"تحيا فلسطين وتسقط الصهيونية".. الأغنية السويدية التي اكتسحت ميادين العالم
من هناك، في شبه الجزيرة الإسكندنافية بشمال أوروبا، ومن مدينة غوتِنبِرغ السويدية الباردة، انطلقت الأغنية التي أشعلت قلوب الناس في شتى أنحاء أوروبا والولايات المتحدة بحماس لعلهم لم يعرفوه منذ عقود. إذ ردَّد المتظاهرون في مسيرات حاشدة عبر العديد من المدن الغربية أغنية "تحيا فلسطين وتسقط الصهيونية" المعروفة بالسويدية باسم "Leve Palestina"، رفضا للاعتداءات الصهيونية الوحشية على قطاع غزة، التي راح ضحيتها حتى الآن أكثر من 12 ألف شهيد وخلَّفت أكثر من 30 ألف جريح.
سرعان ما اجتاحت الأغنية بكلماتها الحماسية الرنانة مواقع التواصل الاجتماعي، فقد حصد أحد مقاطع تلك الأغنية على منصة "تيك توك" نحو مليونَيْ مشاهدة في أسبوع واحد فقط فضلا عن تكرارها في مئات المقاطع؛ ما جعل وسائل الإعلام الغربية وبعض المنصات الإعلامية تصف الأغنية بأنها "أيقونة الاحتجاجات الغربية الداعمة لفلسطين، ونشيد دولي جديد ضد الصهيونية" (1).
في أحد مقاطع الأغنية التي تبدأ بصيحة "تحيا فلسطين وتسقط الصهيونية"، وتروي قصة كفاح الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، تروي الأغنية كيف بدأ الفلسطينيون بإلقاء الحجارة أولا ثم أطلقوا الصواريخ على أعدائهم، فكل العالم يعرف كفاحهم لتحيا فلسطين حرة، على حد وصف الأغنية. ولذلك، عندما غنَّى متظاهرون من شباب الحزب الاشتراكي السويدي الأغنية في يوم العمال العالمي عام 2019، اتهمت الأغنية بأنها "معادية للسامية" لأنها تضمنت عبارة "تسقط الصهيونية"، حتى إن البرلمان السويدي عقد جلسة خاصة لمناقشة محتوى الأغنية. وحينها خرج مؤلف الأغنية "جورج توتاري" نافيا أن تكون أغنيته معادية للسامية، ومؤكدا أنها تدعو إلى حث العالم على "التخلص من نظام السيطرة على الآخرين بقوة السلاح"، مشيرا إلى أن رسالة الأغنية هي أن "للفلسطيني الحق في وطنه حتى لو عاش اليهود هناك، وليس تحت حكم دولة استعمارية كما هو الحال الآن".
ورغم منع الأغنية في السويد وأوروبا، ظلت تتردَّد تعبيرا عن تضامن السويديين مع القضية الفلسطينية، بل وتعبيرا أيضا عن رفض الاستعمار ونظام الفصل العنصري والإبادة وكل قضايا التحرر الوطني، ما جعلها تعود لساحة الموسيقى العالمية بعد نحو أربعة عقود من تأليفها. فمَن هو جورج توتاري الذي نشر القضية الفلسطينية في السويد؟ وما قصة تلك الأغنية؟
فلسطين بلدي
بعد مغادرته فلسطين إلى السويد أثناء حرب عام 1967، بدأ المؤلف والمغني جورج توتاري، الذي وُلد في الناصرة بفلسطين المحتلة، تأسيس شكل فني جديد يهدف إلى نقل حقيقة القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في أرضهم لجمهور "لم يكن يعرف شيئا عن الفلسطينيين، وفي وقت لم تكن السفارات العربية تفعل شيئا من أجل القضية الفلسطينية" حسب قوله. ولذلك، قرَّر توتاري برفقة زملائه اليساريين السويديين بالجامعة، الذين كانوا مهتمين بالقضية الفلسطينية، تشكيل فرقة موسيقية عام 1972 سمَّاها "كوفية" (KOFIA). وبين تأسيس الفرقة وحتى اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987، أصدرت "كوفية" أربعة ألبومات، وثلاث أسطوانات، وشريطا واحدا، كلها بالتمويل الذاتي دون الاعتماد على شركة إنتاج كما روى توتاري في فيلم وثائقي.
في الألبوم الثاني لكوفية بعنوان "أرض وطني" الذي صدر عام 1978، خرجت لأول مرة أغنية "تحيا فلسطين"، التي أثارت جدلا واسعا في السويد حينها، قبل أن تكتسح بعد نحو 45 عاما منصات التواصل الاجتماعي وتصير أيقونة رفض الصهيونية في العالم. غير أن "تحيا فلسطين" لم تكن الأغنية الوحيدة التي غنَّتها "كوفية" بهذا الدعم الصريح للقضية الفلسطينية، فهناك أغنية غنَّتها الفرقة في ألبومها الأول "فلسطين هي أرضي" الصادر عام 1976، أظهرت رسالتها المقاوِمة الجريئة، إذ افتتحت "كوفية" مشوارها الفني بأغنية "نار على الصهاينة والإمبرياليين والرجعيين"، واستخدمت مزيجا موسيقيا وإيقاعيا حادا بين آلة العود وآلة "البوزوكي" اليونانية. وقد جاءت كلمات الأغنية باللغتين السويدية والعربية في تحدٍّ شجاع لكلٍّ من نظام الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه من الحكومات الأوروبية، بعد أن فرشت الحكومة السويدية السجادة الحمراء لرئيسة وزراء دولة الاحتلال "غولدا مائير".
