لأن محرك بحث غوغل سيختفي قريبا.. إليك ما سيحدث خلال السنوات القادمة
جو 24 :
على مدى أكثر من عقدين ونصف من الزمن، اعتدنا مشهد شريط البحث الفارغ في صفحة بيضاء، يظهر فوقه رمز "Google" بألوانه المختلفة، ليصبح بوابتنا الأولى للدخول إلى شبكة الإنترنت. وعلى مدار الفترة نفسها، ظهر العديد من المنافسين الذين حاولوا مجرد الاستحواذ على نسبة ولو بسيطة من سوق محركات البحث على الإنترنت، لكن لم يستطع أحد منهم الاقتراب من تلك القلعة الحصينة.
لكن أسوار القلعة بدأت في الاهتزاز مؤخرا، فمنذ لحظة ظهور روبوت المحادثة "شات جي بي تي"، وانطلاقه في رحلته المثيرة، شعر الجميع أن هناك أمرا ما على وشك أن يتغير، حتى إن ناقوس الخطر بدأ يدق داخل أسوار قلعة غوغل نفسها بعد شهر واحد فقط من إطلاق الروبوت الجديد. كانت غوغل، ربما للمرة الأولى منذ تأسيسها، تخشى من اقتراب تغيير تكنولوجي هائل قد يسبب لها اضطرابا في نموذج أعمالها الأساسي وهو البحث على الإنترنت. (1)
لسنا هنا للتنبؤ باختفاء شركة غوغل أو انهيارها فجأة، في الواقع فإن الشركة تُدار جيدا وتملك إدارة ذكية فعلا. ومع ذلك، فإن التغيير أصبح مؤكدا، وهذه التغييرات الضخمة تُمثِّل تحديات هائلة للبحث على غوغل، وربما التحديات الأضخم حقا والأولى من نوعها على مدار العقدين الماضيين. وعندما يتأثر بحث غوغل، فإن علاقتنا بالإنترنت نفسها ستتأثر بصورة عميقة، وهو ما يدعونا إلى التساؤل: هل حان الوقت لاستبدال محركات البحث التقليدية، التي تقوم على تصنيف صفحات الإنترنت وتضعها في ترتيب معين، لصالح نماذج اللغة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي وتقدم إجابات مباشرة عن أسئلتنا؟
للإجابة عن هذا التساؤل سنحتاج في البداية إلى طرح عدة أسئلة جزئية: هل أصبح بإمكان النماذج الجديدة أن تفهم بالكامل تعقيدات وسياقات اللغات البشرية، بحيث يمكننا أن نثق بإجاباتها عن أسئلتنا؟ والأهم، هل ينبغي حقا أن نخوض مثل هذا التغيير الهائل الآن؟ وكيف ستكون العواقب على شركة بحجم غوغل إذا تغيرت طرق البحث التقليدية على الإنترنت؟ بل كيف ستكون العواقب على نظام الإنترنت كما نعرفه بشكله الحالي؟
المثير هنا أن هذه الأسئلة ليس لها إجابات مباشرة، والأمر لن يكون بتلك البساطة.
تجربة بحث جديدة
لن تعتمد الشركة بالكامل على روبوتات المحادثة، ولن تعيد تصميم صفحتها الرئيسية في البحث لتبدو أشبه بصفحة الحوار مع روبوت "شات جي بي تي"، لكنها بدلا من هذا ستضع إجابة الذكاء الاصطناعي عن السؤال في أعلى صفحة نتائج البحث الحالية.
لن تعيد غوغل تصميم صفحتها الرئيسية في البحث لتبدو أشبه بصفحة الحوار مع روبوت "شات جي بي تي"، لكنها ستضع إجابة الذكاء الاصطناعي عن السؤال في أعلى صفحة نتائج البحث الحالية. (غوغل)
محرك بحث غوغل يعمل في الأساس بدعم من خوارزميات الذكاء الاصطناعي، التي تؤدي دورها في ترتيب صفحات المواقع في نتائج البحث. (2) لكن المعضلة الآن أن روبوتات المحادثة، التي تعتمد على نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، تقدم لنا وعدا جديدا بإعادة تصور علاقتنا مع عملية البحث على الإنترنت بالكامل. تماما كما قدم لنا محرك بحث غوغل هذا الوعد منذ بداياته الأولى، وربما تتغير معها بوابتنا التي اعتدناها للدخول إلى شبكة الإنترنت.
