ماكينة الأكاذيب الإسرائيلية.. كيف خسر الاحتلال الحرب النفسية؟
جو 24 :
قبل الهجوم المفاجئ الذي شنَّته المقاومة الفلسطينية على الأراضي المحتلة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، اعتمدت حركة حماس خطة تضليل إعلامية وسياسية معقدة، بدأت بحرصها الواضح على تجنب توسيع المواجهة التي اندلعت مع إسرائيل في مايو/أيار الماضي، ما خلق انطباعا بأن حماس تُفضِّل التهدئة في الوقت الراهن والانشغال بتفاصيل حُكم غزة. وساهم ذلك في التمهيد لعملية خداع إستراتيجي، شملت إجراء المقاومة تدريبات مُعلنة لها في وضح النهار، وتحت عين وبصر العدو، حملت اسم "الركن الشديد 4"، قبل ثلاثة أسابيع من اندلاع "طوفان الأقصى"، تضمَّنت محاكاة لخطف جنود، واقتحام مواقع عسكرية مشابهة للمواقع الإسرائيلية المتاخمة لغلاف غزة (1).
بمجرد نجاح المقاومة في اختراق غلاف غزة شديد التحصين، وأسر أكثر من 200 إسرائيلي والعودة بهم إلى داخل القطاع، بدأ الاحتلال معركة مضادة لإعادة شيء من كرامته المهدورة. ولكن إلى جانب تلك التحركات العسكرية، اندلعت حرب موازية أخرى في الفضاء الإلكتروني عبر منابر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وبدأ كل طرف في تقديم سرديته في محاولة لانتزاع شرعية جماهيرية تُبرِّر خطواته العسكرية على الأرض. وفيما يقول الفلسطينيون ومن ورائهم العرب والعالم الإسلامي ومناصري القضية الفلسطينية حول العالم إن ما حدث صبيحة يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول لم يكن سوى آخر حلقة في سلسلة من أعمال المقاومة المشروعة للشعب الفلسطيني لاسترداد أرضه ودفع العدوان عن شعبه، ما انفك الاحتلال يُروِّج لرواية أخرى تقول إنه ضحية هجوم إرهابي مماثل للحادي عشر من سبتمبر/أيلول، مُستعينا بإستراتيجيات إعلامية تمنحه تعاطف الرأي العام العالمي وتُبرِّر له استخدام القوة الغاشمة.
لم تقف الرواية الإسرائيلية عند ذلك الحد، فمع ما ظهر من تفوُّق المقاومة على أكثر من صعيد، عسكريا وسياسيا، وتعثُّر جيش الاحتلال في تنفيذ مهامه على الأرض، شنَّ الاحتلال حملة استهدفت الإسرائيليين في الداخل لترويج أكاذيب تطمس الحقائق التي ظهرت سريعا يوما بعد يوم في تسجيلات الإعلام العسكري التابع لكتائب القسَّام، وفي بيانات أبي عبيدة وغيره من قادة حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى. بدورهم، لم يكن الفلسطينيون غافلون عن التحركات الإسرائيلية فحرصوا على توجيه رسائلهم إلى الجميع بما في ذلك الداخل الإسرائيلي نفسه، ومنها مقاطع الفيديو التي انتشرت قبل ساعات لأسرى الاحتلال من النساء والأطفال وهو يودون المقاومين قبل إطلاق سراحهم ضمن صفقة التبادل.
صُنع الإنجازات الوهمية
في ليلة 28 أكتوبر/تشرين الأول، وتزامنا مع الساعات الأولى لبدء جيش الاحتلال التدخل البري في قطاع غزة مدعوما بسلاحَيْ الجو والبحر، نشرت عدة حسابات ناطقة بالعِبرية مقطعا لجنود إسرائيليين يرفعون العلم الإسرائيلي في مكان يُشبِه قطاع غزة، وسط مزاعم بأن تلك القوات وصلت سريعا إلى قلب القطاع، في محاولة للترويج إلى أن تل أبيب حققت نصرها سريعا، ومن ثمَّ زعزعة المعنويات العربية. ولم تمضِ ساعات على تلك الراوية التي استهدفت رفع معنويات الإسرائيليين، الذين اتهموا حكومتهم بالتقاعس عن حماية الأسرى، حتى تبيَّن أن الموقع الذي وصل إليه جيش الاحتلال لا يبعد سوى ثلاثة كيلومترات عن السياج الحدودي، في أقصى شمال غزة وفي منطقة غير مأهولة بالسكان. لقد احتاج الاحتلال إلى خلق رواية مُضلِّلة عن الحرب في ظل تصدي القسام لمحاولات التوغل البري، في وقت أطلقت فيه الكتائب رشقات صاروخية على تل أبيب وزعزعت ثقة الإسرائيليين في جيشهم، لكن الكذبة انكشفت في الأخير (2).
