طيف التوحد: قصة طفل مصري يتحدث عدة لغات ولكنه لا يجد مدرسة تقبل به
جو 24 :
في أي عمر بدأتم النطق؟ وهل تعلمتم لغة أجنبية أو عزف الموسيقى أو الرسم؟ جميعنا نختلف في العمر الذي بدأنا فيه القيام بهذه الأمور أو بعضها، لكن معظمنا التحق بالمدرسة لأول مرة في نفس العمر تقريبا.
أمّا نوح فيختلف عنّا في كل شيء تقريبا، فرغم أنه أجاد عدة لغات والعزف والرسم في عمر أبكر من أقرانه، إلا أنه لا يستطيع الالتحاق بمدرسة مثلهم، كما تقول أسرته.
نوح طفل مصري يبلغ ثمانية أعوام، وتقول أسرته إنه يؤلف أعمالا موسيقية بمساعدة أحد برامج الكمبيوتر ويشاركها مع متابعيه عبر قناته على يوتيوب.
كما يؤلف مقاطع فيديو للشخصيات الكارتونية التي يحبها، ويضع عليها أصواتا وحوارا مختلفا عن الحوار الأصلي، كما يرسم زهورا وشخصيات كارتونية ويلونها، وإلى جانب ذلك كله "يتحدث لغات عدة تعلمها جميعا بمفرده عبر يوتيوب".
ومع هذا تقول جدته حياة جاد، إنها لا تجد له مكانا في أي مدرسة في مصر.
فنوح مصاب باضطراب طيف التوحد، ويعانى من متلازمة إسبرغر.
ويجد المصابون بهذه المتلازمة صعوبة في التفاعل الاجتماعي وفي التكيّف مع الحالات الشعورية المختلفة، فمثلا لا يستطيعون البقاء في أماكن صاخبة، كما يخجلون أحيانا ويخافون من وجود عدد كبير من البشر حولهم، وأحيانا يعجزون عن الكلام تماما، وأحيانا تنتابهم حالات تدفعهم إلى البكاء أو الضحك لأسباب غير مفهومة للآخرين.
نوح يستطيع الكلام ويتحدث بطلاقة كما هو واضح من المقاطع المصورة له، كما يُعرّف نفسه بلغة إنجليزية سليمة.
الحق في التعليم
وتقول حياة جدة نوح إن حفيدها يتحدث عدة لغات بطلاقة، منها الإنجليزية واليونانية واليابانية والإسبانية، لكن ليس من بينها اللغة العربية التي يعرف منها كلمات قليلة وحسب. وتضيف: "لقد تعلم هذه اللغات عن طريق يوتيوب عبر ترجمتها للغة الإنجليزية التي بدأ يتحدثها بطلاقة وهو في الثانية من عمره".
وبدأت رحلة البحث عن مدرسة تقبل نوح مبكرا بحسب الجدة، وقالت حياة لبي بي سي "بمجرد التقديم في أي مدرسة، ومعرفة المسؤولين في المدرسة أنه مصاب بالتوحد، كانوا يرفضون ضمه للصفوف ويتحججون إما بأنه مصاب بالتوحد بشكل مباشر أو بأنه لا يتحدث الإنجليزية مثلا على الرغم من إجادته لها، وغيرها من الأمور غير المنطقية، ولأنه أصغر من السن المطلوب، أو أكبر من السن المفترض ليلتحق بالمدرسة، واستمر هذا الأمر لسنوات".
بحسب القانون المصري تتبنى وزارة التربية والتعليم، برنامجا لدمج الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة بالمدارس، وبينهم مصابو التوحد بمختلف حالاته، طبقا للقانون رقم 10 لسنة 2018 بشأن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.
وبحسب جدة نوح، لا يتم تنفيذ هذه المادة من القانون على أرض الواقع .
وأطلقت حياة، جدة نوح، حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت شعار "حق نوح في التعليم" بهدف جذب الانتباه لمعاناة حفيدها.
وتقول حياة لبي بي سي: "الكثير من الأسر تفاعلوا مع الوسم الخاص بنوح، وحكوا لي عن تجارب شبيهة، فهناك من رُفض أبناؤهم في المدراس الحكومية بسبب إصابتهم بالتوحد، بل وحتى حينما تنجح بعض الأسر في إدراج أبنائها في برامج الدمج بالمدارس الحكومية بعد إخفاء حقيقية حالة الطفل يكون الذهاب للمدرسة بلا قيمة، إذ لا توجد برامج مخصصة لتعليمهم ولا يهتم به أحد".