هذا ما تراه شركة غوغل نفسها، وكانت تخطط له منذ فترة زمنية طويلة، ليظهر أول تجليات هذا العالم الجديد في مؤتمر غوغل I/O الأخير، الذي أوضحت فيه أن مستقبل البحث على محركها سيعتمد على الذكاء الاصطناعي، وهو ما أطلقت عليه ميزة "تجربة البحث التوليدي" (Search Generative Experience). لن تعتمد الشركة بالكامل على روبوتات المحادثة، ولن تعيد تصميم صفحتها الرئيسية في البحث لتبدو أشبه بصفحة الحوار مع روبوت "شات جي بي تي"، لكنها بدلا من هذا ستضع إجابة الذكاء الاصطناعي عن السؤال في أعلى صفحة نتائج البحث الحالية. (3)
عندما يكتب المستخدم سؤالا في مستطيل بحث غوغل، ستظهر نتائج البحث العادية في غوغل كالمعتاد، ولكن سيظهر أعلاها مستطيل باللون البرتقالي، وبعد بضع ثوانٍ سيظهر داخله إجابة مختصرة عن السؤال كتبها الذكاء الاصطناعي. إلى اليمين، هناك ثلاثة روابط لمواقع تحتوي على معلومات تؤكد ما ورد في هذا الملخص.
هكذا سيصبح الشكل الجديد لصفحة نتائج بحث غوغل في المستقبل القريب، الذكاء الاصطناعي أولا، وليست روابط زرقاء من عدة مواقع على الإنترنت كما تعودنا على مدار 25 عاما مضت. ذكاء اصطناعي يدعمه واحد من نماذج اللغة الكبيرة الأكثر تطورا حتى الآن، وهو نموذج "PaLM 2″، وكذلك النموذج الموحد متعدد المهام "MuM" الذي تستخدمه غوغل لفهم أنواع متعددة ومختلفة من الوسائط.
خطة تغيير قديمة
الرسم البياني المعرفي (Knowledge graph
الرسم البياني المعرفي (Knowledge graph) (شترستوك)
كانت غوغل تسير بخطى ثابتة على هذا الدرب منذ مدّة طويلة، فكانت تدفع باستمرار تجاه تغييرات في واجهة المستخدم لتقدم إجابات عن الأسئلة المطروحة في صفحة البحث نفسها، بدلا من تقديم الإجابة بالطريقة التقليدية من أحد المواقع على شبكة الإنترنت التي تظهر في نتائج البحث العادية.
تلك التغييرات شملت الرسم البياني المعرفي (Knowledge graph)، وهو قاعدة بيانات ضخمة من المعلومات تُمكِّن غوغل من تقديم إجابات فورية وصحيحة عن بعض أسئلة المستخدم، التي تظهر عندما يبحث عن حقائق أو أشخاص أو أماكن بعينها، وتحدث هذه العملية داخل صفحة بحث غوغل، دون الحاجة إلى الانتقال أو الضغط على روابط أي موقع آخر. (4)
هذا بجانب المقتطفات المميّزة (featured snippets)، والمعروفة باسم النتيجة صفر، وهي نتيجة تظهر في أعلى صفحة البحث، تهدف إلى تزويد المستخدم بإجابة مباشرة عن سؤاله دون الحاجة إلى الضغط على رابط الموقع الذي يقدم تلك الإجابة. (5) تلك التغييرات تدفع بنتائج البحث التقليدية بعيدا عن الجزء الأعلى من صفحة البحث، لكنها مفيدة غالبا في الحصول على إجابة سريعة لسؤال بسيط، وهو كل ما ترغب في الحصول عليه من عملية البحث في هذه الحالة.
