبابيك أو بعده ما يشبهه، عمل كان يستحق أن يوثق على هامش أسماء أخرى إلى جوار المحلنين والشعراء والعازفين، كل من قدم خدمة أثناء صناعة هذه القطعة كان يستحق أن يُكتب اسمه، عمال التوصيلات الكهربائية، أمن الاستوديو، عمال البوفيه، محاسب العمل، مصمم الغلاف، عامل ماكينة نسخ شرائط الكاسيت".
وضم الألبوم 8 غنيات: هي: الليلة يا سمرا، قد وقد، شبابيك، شجر الليمون، الكون كله بيدور، يا زماني، اشكي لمين، على المدينة، كريشندو، ليكون قادر بهم فقط على إحداث ثورة فنية حقيقية أجمع عليها النقاد.
أشهر أغاني محمد منير
بخلاف "بكار" أبو كف رقيق وصغير، الأغنية التي قدمها محمد منير للمسلسل الكارتون المصري الذي يحمل الاسم نفسه، هنا أكثر من 200 أغنية لمنير بداية من ألبومه الأول "علموني عينكي"، وحتى ألبومه الأخير "وطن" 2019، وما بينهما من ألبومات تركت بصمات فنية وحققت مبيعات عالية، مثل: الطول واللون والحرية 1992، من أول لمسة 1996، في عشق البنات 2000، أنا قلبي مساكن شعبية 2001، إمبارح كان عمري عشرين 2005، طعم البيوت 2008، يا أهل العرب والطرب 2012.
بخلاف ألبومات المسرحيات والأفلام التي شارك بها، فغزارة إنتاج محمد منير من الموسيقى والأغاني توضح كيف أفنى عمره مخلصا لها وحدها "الغنا شيء صنع ربنا.. صنعه في خرير المياه.. صنعه في صوت الموج، صنعه في ضحكتنا.. عشان كده مخترتش حاجة أجمل من أني أغني، عشان أقدر أحب نفسي وأستمر في الحياة"، ونذكر من بين أشهر أغنياته:
- للّي
- يا طير طاير
- شجر الليمون
- أشكي لمين
- بالحظ وبالصدف
- عُمر عيني
- بتبعديني
- أنا قلبي مساكن شعبية
- غريبة
- أكلم القمر
- بفتح زرار قميصي
- إقرار
- صوتك
- قلب فاضي
- يونس
- بننجرح
- حرية
- شمندورة
- خايف
- علي صوتك بالغنا
- عيون
- يا أبو الطاقية
- في عينيكي غربة
- علموني عينكي
- الناس نامت إلاي
وغيرها عشرات الأغاني المنفردة والدويتوهات التي نحفظها عن ظهر القلب، وشاركتنا الحزن وساعات النشوة، وظلت تشتبك مع أحداث أيامنا وتشكل جزء من ذكرياتنا، ويرى منير أنها كانت نتاج التعاون "أعظم من أنجبتهم مصر في سنوات تاريخي هما اللي كتبوا لي، وأعظم من أنجبنتهم مصر، من نقاد فنيين صحفيين هما اللي كانوا محيطين بيا، فالنتيجة لازم تكون كده".
أفلام محمد منير
رغم مشاركته التمثيلية في عدد من الأفلام والمسرحيات، مرّت على محمد منير أوقاتا تيائل فيها: هل يستمر بالتمثيل، وهل كان قراره سليما بالتمثيل؟ ثم يتذكر أنه عمل مع يوسف شاهين وفاتن حمامة، ومن الأفلام والمسلسلات التي شارك بها:
- حدوتة مصرية- إخراج يوسف شاهين 1982.
- اليوم السادس- يوسف شاهين 1986.
- يوم مر ويوم حلو- خيري بشارة 1988.
- اشتباه- علاء كريم 1991.
- حكايات الغريب- إنعام محمد علي 1992.
- المصير- يوسف شاهين 1997.
- دنيا- جوسلين صعب 2005.
- مسلسل جمهورية زفتى- إسماعيل عبد الحافظ 1999.
إنجازات محمد منير
اختار محمد منير الغناء ليكون مهنته، كان يرى فيه الإنسان بتوقه للفرحة والبهجة، ومع ما حققه من إنجازات بغنائه الصادق وحضوره المميز على المسرح، ما زال يسعى منير إلى اللحظة التي يشعر فيها أن نجاحه اكتمل، ولكنه يثق أن أهم ما صنع ثروته الفنية هو اختياره لأغانيه "بختار الأغاني تكون شكلي، لوني وسماري وعيني.. وفي نفس الوقت تأخد معايا وقت طويل لغاية ما استشعرها وأحس أنها طالعة مني أنا".
ومن بين ما حصده محمد منير من إنجازات:
- حصل ألبوم "الأرض.. السلام" على جائزة السلام من قناة CNN.
