الخرطوم مدينة القصائد
جو 24 :
محمد عبدالله البريكي-استقبلت الخرطوم بفرحٍ غامر، مبادرة صاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، بإنشاء بيوت للشعر عام 2015؛ واستقبلتني بالقصائد التي وزعت العطر في قاعة الشارقة، وعقدت معها علاقة وصل سنوية، عبر مهرجان الخرطوم للشعر العربي؛ ففي السودان شعراء بعدد أنفاس نيليها اللذين يلتقيان عند المقرن.
وأتذكر في الدورات السابقة من المهرجان، اللقاءات التي جمعتني بالشعراء، وهم ينشدون للمراكب العائمة فوق الماء، فأشعر بأن النيل يرقص طرباً لعزفهم، والمراكب تميل مع ألحانهم، فنظرة واحدة إلى ماء نهر النيل، تعادل قراءة مئات القصائد؛ والقصائد في السودان مصممة للطرب، فهذه الأرض النيلية التي تراهن العين على أنها الخط الحقيقي للقصيدة، هي أرض الفيتوري، ومحمد عبدالحي، ومحمد كجراي، وصلاح أحمد إبراهيم، ومصطفى سند؛ حيث أخذت منذ قديم الزمان كل التقاسيم الموسيقية من جعبة الخليل بن أحمد الفراهيدي، فأضحت السودان أكمل قصيدة أقنعت العالم بحضورها الشعري.
إن الشعر في السودان هو الطموح، لأنه يأخذ شكل موجات النيل، ويأخذ شموخه من شموخ الناس الذي يعلو على شموخ جبال التاكا وتوتيل بكسلا، ويتفوق على سحر نيرتتي بدارفور، وعروس الجبال، والرمال بكردفان، وأصالة وحضارة مروي وشندي وكوش، وأشعر في مهرجانها الشعري بكبرياء اللحظة الشعرية، فشعراؤها يمنحوننا إخراجاً جديداً للقصيدة، والناس يتلقون القصيدة بكرم، كما يستقبلون الضيف ب«التبلدي والكركديه» وينصتون لترنيمات الحروف، كما ينصتون لغناء «وردي، والكابلي، وسيّد خليفة، ونانسي عجاج» وكأن الشعر في السودان وسيلة لكي تتوحد اللغة وتنسجم مع الحروف والكلمات والألحان.
وحين يزورها مهرجان الشعر، أتذكر حرارة اللقاء رغم غيابي؛ فالسودان جامعة أتعلم فيها الغناء مع أهلها «أنا السودان..أنا الطابْيَهْ الْمقابْلَهْ النيل.. أنا العافيه الْتِشِدّ الحيل.. أنا القبّه الْتِضَوّي الليل» فأجول بخيالي بين المقاهي المائية على سطح النهر، وأتذكر «مراكب النيل، بوابة عبد القيوم، جزيرة توتي، سوق قندهار، شارع العرضة، مقرن النيلين، أولاد أم درمان، وجامعة الخرطوم»، فيتزلزل أمامي قاموس اللغة العربية وهو يعيد تشكيل نفسه من جديد.
إن كل إيقاعاتها قاسم مشترك في كينوناتنا العربية، حتى وهم يستقبلون ضيوفهم برقصات «الكمبَلا والكِرَن والعرضة على إيقاعات السيرة والدلّوكة والتمتم والدِّليب» فنشعر بالدهشة وكأن فوق الأرض طائر «تانغو» يشدنا لرقصته، فهذه الرقصات هي كل الشعر الذي ليس له سقف أكاديمي أو حدود معجمية.. لقد أعطانا السودان رسائله ومخطوطاته الشعرية، فتأكدنا أننا بخير، وأن محتوانا الشعري يتجدد على خريطة هذا العالم الذي تتسع حدوده بالسودان كونه يعد كوكباً شعريّاً مكتمل الجمال.
hala_2223@hotmail.com