على الإيقاع الموسيقي نفسه، جاءت الأغنية الثانية "المدفعية والدبابات" (Pansar Och Canoner)، وهي تحكي قصة امرأة انضم زوجها المُزارع إلى جماعات "الفدائيين" وقرر أن يحرر الأراضي المحتلة في "ثورة شعبية" في كل فلسطين يمكنك أن تسمع طبولها في خلفية الأغنية.
لا تتميز أغاني فرقة "كوفية" فقط بإيقاعها القوي الذي يدمج بين الموسيقى الشرقية العربية المستمدة من الفلكلور الفلسطيني وبين الآلات الموسيقية الغربية، بل تتميز كذلك بأسلوب الحكي الحماسي، فكل أغنية تحكي قصة وتقدم صورة ثقافية متكاملة وسياقا تاريخيا يضرب بجذوره في الأرض، ففي باقي أغاني الألبوم يسجل الإيقاع صوت امرأة فلسطينية لاجئة تعيش ظروف المجاعة في مخيمات اللاجئين بالأردن بعد نكبة 1948، ورغم المجاعة، تذكر "أم علي" على إيقاع الطبول والمزامير كيف شجعت أبناءها على مواجهة الإمبرياليين والصهاينة.
وفي أغانٍ أخرى، أحيت "كوفية" ذكرى مذبحة تل الزعتر التي وقعت في لبنان عام 1976 ضد مخيم اللاجئين الفلسطينيين ببيروت على يد حزب الكتائب الماروني المتحالف مع إسرائيل، وكذلك مذبحة كفر قاسم عام 1956. أما أغنية "المدفعية والدبابات" (Dom Dödar Våra Kamrater) السابق الإشارة إليها، فتحكي عن مقتل الرفاق وتفجير البيوت، ورغم ذلك يُقسِم المغني في أنشودته بأنه سيُجبر الأعداء على الاعتراف بشعب فلسطين، ثم يعزي نفسه قائلا: "أحب أرض وطني فلسطين.. وأتوق إلى الحجارة والجبال والوديان".
كان المشهد الأوروبي في غوتِنبِرغ مختلفا عن روح الموسيقى الشرقية التي أتى بها جورج توتاري وحاول دمجها مع الإيقاع الموسيقي الغربي، غير أن ثيمة "اليأس والخسارة" التي صبغت الفن الفلسطيني كله بعد النكبة أعادت تشكيل الفلكلور الفلسطيني وتحويله من أغاني الحب والغزل إلى أغانٍ وطنية ترثي الأرض والأحباب المفقودين. وقد ساعد هذا الحزن العميق في مزج الآلات والأصوات والنشاط النضالي، ما جعل لفرقة "كوفية" جمهورا يساريا واسعا في السويد، خاصة في المراكز الثقافية اليسارية التي أحيت فيها كوفية حفلاتها، حيث يتذكر عازف الفلوت "بِنغْت كارلسون" قائلا: "عندما أتينا إلى هذه الحفلات، كانوا يوفرون للناس آلات إيقاع ويقولون العبوا معنا، يمكن للناس المشاركة في الحفل، وهو أمر لطيف جدا" (2).
أضحى إشراك الجمهور في الغناء سمة مميزة لفرقة "كوفية" التي لغمت أغانيها بصيحات حماسية لا يمكن إزالتها من آذان الحاضرين بسهولة، مثلما يمكننا أن نسمع في أغنية "ابنة فلسطين" (Palestinas Dotter)، حيث تصرخ المغنية: "لا، لا، لا، لن نركع". وينتهي الألبوم بأغنية "وطني" (Baladi)، وهي أغنية تركز على حق العودة إلى فلسطين التاريخية: دير ياسين والجليل ويافا وحيفا وعكا، وهي خاتمة تستحضر الشعر الغنائي للفلكلور الثقافي لفلسطين.
أرض وطني
في الألبوم الثاني الصادر عام 1978، ركزت "كوفية" على الغناء عن المرأة الفلسطينية واللاجئات الصامدات والفدائيات المكافحات وخصوبة الأرض وبلدات فلسطين المحتلة، لكن الأغنية الأولى من الألبوم الذي صدر بعنوان "أرض وطني" جاءت عن مدينة الجليل ذات التربة الخصبة والخضرة والزيتون، وهي "Sång om Galiléen"، حيث حرصت فرقة كوفية على وضع القضية الفلسطينية في قلب النضال التحرري العالمي، مع شرح تفاصيل القضية الفلسطينية لشعب لم يكن يعرف شيئا عن فلسطين، ويشرح توتاري قائلا: "عشت في السويد وقررت أن واجبي مساعدة السويديين على فهم قضيتنا. كانت أغانينا تحكي قصص الأحداث التاريخية من أصوات الأمهات اللاتي فقدن أبناءهن وبناتهن وكل شيء".