لكن لماذا سيحدث هذا التغيير في أسلوب البحث على الإنترنت عبر محرك غوغل؟ أو بمعنى آخر، لماذا يقرر المستخدم أن يتجه إلى أساليب وأماكن أخرى للبحث عن المعلومات؟
لِمَ أصبح محرك بحث غوغل بهذا السوء؟
الشكوى حول تدهور جودة نتائج بحث غوغل بدأت تكتسب بعض الزخم على مدار السنوات القليلة الماضية. (شترستوك)
بحث غوغل أدى بطبيعة الحال إلى تغيير جذري في شبكة الإنترنت وفي الأسلوب الذي نصل به إلى المعلومات والحقائق في العالم من حولنا. سيطرته الهائلة على حياتنا نقلته من مجرد فهرس رقمي، يملك خوارزميات تمشّط صفحات ومواقع الإنترنت المختلفة، ليصبح مرادفا لفعل البحث عن أي معلومة لها وجود رقمي. ربما تحول في حد ذاته إلى كيان هائل المعرفة في مخيلتنا البشرية.
رغم كل تلك السيطرة، فإن الشكوى حول تدهور جودة نتائج بحث غوغل بدأت تكتسب بعض الزخم على مدار السنوات القليلة الماضية. (6) بالطبع هناك عدة أسباب لهذا، أهمها هو تدهور جودة المحتوى نفسه على الإنترنت بصورة عامة، لكن حتى هذا السبب كان لبحث غوغل دور أساسي فيه.
ما وعدتنا به غوغل عند بدايتها هو تنظيم معلومات العالم القيمة، ولكن على مدار الربع قرن الماضي، حدث العكس؛ نُظم قدر هائل من معلومات العالم لكي يناسب محرك بحث غوغل، أو ليحجز مكانه في نتائج الصفحة الأولى لهذا الفهرس العملاق.
المشكلة الأولى هنا هي كثرة الإعلانات، التي قد تحتل النصف الأول من صفحة نتائج البحث على غوغل، ببساطة لأن الإعلانات هي مصدر الدخل الأعلى ربحية بالنسبة لشركة ألفابت، الشركة الأم لشركة غوغل، ففي عام 2022، وصلت عائداتها من الإعلانات إلى 224 مليار دولار، وهو ما يُمثِّل نحو 80% من إجمالي إيراداتها خلال العام نفسه. (7)
المشكلة الثانية، التي صنعتها الشركة بنفسها، هي تضخم وحش تقنيات تحسين محركات البحث (SEO)، هذا الوحش الهائل، إن جاز لنا التعبير، بدأ يأكل تجربة المستخدم في البحث بالكامل، وهو ما ستلاحظه بنفسك عند البحث على غوغل عن أي شيء تقريبا. على هذا النحو، أعادت غوغل تشكيل طبيعة المحتوى على مواقع الإنترنت؛ أصبح هناك سباق لا ينتهي بين المدونات ومواقع الأخبار وصانعي المحتوى، وأي شخص يريد أن يبيع منتجا ما، ليتأكدوا من احتلال عنوان موقعهم ترتيبا في أول صفحة بحث في محرك غوغل، ليتحول معها إلى ما يشبه سوقا رقميا هائلا.
بمرور الوقت، وُلد اقتصاد كامل قائم على هذه الصناعة؛ من الصعب تحديد حجم الاقتصاد القائم على بحث غوغل فقط، ولكن وفقا لتقرير التأثير الاقتصادي لخدمات الشركة المختلفة للعام الماضي 2022، ساهم بحث غوغل ومتجر غوغل بلاي للتطبيقات ويوتيوب والخدمات السحابية وأدوات الإعلانات في إنتاج أكثر من 700 مليار دولار في صورة أنشطة اقتصادية لملايين الشركات والمنظمات غير الربحية والناشرين وصناع المحتوى والمطورين في أميركا وحدها. (8)
المستخدم أصبح يثق بدرجة أقل في النتائج التي تعرضها صفحة البحث مقارنة برؤية تجارب إنسانية.