- الجائزة البلاتينية عن أغنية "ياسمينا".
- جائزة يونيفرسال العالمية عن أغنية "تحت الياسمينة" التي وزعت أكثر 700 ألف نسخة في ألمانيا.
- نالت أغنية "تحت الياسمينة" باللغتين العربية والإنجليزية المركز الثالث في استفتاء "بروسفن" لأفضل أغنية في ألمانيا".
- الجائزة الماسية من باما أووردز.
- فازت أغنية "الليلة يا سمرا" في استفتاء BBC لأفضل 50 أغنية إفريقية.
- حصل على Honorable Award عن فيلم دنيا.
- جائزة MEMA كافضل مطرب في 2008.
راحلون أثروا في منير
"كل شئ مقدور عليه.. لكن فقدان صديق صعب" يعتبر محمد منير أن ما يكسره ويفقده بوصلته هو فقد شخص عزيز، وهو ما آلمه على مدار السنوات الماضية، بعد أن فقد أصدقاء وأقارب ومحبين تأثر بهم وانعزل بسبب حزنه عليهم، منهم:
فاورق أبا يزيد
الأخ الذي يكبر محمد منير، كان يرشده في مشواره الفني، ويمنحه الثقة كما يطمئنه ويدلّه، الذي توفي في سبتمبر 2010، وكان متبني موهبته، وهو من ساعده على التواصع مع الشاعر عبد الرحيم منصور والفنان أحمد منيب، وكان يلجأ له منير في كل خطوة، وتمنى لو كان موجودا ليسأله "أكمل المشوار في الوقت ده.. إزاي؟"
رومان بونكا
بعد أيام قليلة من وفاة الموسيقار والملحن الألماني رومان بونكا في 12 يونيو 2022، كان محمد منير على موعد مع حفلته في الإسكندرية بعد غياب أكثر من 10 سنوات، ولكن دموعه غالبته وهو يطالب الجمهور بالدعاء له وقدّم العزاء لدولة ألمانيا، ليبدو أنه تذكر تعاونهما معا في "وسط الدايرة"، وأغاني الثمانينات والتسعينات، التي شارك معها في عزفها بعوده، وأهدى له منير "تعالى نلضم أسامينا".
محمود أبا يزيد
غيّب الموت عن محمد منير رفيقه وصديق عمره ومدير أعماله، وأيضا زوج شقيقته وابن عمه محمود أبا اليزيد في يناير 2020، الذي تألم لفراقه وما زال يفتقده، فقد كان محمود هو الداعم له ومهندس أعماله وحافظ سرّه.
عمر فتحي
بعد أن علم محمد منير بوفاة الممثل والمغني عمر فتحي ليلة 31 ديسمبر عام 1986، في الوقت الذي كان يحي فيه حفلا غنائيا في إحدى الدول العربية، كانت بالنسبة له تلك واحدة من أقسى اللحظات التي عاشها.
ألقاب محمد منير
"النوبة منطقة ثرية بفنها.. النوبيين شعب يحب الفن، وفقير لكن عرف يسعد نفسه، وبيحب البهجة وميحبش التطرف" ومحمد منير ابنا لهذه الثقافة والبيئة، حصد جوائز عالمية وألقاب، منها "الملك- صوت مصر- ابن النوبة- الأسمراني"، ولكنه ظل مشغولا بالطرب بعد أن مسَّه سحر المغنى، الذي كان ملازما له حتى بعد رحيل والدته بساعات، وشعر أنه منح سنوات عمره للغناء.
ما زال محمد منير يسعى ليكون صوتا عابرا للقارات نحو أوروبا وأمريكا، يختزل من عمره السنوات ليخاطب الأجيال الجديدة، ويناقش مشكلاتهم وأفكارهم، يبعده المرض أحيانا والبحث عن كلمة مناسبة مرات، لكنه يعود ويصعد خشبة المسرح فتهيج أصوات الجماهير لرؤيته، وتستعيد معه "سنين العمر".
هل انتهت قصة منير؟ هل أخبرناكم عن حبه للوطن؟ هل وثقنا غناءه للأعمال الفلكلورية؟ هل تحدثنا عن حياته الشخصية وزواجه (أكثر موضوع لا يفضل مناقشته)؟ الحقيق، لا، لن تكفينا الكلمات والصحف، ولكن نختم السيرة بما قالته نورهان "منير هو اللي غني للحقيقة والميلاد، والغربة والصداقة، والطريق البحر والفرصة والموت نفسه.. هو اللي علقنا بكفوف الوطن في عز ما كان بيلعن ظلمه.. يا أيها الغريب أنا مدينة لك بوجدان مختلف وبراح قد الكون لاستقبال الإنسان".