وفي حالة الكشف عن حالة الطفل والنجاح في ضمه لمدرسة يعاني الطفل الذي يعاني من التوحد من التنمر، وإهمالٍ من جانب المدرسين، وشكوى دائمة من جانب بعض المدرسين وأولياء الأمور مما يدفع الأسر لإخراج أطفالهم من المدارس وإبقائهم في البيت.
وتضطر بعض الأسر ميسورة الحال إلى اللجوء إلى المدراس الخاصة بدلا من المدارس الحكومية، لتعليم أطفالها، وهو ما حاولت حياة فعله لكنها لم تستطع سداد المصروفات المرتفعة للغاية، بحسب قولها.
نفس المعاناة عاشتها فاتن مع ابنها محمود المصاب بالتوحد، لكن في الإمارات.
بدأت فاتن رحلة محاولة إلحاق ابنها بالمدرسة قبل 15 عاما، ويبلغ محمود الآن 20 عاما.
تقول فاتن لبي بي سي: "كانت رحلة مؤلمة ومريرة، لم تقبل أي مدرسة خاصة في الإمارات ضم محمود لصفوفها، و بشق الأنفس قبلت مدرسة ضمه لعامين فقط عندما أدارت المدرسة مديرة بريطانية، استطعت وقتها ضمه لصفوف الحضانة أو ما قبل المدرسة وبمجرد رحيل المديرة عن المدرسة، طُلب مني بشكل مباشر نقله لمدرسة أخرى".
"ثروة لتعليم طفل"
"رغم المصروفات الفلكية، كانت تجربة محمود في المدرسة صعبة للغاية، لم يكن هناك وعي من جانب المدرسات بشأن كيفية التعامل معه، فمثلا لم يتم منحه شهادة للتخرج من مرحلة ما قبل المدرسة و التى يتم منحها لأقرانه بحجة أنه لم يتخرج، كما رفضت المدرسات إشراكه في حفل التخرج الخاص بالأطفال في عمر ما قبل المدرسة، وهو ما أثر في حالته النفسية كثيرا وجعله يشعر أنه مختلف عن أقرانه"، بحسب فاتن.
وإلى جانب المصروفات المرتفعة فإن المدارس التى يمكن أن تقبل بعض الأطفال من ذوي الإعاقة نادرة للغاية. فمن بين المدارس الخاصة النادرة التي يمكن ضم نوح وغيره من مصابي التوحد في مصر إليها، فإن المدرسة الأقرب لمنطقته السكنية على بعد عشرات الكيلومترات من بيته، وهو ما جعلها خيارا غير مقبول حتى عند محاولة تدبير النفقات التي يحتاجها للالتحاق بهذه المدرسة.
نوح هو الابن الأكبر لأمه ويعانى أخوه الأصغر يونس من التوحد أيضا لكن حالته متأخرة نوعا ما بسبب اعتلال صحته، بحسب الجدة، ولا يتجاوز دخل العائلة شهريا 3000 جنية مصري أي ما يعادل نحو 123 دولارا.
وإلى جانب الأدوية يحتاج نوح وأخوه إلى الالتحاق بجلسات تدريب وعلاج سلوكي مخصصة لهما وهي أيضا باهظة الثمن.
اكتفت والدة محمود، فاتن وهي لبنانية مقيمة في الإمارات بإدراج ابنها في مركز خاص لتعليم الأطفال المصابين بالتوحد ولم تكرر تجربة المدرسة مرة أخرى.
وتقول: "تكلفة الجلسات السلوكية التى يواظب عليها مصابو التوحد طوال حياتهم مرتفعة للغاية، ولولا أن زوجي ميسور الحال لما تمكنا من سداد هذه الرسوم ومع ذلك لم نتمكن من إدراجه في مدرسة لارتفاع التكاليف".
والمشكلة الأكبر بحسب جدة نوح أنه حتى المدارس الخاصة الباهظة الثمن ليست لديها برامج مخصصة للتعامل مع حالة نوح.