المستخدم أصبح يثق بدرجة أقل في النتائج التي تعرضها صفحة البحث مقارنة برؤية تجارب إنسانية. (شترستوك)
هناك مواقع تتخصص فقط في كتابة مقالات تستهدف تقنيات محركات البحث لتحتل النتائج الأولى عبر استهداف كلمات مفتاحية يبحث عنها المستخدم فعلا، ولهذا هناك وظائف مخصصة بالكامل لفهم كيف يصنف بحث غوغل الصفحات، وكيف تعمل خوارزميات البحث وغيرها من الأمور التقنية المعقدة الأخرى.
لا تكمن المشكلة في أن تقنيات أو خوارزميات البحث أصبحت أسوأ، بل في كون المستخدم أصبح يثق بدرجة أقل في النتائج التي تعرضها صفحة البحث مقارنة برؤية تجارب إنسانية في مقاطع فيديو على يوتيوب أو تيك توك، أو مناقشات حية على مواقع التواصل الاجتماعي وأشهرها في هذه النقطة هو موقع "ريديت" (Reddit)، الذي يُضيفه المستخدم بعد طرح أي سؤال في بحث غوغل، لتظهر له النتائج من موقع "ريديت" تحديدا وليس من المواقع الأخرى التي تتصدر نتائج البحث.
على سبيل المثال، عندما يبحث المستخدم عن مراجعات لهاتف ذكي جديد، أو أي منتج آخر ينوي شراءه، فغالبا ما يحدث فعليا أنه يبحث عن تلك المراجعات على مواقع يجد بها أشخاصا أو مستخدمين مثله، أو يبحث عن مشاهدة تجربة حية للجهاز في مقاطع فيديو على يوتيوب، ببساطة لأنه يرغب في أن يرى ما يتحدث عنه الأشخاص الحقيقيون والمتحمسون لشراء هذا المنتج، بدلا من أن يقرأ أفضل 10 نتائج في صفحة بحث غوغل الأولى، التي غالبا ما تكون مراجعات مدفوعة من الشركة مصنّعة الهاتف، وتُعلن عن مزاياه على أي حال، دون التطرق إلى تجربة إنسانية حقيقية.
بالطبع تلك الآراء على مواقع التواصل الاجتماعي شخصية، وقد تكون آراء خاطئة في المنتج بناء على تجربة هذا الشخص أو ذاك، لكنها تظل في النهاية مناقشات أكثر واقعية بالنسبة للمستخدم، وأفضل من النتائج التي تظهر من مواقع على شبكة الإنترنت. ربما مع محركات بحث مدعومة بإجابات الذكاء الاصطناعي يتوقف هذا الأمر، وتعود المواقع والمدونات إلى تقديم محتوى يركز على الجودة أكثر، ويهتم بالمستخدم ويقدم تجربة إنسانية حقيقية!
تجربة بحث مختلفة
الأمر المختلف في تلك الأنظمة الجديدة أنها تستفيد من قوة التواصل مع الآخرين؛ فكرة الرد على أسئلتنا في المحادثة والتفاعل معنا هو أسلوب اعتدناه خلال العقد الماضي بفضل تطبيقات المحادثات المختلفة، مثل واتساب وماسنجر وغيرها، وهو ما أكده سوندار بيتشاي، الرئيس التنفيذي لشركة ألفابت، في مقابلة مع صحيفة "وول ستريت جورنال" في شهر أبريل/نيسان الماضي، مشيرا إلى أن هذه هي رؤية الشركة لمستقبل محرك بحث غوغل، عبر التفاعل مع المستخدم في محادثة للإجابة عن أسئلته. (9)
وبالنظر إلى تطبيقات التواصل الاجتماعي، سنجد أنها غيرت فعلا من علاقتنا بالبحث على الإنترنت، وهناك جيل جديد يبحث عن معلوماته في تيك توك، أو صور إنستغرام، أو فيديوهات يوتيوب، إذ يرى كثيرون أن هذه الوسائل تقدم تجارب إنسانية مرئية أفضل من النتائج التي قد يجدونها على صفحة بحث غوغل كما ذكرنا.