وفي أغنية "الناصرة" (Nasaret)، تضع "كوفية" كلمات فلسطيني من عام 1948 على موسيقى بالعود، مع استجابات جانبية من الناي لغناء جورج الذي يحكي عن قصة الشعب الفلسطيني أثناء النكبة، وقصته الشخصية عن المدينة التي تركها عام 1967، ثم ينتقل توتاري فجأة للحن حماسي كأنه انتبه بعد إغفاءة حزن، مغنيا: "وراح نجيك يا فلسطين بعرسك يوم التحرير". وينتهي الألبوم برسالة قوية تلخص قصة كفاح الشعب الفلسطيني كله، كأنهم يشرحون هدفهم بعد أن رووا قصتهم، فأتت أغنية "Leve Palestina" لتكون صيحة حماسية تعبر عن الكفاح الفلسطيني، وعنصرا أساسيا في كل الاحتجاجات اليسارية المؤيدة لفلسطين في السويد في نهاية القرن العشرين، قبل أن تعود للساحة مرة أخرى مع العدوان الصهيوني الحالي على غزة.
موال لعائلتي وأحبائي
بينما كانت بيروت تحترق بقذائف ميليشيات "الكتائب" وحلفائهم ويتعرض الفلسطينيون في مخيمات اللجوء فيها للمجازر البشعة تحت رعاية الجيش الصهيوني في صبرا وشاتيلا، أصدرت "كوفية" ألبومها الثالث عام 1988 بعنوان "موال لعائلتي وأحبائي"، وكما هو واضح من العنوان يحكي الألبوم بالكامل عن حياة الفلسطيني وسط عائلته وأحبائه، وفرحته بأول المطر، ورقصته على الدبكة الفلسطينية الشهيرة، وعمل النساء في تطريز الأثواب الفلسطينية المعروفة.
في أغنية "صفق بيديك وارقص معي" (Klappa dina händer) يبني توتاري تلك الصور من حياة الفلسطيني، وإقباله على الحياة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وخلال الأغنية يرتفع تدريجيا صوت الكمان كأنه يُشكِّل القلب النابض لحياة الفلسطيني. تتشابه القصص التي تحكيها أغاني "كوفية" مع القصص التي كتبها الروائي والزعيم "غسان كنفاني"، ففي أغنية "لا تقصفوا" (Bomba inte mer)، يُصوِّر توتاري صبية يلعبون معا في سلام، ويبنون حياة ومنازل جديدة للأجيال القادمة، لكنهم يُقتلون تحت قصف وحشي اغتال أحلامهم.
ويعترف توتاري بذلك التشابه بين أغانيه وقصص كنفاني، حيث قال: "تعرفت على أعمال كنفاني عن كثب في مجلة الهدف. وبالطبع تأثرت بشدة بما قرأته وتفاعلت معه". ثم تظهر ظلال مذابح لبنان في ألبوم "كوفية" من خلال أغنية "سودة لبنان" التي تحكي عبر أصوات الفلسطينيين على جبهات القتال ما شاهدوه من مجازر وحشية: "جاءت القنابل من كل الاتجاهات، من الغرب من الشرق، يريدون حرق كل ما هو موجود، سنقاتل بكل شجاعتنا، سننتصر على الفاشية والصهيونية، سنقف ضد الشيطان وكل أعوانه".
صدر ألبوم كوفية الرابع والأخير عام 1988 أثناء الانتفاضة الأولى، وعلى عكس الألبومات السابقة سُجلت أغاني هذا الألبوم بكلمات عربية فقط، وكأنه جاء بطاقة بريدية لهؤلاء الذين ظلوا في فلسطين رغم كل المعاناة والقهر والإبادة التي يتعرضون لها يوميا. كما احتوى الألبوم على أغانٍ بمقاطع مخصصة لغزة والقدس والجليل، وأغانٍ حرضت على الكفاح والثورة الشعبية. ومن خلال الموسيقى والأغاني نجح جورج توتاري في نقل الروح القتالية للقضية الفلسطينية إلى قلب أوروبا، دون أن يتورط في جر قضيته إلى خطاب "نبذ العنف". وقد نجح توتاري في وضع قضيته في قلب قضايا التحرر الوطني، فقد ربط القضية الفلسطينية بالكفاح العالمي ضد الإمبريالية في فيتنام وإيران، والأهم أنه قدم تعريفا حقيقيا بالقضية الفلسطينية في مهجره بالسويد.
كتب توتري أكثر من 50 أغنية سويدية وعربية عن موطنه الناصرة ورام الله ودير ياسين، وبكلمات نابعة من جرح فلسطيني عميق، ورغم توقف توتاري عن إنتاج ألبومات جديدة منذ 35 عاما، فإن إنتاجه الفني وإنتاج فرقته "كوفية" لا يزال يصدح في ميادين العالم لتعبر أغانيه عن روح قضية فلسطين.
—————————————————————————–