وبينما انقسم السياسيون والعسكريون في دولة الاحتلال حول الاجتياح البري وكيفية تنفيذه، بثَّت كتائب القسام تسجيلا لمحتجزات إسرائيليات في غزة يُوجِّهن رسالة إلى رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، اعتبره الأخير دعاية نفسية قاسية هزَّت المجتمع الإسرائيلي، خاصة أنهن طلبن بوضوح إعادتهن إلى منازلهن مقابل إطلاق سراح أسرى فلسطينيين. وفي اليوم ذاته، نشر بيان مشترك للجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن العام (الشاباك) أنباء عن تحرير مجندة وقعت في الأسر أثناء عملية "طوفان الأقصى"، لكن لم تصمد الرواية التي هدفت أيضا إلى رفع معنويات الإسرائيليين، وبالأخص بعدما تبين أن المجندة لم تقع في الأسر أصلا، ولم تكن ضمن القائمة الرسمية الصادرة عن السلطات الإسرائيلية بشأن الأسرى لدى حماس، وأن اسمها أُضيف في يوم الإعلان عن تحريرها نفسه.
مع استمرار العملية البرية دون إنجازات عسكرية حاسمة، ودون أن يظهر في الأفق أن الاحتلال يحقق هدفه المُعلَن وهو استئصال حركة المقاومة حماس واستعادة الأسرى؛ نشرت القناة 14 الإسرائيلية فيديو قديما وادَّعت أنه تصوير لاقتحام الأنفاق في غزة، دون تحديد المكان والطريقة التي تم بها الاقتحام. ولم تمر تلك السردية أيضا، وسرعان ما اكتُشف زيفها، فخرج المتحدث باسم جيش الاحتلال نافيا صلته بالفيديو، أو أن يكون قد بُثَّ بموافقة الجيش، ومن ثمَّ اضطرت القناة بعدها إلى حذف المقطع، المنشور على موقع يوتيوب منذ أكثر من عامين.
مع تواتر أخبار الحرب من جهة المقاومة بشأن حجم الأضرار والخسائر التي مُنيَت بها القوات المشاركة في الحرب البرية، التي بدا وكأنها أخفقت أمام تصدي المقاومة، لجأ الاحتلال إلى الحرب النفسية، واستخدم صور النازحين من شمال القطاع إلى جنوبه دليلا على خلو الشمال من السكان، وكأن مجرد التهجير إنجاز عسكري. علاوة على ذلك، أتى تصريح المتحدث باسم جيش الاحتلال بنزوح 600 ألف مواطن من شمال غزة، في محاولة لإثبات نجاح مهام العمليات العسكرية الإسرائيلية، ورغم مرور أكثر من 50 يوما على الحرب، وتركُّز القتال الميداني في مناطق الشمال التي يستهدفها الاحتلال ليل نهار بالقصف الجوي والمدفعية، فإن هناك عددا كبيرا من المدنيين لا يزال يسكنها ممن آثروا البقاء، كما عاد المئات منذ بدء الهُدنة في تحدٍّ صارخ للوجود العسكري الإسرائيلي، ضاربا بالسردية الإسرائيلية ومخططات التهجير التي تسعى لها تل أبيب عرض الحائط (3).
صُنع هزائم القسَّام.. الوهمية أيضا
عقب الساعات الأولى التي تلت "طوفان الأقصى" وحملت معها انتصارات مدوية للمقاومة، مقابل فشل استخباراتي وعسكري للاحتلال، انطلقت حرب موازية أخرى عبر شاشات التلفاز والإنترنت تدخلت فيها عدة أطراف دولية، وشارك الجميع في سيل الدعاية والمعلومات. وفي قلب تلك الأحداث، شرع الاحتلال في شنِّ حملة دولية مكثفة لإقناع العالم بأن حماس ليست سوى نسخة من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، في محاولة لتبرير الحملة الوحشية لجيش الاحتلال الإسرائيلي. وكان ذلك هو المبرر الأخلاقي ذاته الذي استندت إليه الولايات المتحدة لرفض إجبار إسرائيل على وقف إطلاق النار، تحت مزاعم أن الهدنة ستسمح للمقاومة بإعادة تجميع صفوفها، وذلك رغم المأساة الإنسانية غير المسبوقة في القطاع، حيث اقترب عدد الشهداء من 15 ألف شخص، بالإضافة إلى انعدام معظم الخدمات الأساسية (4).
ورغم أن حماس شاركت في الحرب الإعلامية، وقادت هجمة مضادة عبر الناطق باسمها "أبي عبيدة" وروافدها الإعلامية المختلفة، فإن انحياز الإعلام الغربي للرواية الإسرائيلية وتهميشه للرواية الفلسطينية، لا سيَّما في بداية الحرب، جعل صدى الرسائل الفلسطينية بالأساس بين العرب والمسلمين وأنصار القضية حول العالم، يُضاف إلى تلك الأزمة فرض منصات التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك" قيودا كبيرة على انتشار المحتوى المناهض لسردية الاحتلال، مقابل السماح لإسرائيل التي تمتلك جيوشا سيبرانية بفرض الرواية الخاصة بها.