في صفحة بحث غوغل الجديدة، ستظهر ثلاث بطاقات على يمين الإجابة الملخصة من الروبوت، تلك البطاقات تحتوي على روابط من صفحات لمواقع مختلفة تؤكد إجابته عن السؤال. لكن إن حصلت على الإجابة، فسوف تسأل نفسك السؤال المنطقي التالي: لماذا أضغط على تلك الروابط التي ستؤدي بي إلى إحدى الصفحات على موقع إنترنت آخر؟
هذا الانتقاد لا يُوجَّه لمحرك بحث غوغل الجديد فحسب، لأن روبوت المحادثة الخاص بمحرك بحث "بينغ" يعرض روابط المصادر لعدد من المواقع التي تؤكد إجابته عن السؤال أيضا، ولكن ما إذا كان المستخدم يضغط على هذا الرابط أم لا، ويضغط عليه بمعدل مفيد للموقع، يظل أمرا مبهما حتى الآن. ولكن إذا اعتبرنا أن الهدف من وراء محرك البحث الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي هو ببساطة تلخيص المعلومات وعرض أهمها في إجابة واحدة، فإن هذا سيقضي على احتمالية أن تحتاج إلى قراءة المزيد عن الأمر، خاصة إن كنت تبحث عن معلومة سريعة ومحددة. هذا يقودنا إلى نقطة التأثير على منظومة الإعلانات والمواقع التي تعيش على مكاسبها.
قد يحتاج اقتصاد صناعة المحتوى والتسويق إلى إعادة هيكلة إستراتيجياته لمجاراة هذا التغير الجديد في سلوك المستهلك، وعدم انتقاله إلى صفحة الموقع بعدما يأخذ ما يريد من معلومات من داخل صفحة غوغل، والبحث عن وسائل جديدة لتطوير جودة المحتوى، لأن هذا ما ستعتمد عليه النماذج اللغوية الكبيرة في تلخيص الإجابات فيما بعد. لكن هنا تكمن المشكلة، هل يمكن الوثوق في محتوى يقدمه الذكاء الاصطناعي، خاصة إن كان هو مصدرنا الوحيد للمعلومات؟
تأثير خفي
يُعَدُّ بحث غوغل مفيدا ومتوغلا للغاية في كل جوانب حياتنا الآن، لدرجة يصعب معها أن نلاحظ تأثيره الهائل علينا. يمكننا أن ندرك بسهولة تأثير بعض المنتجات التقنية على حياتنا، مثل الهواتف الذكية أو وسائل التواصل الاجتماعي، ومع ذلك فإن الأمر يختلف مع بحث غوغل، ورغم كونه أحد أكثر الأعمال التجارية ربحا على الإطلاق، فإننا لا نستطيع حقا إدراك حجم تأثيره بدقة.
كتاب "شبكة الإنترنت الخاصة بنا: معرفة أكثر وفهم أقل في عصر البيانات الكبيرة"
كتاب "شبكة الإنترنت الخاصة بنا: معرفة أكثر وفهم أقل في عصر البيانات الكبيرة"، لأستاذ الفلسفة "مايكل لينش". (مواقع التواصل)
في كتابه "شبكة الإنترنت الخاصة بنا: معرفة أكثر وفهم أقل في عصر البيانات الكبيرة" (10)، يبدأ أستاذ الفلسفة مايكل لينش بسرد تجربة فكرية: تخيل مجتمعا حيث تصغر الهواتف الذكية جدا، ويمكن زرعها مباشرة في دماغ الشخص كشريحة. وعندما يفكر الشخص في حقيقة ما، فسوف تخبره الشريحة بالجواب المناسب، بالتأكيد لا علاقة لهذا بالفيلم المصري "اللمبي 8 جيجا" إن كنت تتساءل.
المهم تخيل الآن بعد أن تعيش أجيال وأجيال بهذه الشريحة المزروعة، وتكبر تلك الأجيال وهي تعتمد عليها اعتمادا كاملا لمعرفة ما يعرفونه، لدرجة أنهم ينسون كيف كان يتعلم الناس في الماضي: عن طريق الملاحظة، والبحث الدقيق، والاعتماد على المنطق والتفكير النقدي.
