بعضهم أكل لحوم البشر والفئران والخفافيش.. مغامرون على الخط الفاصل بين الموت والحياة
جو 24 :
في العام 1994، شارك العداء الأولمبي الإيطالي ماورو بروسبيري في "ماراثون دي سابل" المغربي في الصحراء الكبرى، وهي أكبر الصحاري الحارة في العالم بمساحة تفوق 9 ملايين كيلومتر مربع، وتحتل الجزء الأكبر من شمال أفريقيا.
ويُعد"ماراثون دي سابل" (Marathon des Sables) بالصحراء المغربية أحد أصعب الماراثونات على وجه الأرض، إن لم يكن أصعبها، إذ يقطع المتسابق نحو 251 كيلومترا وسط الرمال موزعة على 6 مراحل، ومن ضمنها مرحلة مسافتها 82 كيلومترا وسط الصحراء المغربية بالقرب من الحدود الجزائرية والموريتانية.
ويُسمح لكل متسابق بحمل حقيبة صغيرة فيها بعض الطعام والشراب فقط، ولا يحصل على أي مساعدة من جانب المنظمين أثناء السباق، وتتراوح درجة الحرارة أثناء النهار بين 40 و48 درجة مئوية، وفي الليل بين 13 و20 درجة مئوية، مروراً بتضاريس صعبة، مثل الكثبان الرملية والتلال المرتفعة وسط دوامات الرمال المتحرّكة.
وجرى السباق على ما يرام مع المتسابق بروسبيري (الأولمبي السابق) وكان متقدماً على غيره من المتسابقين، لكنه وجد نفسه فجأة -أثناء إحدى مراحل السباق التي تتميز بوجود كثير من الكثبان الرملية الصغيرة- وسط دوامات الرمال.
ويتذكّر تلك اللحظات بالقول "أخذت الكثبان الصغيرة فجأة تمشي، وكانت الدوامات تشبه رقصة ساحرة في البداية". وقبل أن يعي ما يحدث، وجد بروسبيري نفسه أمام حائط أصفر شاهق الارتفاع من الرمال.
ويضيف "لم أستطع رؤية أي شيء، فقط الرمال، والريح التي تهب بسرعة لتحمل معها مزيداً من الرمال" بحسب ما ذكرت صحيفة "ذا غارديان" (The Guardian) البريطانية قبل أيام.
واستمرت العاصفة الرملية 7 ساعات كان بروسبيري خلالها يحاول الاحتماء، لكنه كان كعصفور يهتز مرتجفاً تحت المطر، والفرق الوحيد أن حبات المطر كانت هذه المرة تتشكل من ذرات الرمال الحارقة.
ويقول "لا يوجد الكثير من الملاجئ في الصحراء. وسط الكثبان الرملية، من الصعب العثور على مكان يحميك".
لذا، استمر الرجل الرياضي في التحرك، فالسكون كان يعني الغرق في الرمال، وكلما تحرك إلى مكان جديد كانت الرمال تغطيه فينتقل إلى مكان آخر. وعندما انتهت العاصفة، لم يتبقَ شيء على الإطلاق من المعالم التي يمكن أن توجّه بوصلته نحو العالم، لقد "جرفت العاصفة الرملية كل نقطة مرجعية.. وتغير المشهد بالكامل".
وتاه بروسبيري تماماً، وحين استيقظ صباح اليوم التالي، وجد الدم وقد تجلّط في عروقه بسبب الجفاف، وعرف أن أمامه أحد خيارين لا ثالث لهما: الموت أو الحياة. وقد اختار لنفسه الحياة. ويصف بروسبيري مشاعره تلك اللحظات "هذه ليست لحظتي. أنا لن أموت هنا. سوف أتجه نحو السحب".
وكان منظمو السباق قد أخبروهم بالاتجاه نحو السحب إذا ضاعوا. وهو بالضبط ما قرّر فعله، ولكن السحب متغيّرة وغير ثابتة. ومع ذلك، تبعها كيفما تغيّرت وتحوّلت.
وكي يبقى على قيد الحياة، اضطر بروسبيري إلى شرب بوله، وقام بمطاردة الفئران والثعابين وأكلها. أكل النمل الكبير أيضاً، ومضغ ما وجده من أوراق الشجر الجافة. وفي إحدى الليالي، امتص دم خفافيش الليل التي وجدها في ضريح قبر تائه وسط الصحراء. وفي الحقيقة، سحق والتهم أي شيء للأكل في طريقه.. وهو يمشي نحو الغيوم.