مررت إسرائيل أكاذيبها طيلة الأسابيع الماضية، وقد شارك الحساب الرسمي لوزارة الخارجية الإسرائيلية على موقع التواصل الاجتماعي "إكس" (تويتر سابقا) بنشر صورة ادَّعى أنها لغلاف عدد أكتوبر/تشرين الأول من مجلة "فوربس" (Forbes) الأميركية، وعليه صورة رئيس حركة حماس في الخارج "خالد مشعل"، زاعمة أن ثروته تبلغ خمسة مليارات دولار. ورغم نفي المجلة الأميركية للصورة المفبركة، فإن الحساب الرسمي للاحتلال على "إكس" نشر صورة أخرى لإسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، على غلاف مفبرك لمجلة "فوربس" أيضا، وادَّعى فيها أن ثروته تبلغ أربعة مليارات دولار (5) (6). وقد هدفت تلك الأكاذيب إلى تشويه قادة الحركة في أعين الفلسطينيين والعرب المناصرين للقضية الفلسطينية والمتعاطفين مع المقاومة.
لم تقتصر محاولة الاغتيال المعنوي للمقاومة على الاحتلال فحسب، حيث زعم الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه أنه رأى صورا لمَن سمّاهم "إرهابيين" يقطعون رؤوس أطفال المستوطنين الإسرائيليين، قبل أن يتراجع البيت الأبيض عن هذه التصريحات التي أرجع مصدرها إلى تقارير إخبارية وادعاءات مسؤولين إسرائيليين. وسبق ونشرت السفارة الإسرائيلية في واشنطن فيديو مفبركا لسيدة فلسطينية عجوز تبكي وفاة ابنها إثر قصف إسرائيلي على منزلهم، لكن الحساب وضع ترجمة مضللة باللغة الإنجليزية تفيد بأنها كانت تهاجم حماس، وتقول إن أهل غزة يُفضِّلون جيش الاحتلال، وتتهم حماس باستخدام أهل القطاع دروعا بشرية، وهي الرواية ذاتها التي يحاول الاحتلال تمريرها لتبرير عمليات القصف التي لم تستثنِ المستشفيات للسبب ذاته (7). بيد أن تلك الروايات انكشف زيفها سريعا ولم تُحقق أهدافها في صفوف العرب وقطاع واسع من الرأي العام العالمي.
وعلى مدار أيام الحرب، عَمَد الاحتلال لتأكيد رواية واحدة من ضمن عشرات الروايات الكاذبة التي روَّجها ضد المقاومة. ففي أثناء العملية البرية التي شملت جرائم حرب صريحة، روَّج الاحتلال إلى أن حماس تختبئ في المدارس والجوامع والمستشفيات، ومن ثمَّ فإن إسرائيل غير مسؤولة عن وقوع أعداد كبيرة من القتلى. وكان آخر تلك الأكاذيب عقب اقتحام مستشفى الشفاء، حيث نشر الاحتلال مقطع فيديو مُزيَّفا أظهر سيدة تدَّعي أنها ممرضة فلسطينية تعمل في مستشفى الشفاء تتحدث فيه عن سيطرة المقاومة على المستشفى والاستيلاء على الوقود والأدوية. ولم تكن السيدة سوى مجندة إسرائيلية فضحتها لكنتها العربية الركيكة.
مثلما حدث في كل المواجهات السابقة، وفي وقت قدَّم فيه الإعلام الغربي روايات منحازة للاحتلال، لم يستطع العرب من مشرقهم إلى مغربهم التعبير بالكامل عن التضامن مع القضية بسبب تعرُّض حساباتهم على موقع "فيسبوك" لخطر الحجب وتقييد الوصول والحذف ضمن حملة تعتيم إعلامي استهدفت إسكات الأصوات الداعمة للقضية الفلسطينية، على النقيض مما جرى حين اندلعت حرب روسيا وأوكرانيا. ولكن الثغرة الوحيدة في هذه المنظومة هي أن منصة "إكس" سَمَحت بنشر المعلومات والفيديوهات دون فرض خوارزميات تُقيِّد المحتوى. وبسبب ما أفسدته منصة "إكس" بخروجها عن سياق السردية العالمية، واجه صاحبها إيلون ماسك تهديدات من الاتحاد الأوروبي بحجب الموقع بسبب سماحه للعرب بنشر روايتهم.
يعمد الاحتلال إلى ضمان ولاءات النخب المؤثرة عالميا، ما يجعل الكثير من الصحف الكبرى ووسائل الإعلام الأجنبية مليئة بالروايات المنحازة إلى دولة الاحتلال، تارِكا المُتلقي الغربي مُشوَّش الفكرة حيال القضية الفلسطينية. بيد أن "طوفان الأقصى" وما تبعه أثبت أن السرديات الرسمية المنحازة لإسرائيل في الغرب يتقلَّص تأثيرها يوما بعد يوم في ظل ظهور أجيال جديدة تحصل على معلوماتها من وسائط مختلفة، ولا تعتمد على المنابر الكُبرى، وفي خضم النشاط الكبير لليسار الراديكالي في شتى عواصم الغرب، يبدو أن الحملة الإعلامية الإسرائيلية تخسر أرضا يوما بعد يوم، وأن المستقبل يحمل تضامنا مع القضية الفلسطينية سيزداد اتساعا.
المصدر : الجزيرة