ثم تخيل هذا: في لمح البصر تحدث كارثة بيئية تدمر شبكة اتصالات الكوكب الإلكترونية، وتُدمّر معها كل الشرائح المزروعة داخل أدمغة الناس، وكأن العالم كله أصبح فجأة أعمى. لن يكون هناك طريقة لإثبات الحقائق، ولن يعرف أحد أي شيء بعد الآن، لأنه ببساطة لا يعرف كيف يعرف!
يعتقد لينش أننا قريبون جدا من الوصول إلى هذه النقطة، إذ لا يمكننا رؤية الحقائق، ولم نعد قادرين على اكتساب المعرفة، وهو يرى أننا الآن بالفعل لم نعد قادرين على الاتفاق حول كيف نعرف. كل هذا بوجود طرق البحث العادية على الإنترنت وتوفر المعلومات لدينا، فكيف سيصبح الوضع إذا استبدلنا محركات البحث القائمة على الذكاء الاصطناعي بتلك الشرائح في تجربة لينش الفكرية؟
احتكار الحقيقة
من الواضح أن البشر يثقون في معلومات الذكاء الاصطناعي أكثر مما يثقون في معلومات بني جنسهم، لأننا غالبا ما نتصور أن أنظمة الذكاء الاصطناعي موضوعية، ولا تتضمن إجاباتها تحيزا مسبقا
من الواضح أن البشر يثقون في معلومات الذكاء الاصطناعي أكثر مما يثقون في معلومات بني جنسهم، لأننا غالبا ما نتصور أن أنظمة الذكاء الاصطناعي موضوعية، ولا تتضمن إجاباتها تحيزا مسبقا. (شترستوك)
عندما نواجه إجابة من روبوت، أو عندما نتخيل أن هناك نوعا من الأتمتة يحدث في الخلفية لإنتاج تلك الإجابة، فإننا نميل إلى تصديق الآلة بسهولة، وهو ما حاولت إثباته دراسة من إحدى الجامعات البولندية الكبرى في عام 2020، التي ذكرت أن أكثر من 85% من المشاركين في التجارب تجاهلوا سلوك الروبوت، حتى وهو ينتج إجابات خاطئة عن عمد، واعتبروه مرجعا موثوقا لاتخاذ قراراتهم. (11)
بالطبع، نحتاج إلى مزيد من الأبحاث والدراسات لكي نفهم تلك الظاهرة البشرية الجديدة بصورة أفضل، ولكن من الواضح أن البشر يثقون في معلومات الذكاء الاصطناعي أكثر مما يثقون في معلومات بني جنسهم، لأننا غالبا ما نتصور أن أنظمة الذكاء الاصطناعي موضوعية، ولا تتضمن إجاباتها تحيزا مسبقا، لكن على أرض الواقع، وبسبب أن تلك الأنظمة تدربت من بيانات ومحادثات بشرية في الأساس، فهي معرضة لما يتعرض له البشر من تحيز وعيوب أخرى.
يمكن تخفيف حِدّة هذه المشكلة بسهولة إذا أخذت تلك المنتجات وقتها الكافي في الاختبار والفحص قبل طرحها بوصفها منتجات للاستخدام العام، ولكن السرعة الحالية والسباق المحموم بين غوغل ومايكروسوفت تسبب في تسريع عملية دمج منتجات الذكاء الاصطناعي في معظم خدماتهما، وبالطبع الخدمة الأهم والأكثر ربحا هي البحث على الإنترنت.
المشكلة الأخرى أن تلك النماذج اللغوية الكبيرة هي أنظمة ذكاء اصطناعي تدربت على التعرف على الأنماط في عدد هائل جدا من النصوص على الإنترنت، مثل الكتب والمحادثات والمقالات وغيرها، ثم تتدرب أكثر بمساعدة بشرية لتقدم محادثة وإجابات أفضل للمستخدم. لكن رغم أن الإجابات التي نحصل عليها قد تبدو مقنعة وحتى موثوقة، فإنها قد تكون إجابات خاطئة تماما، وهو ما يُطلق عليه "الهلوسة" (hallucination). تحدث تلك الهلوسة الاصطناعية عندما يُجيبك الروبوت إجابة واثقة لكن لا يوجد لها مبرر في تلك البيانات التي تدرب عليها، وقد اشتُق المصطلح من المفهوم النفسي للهلوسة في العقل البشري بسبب الصفات المشتركة بينهما. المشكلة في هلوسة الروبوتات أن الإجابة قد تبدو مقنعة وصحيحة ظاهريا لكنها خاطئة في الواقع. (12)
محركات البحث الجديدة
المفترض أن محرك البحث يعمل فهرسا لتنظيم المعلومات، كأي محرك بحث يحترم نفسه، ولا يجب أن يعمل بوصفه دائرة معارف تقدم المعلومة بنفسها.