وبالتالي تخشى جدته أن يتم إدراجه في الفصول الدراسية بشكل "صوري" حيث لا يتم تعليمه، ولا تُنمى مهاراته أو يُراعى اختلافه عن أقرانه، وإنما فقط ضمه لفصل دراسي يتعلم فيه الأطفال بطريقة تقليدية وفقا لمنهج محدد لا يراعي اختلاف نوح.
وتقول حياة: "نوح يتحدث في البيت عن الفضاء وإنقاذ الكرة الأرضية من التلوث، وعمره العقلي أكبر من سنه وأشفق عليه من الإهمال، هذا الطفل يحتاج إلى تعليم حقيقي وبرنامج مخصص يراعي مهاراته وينميها ليتم الاستفادة منه".
وتقول جدة نوح إن حملتها على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام القليلة الماضية نبهت وزارة التربية والتعليم لامتناع بعض المدارس الحكومية عن تنفيذ القانون، وتعهدت الوزارة بضم نوح إلى إحدى المدارس الحكومية، وتخشى الجدة ألا يحل هذا القرار المشكلة حيث "يمكن أن يتم ضمه إلى فصل دراسي وسيكون مطالبا حينها بتحصيل مناهج معينة والخضوع لامتحانات بالطريقة التقليدية التي لا تناسب مهاراته، وبالتالي سيكون نوح قد حصل على حقه في الالتحاق بمدرسة لكنه لازال محروما من حقه في التعليم، أي حقه في أن يخضع لبرنامج يراعي حالته وقدراته".
فما هو التوحد؟
بحسب منظمة الصحة العالمية التوحد فهو مجموعة من الاعتلالات المتنوعة المرتبطة بنمو الدماغ.
وهو حالة عصبية تستمر مدى الحياة وتظهر في مرحلة الطفولة المبكرة.
ويشير مصطلح التوحد إلى مجموعة من الخصائص.
وإن من شأن تقديم الدعم المناسب لهذا الاختلاف العصبي والتكيف معه وقبوله أن يتيح للمصابين به التمتع بتكافؤ الفرص والمشاركة الكاملة والفعالة في المجتمع.
وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أن طفلا من بين كل 100 طفل حول العالم يعاني من اضطرابات طيف التوحد. كما تشير المنظمة إلى أن هذا النوع من الاضطرابات يتزايد عالميا خلال السنوات الأخيرة ما يجعل ضرورة إيجاد حل للتعليم والاستفادة من مهارات هؤلاء الأطفال حاجة ملحة.
وتتباين قدرات المصابين بالتوحد واحتياجاتهم بين حالة وأخرى ويمكن أن تتطور مهاراتهم مع مرور الوقت ويمكن أن تحسن التدخلات النفسية والاجتماعية مهارات التواصل لدي المصابين بالتوحد.
وتقول أسيل القاضي المتخصصة في تعليم الأشخاص المصابين بالتوحد لبي بي سي: "كلما كان التدخل والمساعدة مبكرة، تحسنت الحالة أكثر. لكن المشكلة في العالم العربي ترتبط بعدم توافر المتخصصين الذين يمكنهم الإشراف على تعليم الأطفال المشخصين بالتوحد لأن هذا التخصص صعب ومعقد في دراسته ويحتاج لوقت طويل لإجادته وقد تمتد دراسته لسنوات كما أنه مكلف للغاية، والحصول على شهادة معتمدة تؤهل للعمل في هذا المجال أمر باهظ التكلفة وبالتالي يبتعد عنه الكثيرون".
وعلى ما يبدو فإنه نتيجة لندرة المتخصصين الذين يمكنهم العمل في هذا المجال، ترتفع تكلفة تعليم الأطفال المشخصين بالتوحد في العالم العربي، وهو ما لا تستطيع معظم الأسر تحمله وغالبا لا يحصل هؤلاء الأطفال على تعليم يُذكر.
ويصعب تحديد عدد الأطفال المصابين بالتوحد في العالم العربي نظرا لاختلاف معايير التشخيص وأيضا قلة عدد المتخصصين في التعامل مع هذا النوع من الاضطرابات، وهو ما يمكن تفسيره بغياب الإحصاءات المرتبطة بمعظم الاضطرابات النفسية والدماغية في العالم العربي بشكل عام.