هل كان خائفاً من الموت؟
يجيب بروسبيري "لقد تعلمت شيئاً. إنها المعاناة التي تجعلك تخاف. إذا كنت لا تعاني.. فلن تخاف" ويضيف "عشت مع الموت خطوة بخطوة، كان بجواري كل يوم. أصبح الموت صديقي. كان قريباً مني. عاش معي. والموت هو من أبقاني حيا، لقد أعطاني القوة حتى لا أستسلم".
بعد 9.5 أيام من الضياع، ورفقة الموت، نجا بروسبيري.. أنقذته فتاة جزائرية صغيرة ترعى الغنم.
أكل لحوم البشر
بروسبيري لم يكن الوحيد الذي واجه الموت ونجا من براثنه، فالحياة تعج بقصص رجال ونساء ضاعوا وسط الصحارى الحارقة أو بين الجبال الشاهقة أو سهوب الثلج والصقيع، لكنهم استطاعوا البقاء على قيد الحياة بصرف النظر عن الظروف القاسية المحيطة بهم.
ولعل القصة الأشهر -في البقاء على قيد الحياة خلال العصر الحديث- حدثت عندما تقطعت السبل بـ 87 شخصاً من المهاجرين الجدد إلى أميركا لمدة 4 أشهر في جبال سييرا بولاية نيفادا الأميركية خلال شتاء عام 1846 القاسي.
وحاصرت الثلوج المتساقطة بكثافة هؤلاء المهاجرين الباحثين عن حياة جديدة في أرض الأحلام بالقرب من بحيرة تروكي، التي تسمى الآن دونر. وكان الجوع وندرة الطعام وسط سهوب الجليد وتلال الثلج يفتك بهؤلاء المهاجرين الواحد تلو الآخر. كما هاجمتهم الأمراض وسط البرد والزمهرير وأصيب عدد كبير منهم بمرض الالتهاب الرئوي، مما أدى إلى وفاتهم.
وبسبب نقص الطعام، بل ندرته، في تلك الأصقاع الباردة، اضطر من تبقى منهم على قيد الحياة إلى أكل لحوم زملائهم الذين ماتوا. وفي النهاية لم يتمكن سوى 48 شخصاً فقط من اجتياز أشهر الشتاء القاسية ليهربوا إلى كاليفورنيا بعد قدوم فصل الربيع. وتعد هذه الحادثة إحدى كبرى المآسي في تاريخ هذه الولاية، والأكثر مأساوية في سجل الهجرة الأميركية باتجاه الغرب، وفق منصة "نيويورك بوست" (nypost).
عاصفة على جبل
ما الذي يمكن أن يحدث عندما تجتمع عليك الوحدة وقلة الأوكسجين ودرجات حرارة قاسية تحت الصفر المئوي، بالإضافة إلى العمى؟ أي إجابة ستخطر ببالك ستكون مؤلمة بكل تأكيد، فكيف إذا كنت وحيداً وسط عاصفة ثلجية على سفح جبل مثل جبل إيفرست؟ الإجابة هي الموت بلا أدنى شك.
ففي 10 مايو/أيار 1996، تم الكشف عن واحد من أكثر الأحداث الكارثية التي سُجّلت في تاريخ إيفرست، بعدما وجد متسلق الجبال بيك ويذر نفسه وحيداً إثر وفاة رفاقه الثمانية وسط عاصفة ثلجية عاتية لفّت الجبل ومن عليه تحت ركامها الهادر.
وبقي ويذر وحيدا ومحاصرا وسط العاصفة ونقص الأوكسجين وحجب الرؤية، بالإضافة إلى الآثار البالغة لعملية جراحية سابقة في القرنية جعلته أعمى عملياً.
ورغم كل الصعاب، تحدى الظروف القاهرة وخرج على قيد الحياة بعد فترة فقد فيها الوعي استمرت 15 ساعة. وحين صحا من غيبوبته، وجد ويذر أن الصقيع قد قضم يديه، وبعض أصابع قدميه وأنفه وأجزاء من خديه، وأدرك أن خياراته محدودة جداً، فإما موت وإما حياة، واختار الحياة.
ومع ضوء النهار الباهت بعد انتهاء العاصفة، أخذ ويذر يزحف على الجليد حتى وصل إلى معسكر المجموعة، متهالكا ومنهكا تماما.
ونجا من الموت، ولكنه لم يعد سالما أبدا، إذ فقد يديه الاثنتين بسبب قضمة الصقيع التي أصابتهما. كما تشوّه وجهه بسبب درجات الحرارة القاسية. وقد حول الكاتب جون كراكر هذه المحنة المروعة إلى كتاب من أكثر المؤلفات مبيعاً تحت عنوان "في الهواء الطلق" (Into Thin Air).
(الجزيرة نت)