المفترض أن محرك البحث يعمل فهرسا لتنظيم المعلومات، كأي محرك بحث يحترم نفسه، ولا يجب أن يعمل بوصفه دائرة معارف تقدم المعلومة بنفسها. (شترستوك)
الآن ستأتي تلك الإجابات من صفحة البحث نفسها، لهذا ستقع مسؤولية إثبات صحتها على غوغل، وليس على صفحات مواقع الإنترنت المختلفة التي تقدم هذه المعلومات أو الإجابات، والتي يمكنك بالطبع التحقق من مصداقيتها كما كان الحال في السابق.
ربما يصلح هذا الأمر مع بعض الأسئلة البسيطة، مثلا معرفة متى وُلد "ليونيل ميسي" أو أين يلعب الآن، وأشياء بسيطة من هذا القبيل. لكن بالنسبة للأسئلة أو المشكلات المعقدة، مثل البحث عن الأمور التي تخص الصحة والحياة، أو شراء سلعة غالية الثمن، أو البحث عن نصائح وتجارب الآخرين في أمور مختلفة، فكلها تتطلب حكما شخصيا قائما على تجارب موثوقة، وغالبا لن تكفي إجابة واحدة ملخصة من نماذج الذكاء الاصطناعي.
اتباع هذا النهج الجديد سيؤدي غالبا إلى المخاطرة بتضاؤل جوهر نجاح محرك بحث غوغل؛ لم نعتد أن تكمن قوة غوغل في تقديم إجابات مباشرة لأسئلتنا، ولكن في مساعدتنا على سهولة اكتشاف المعلومات بأنفسنا كما وعدنا. المفترض أن محرك البحث يعمل فهرسا لتنظيم المعلومات، كأي محرك بحث يحترم نفسه، ولا يجب أن يعمل بوصفه دائرة معارف تقدم المعلومة بنفسها، لذا ينبغي ألا يؤثر على إمكانيات البحث الخاصة به في سبيل توفير نتائج وإجابات فورية.
هذه المشكلات، وإن لم تكن واضحة الآن، ستتفاقم عندما تبدأ محركات البحث الجديدة في الانتشار، ويتغير معها سلوكنا في البحث والحصول على المعلومات، لأننا غالبا لن نحصل على نتائج بحث تقليدية بروابط من عدة مواقع على الإنترنت، يمكننا معها أن نقيم جودة المحتوى والمعلومات، ونبحث أكثر عن الحقائق. بدلا من هذا، سينتج لنا الذكاء الاصطناعي إجابة واحدة مختصرة يقدمها لنا بوصفها حقيقة موضوعية، مع عدد قليل من الروابط التي تؤكد تلك الإجابة، فكيف سيغير هذا علاقتنا بالبحث على الإنترنت، بل وعلاقتنا بما هو حقيقي من الأساس؟
في النهاية، ربما سيختفي بحث غوغل بالشكل القديم الذي اعتدناه، وربما سيتفرّق اقتصاد البحث على الإنترنت على أكثر من لاعب في المجال، وينتقل المستخدم بين محركات بحث جديدة بالذكاء الاصطناعي، أو محركات بحث تيك توك ويوتيوب. هذا المستقبل سيكون مثيرا بالتأكيد، والأهم أن هذا التنافس ربما يساهم في صناعة محتوى أكثر جودة وموثوقية فعلا، أو هكذا نتمنى على الأقل. لكن المؤكد أن طريقة البحث التي اعتدناها على مدار العقدين الماضيين سوف تتغير نهائيا، ربما إلى الأبد.