لكن بحسب تصريحات لوزيرة التضامن الاجتماعي السابقة في مصر غادة والي في عام 2018، فإن عدد المصابين بالتوحد في مصر يتراوح بين 800 ألف إلى مليون شخص.
وبحسب القاضي، المتخصصة في مجال تعليم الأطفال المشخصين بالتوحد فإن تعليم هؤلاء الأطفال مهمة صعبة إذ تختلف حالاتهم و قدراتهم على التحصيل الدراسي كما تختلف مهاراتهم، وبالتالي تحتاج أحيانا كل حالة لمدرس مختص وبرنامج متخصص في التعامل معها على حدة.
"مدرس في البيت"
وتقول فاتن لبي بي سي: "كان محمود طفلا طبيعيا حتي صار عمره عامين، وقتها بدأ يضعف بصره وبدأت ألحظ عليه علامات كالدوران حول نفسه واللعب بالطريق نفسها واللعب دائما بمفرده بالسيارات، توجهت فورا للطبيب ولم يكتشف أحد في البداية مشكلة محمود، شهور طويلة حتى اكتشف طبيب أن ابني مصاب بالتوحد وقتها شعرت بالراحة لأني أخيرا عرفت ماذا أصاب ابني".
وتضيف فاتن أنها طلبت من الطبيب أن يصف لها الدواء، لكنها اكتشفت أن التوحد ليس مرضا وأنه لا دواء له، وإنما هناك إجراءات ومحاولات لتحسين وتطوير قدرات المشخصين به، ومنذ ذلك الحين بدأت رحله فاتن في تعليم محمود بنفسها.
واضطرت فاتن لأن تتفرغ بالكامل لابنها الأكبر محمود وتركز على تعليم نفسها أولا عن التوحد ثم القراءة عن كيفية تعليمه و تخصصت في مجال التربية الخاصة ودرست كمحللة سلوك مختصة في التعليم الخاص بالأطفال المشخصين بالتوحد، وهى بصدد الحصول على دبلوم معتمد في هذا المجال.
"ويبرع محمود في عزف البيانو كما يرسم لوحات غاية في الروعة، وحصل هذا العام على ميدالية في الأولمبياد الخاصة بذوي الإعاقة والتي أقيمت على المستوى الوطني في الإمارات حيث نسكن" تقول فاتن.
واضطرت فاتن أن تلحق محمود بمركز متخصص وليس بمدرسة لتعليم ابنها، لكن عندما بلغ عمر الـ 16 قررت إلحاقه بمدرسة، "قررت تحمل هذه التكاليف الخرافية لمدة عامين على أمل تأهيله للمجتمع فالمركز في النهاية يضم عددا قليلا من الأشخاص أما المدرسة فأكبر، وفي عمر الـ 18 سيحتاج للاندماج في المجتمع بشكل أكبر حيث إنه في عمر الخروج للحياة العملية ولم يعد طفلا".
تطورت مهارات محمود عبر السنوات بحسب فاتن وأصبح بإمكانه الاعتماد بالكامل على نفسه كما تقوم والدته الآن بإعداده لدخول سوق العمل وتدريبه مهنيا.
وأصبح محمود قادرا إلى حد كبير على التعامل مع الأشخاص الآخرين كإخوته الأصغر منه وهو ما لم يكن قادرا عليه في السابق.
يقوم محمود بإنتاج مجموعة من المقاطع المصورة على فيسبوك يدون فيها يومياته ومشاعره ويشاركها مع آخرين، كما يحتفل فيها مع متابعيه بالمناسبات كالمولد النبوي وعيد الفطر.
وتقول فاتن إنها تحاول عبر هذه الصفحة تقديم بعض النصائح للأمهات اللاتي لديهن أطفال مشخصون بالتوحد حول كيفية التعامل معهم وتعليمهم، "فطريق التعامل مع طفل مشخص بالتوحد طويل وصعب ويحتاج الكثير من الدعم".
وبرغم أن أسرة نوح تحاول من جانبها توفير كل سبل تعليمه في المنزل كما فعلت فاتن مع محمود، إلا أن الأسرة تأمل بحلٍ للحصول على مساعدة متخصصة له ولأقرانه بأسعار في متناولهم وألا تبقى مسألة تعليم الأطفال المصابين بالتوحد مرتبطة بـ "الجهود الذاتية" للأسر حسب فاتن وحياة.