الأردن : دولة للنظام أم لكل الأردنيين؟
الأردن خلق كدولة بإرادة الغير ، وهو بذلك لا يختلف كثيراً عن باقي الدول التي انبثقت عن سايكس – بيكو ، باستثناء أن دوره الوظيفي المتعلق بإسرائيل كان في ذهن من اقتطع منطقة "عبر الأردن" "Transjordan" ليجعل منها دولة. ولكن الدولة الأردنية تطورت بالرغم عن الإرادات الأجنبية التي خلقتها ، وبقي هذا التطور ملحوظاً بشكل أساسي في تبلور الهوية الوطنية الأردنية، في حين استمر النظام السياسي محصوراً ومحاصراً بتبعات دوره الوظيفي.
لكن وبدلاً من أن يقوم الحكم في الأردن بالالتحام مع الهوية الوطنية الأردنية ،بحيث يصبح جزءاً منها وتجسيداً لها ، قام بمحاولات جادة وحثيثة للالتفاف عليها واحتوائها. وعمل النظام جاهداً على تحويل الأردنيين إلى شعب مرتهن للنظام من خلال المكرمات الملكية أو المناصب العليا أو الوظيفة ، وكأن الشعب حالة طارئة في وطنه والأصل هو النظام.
وفي السياق نفسه أصبحت المحاصصة أساس النظام السياسي في الأردن وابتدأ تفتييت الحكومات إلى كوتات عشائرية ومحافظاتية. وأصبحت التعيينات في المناصب الرئيسية تستند إلى نظام المحاصصة. وانتقلت البلد من المفهوم الوطني الجامع إلى مفاهيم المحاصصة الجغرافية والعشائرية. وأصبح الشمال شمالاً والجنوب جنوباً والشرق شرقاً والغرب غرباً لا يلتقون إلا من خلال المحاصصة وليس من خلال الهوية الوطنية . وأصبح القانون العشائري فوق قانون الدولة. وابتدأت مغالاة المواطنين في الانتماء العشائري تتغلب بشكل واضح على الانتماء الوطني الأردني. واستمر تقسيم الشعب الأردني جهوياً وعشائرياً، بمعنى تقسيمه طولاً وعرضاً ، وبشكل يسمح بوصف العملية بأنها تفتيت للشعب الأردني، وليس اعترافاً بالانتماء العشائري الذي يجب أن لا يسمو في كل الأحوال على الانتماء الوطني.
وقد خرج بعض منظري هذه السياسة الكارثية باصطلاحات مثل "الحقوق المكتسبة" والتي تهدف إلى تكريس مخرجات سياسة المحاصصة على الشعب الأردني باعتبارها مكتسبات وانجازات ، في حين أنها مسامير في نعش وحدة الشعب الأردني. وفي واقع الأمر فإن الشعب لم يشعر في يوم من الأيام بأنه معني بمثل تلك المكتسبات كونها محصورة في شريحة ضيقة جداً من المستفيدين : بعضهم مستفيد لمرة واحدة، والبعض الآخر لأكثر من مرة، والقليلين يتوارثونها أباً عن جد، ويصبحون بالتالي من أعمدة النظام يتصرفون كملوك صغار غير متوجين وإن كانوا في معظم الأحيان ملكيين أكثر من الملك، ويتحولون بالنتيجة إلى قدوة سيئة للغير وبؤراً للفساد ، لأنهم يعتبرون أنفسهم فوق الشعب وفوق القانون وفوق المساءلة والمحاسبة.
هذا الوضع البائس شهد انحساراً جزئياً وشكلياً لمدة قصيرة استجابة لمطالب الإصلاح لتعود الأمور إلى سابق عهدها بعد حكومة عون الخصاونة. وابتدات عملية الردة الكاملة عن المشروع الإصلاحي المتواضع ، ودمرت حكومة فايز الطراونة في أشهر قليلة ما أنجزه الحراك الشعبي الأردني في عامين من النضال ، من منطلق أن رضى الحاكم أهم وأنفع من رضى الشعب.
يمر الأردن الآن في مرحلة من الهدوء الظاهري الذي عادة ما يسبق العاصفة. هدوء قد يكون خادعاً وقد يكون مضللاً لصانع القرار، كونه قد يوحي خطأً بحالة من الاستسلام والخنوع والقبول. فالشعب الأردني واقع تحت مطرقة الأمن من جهة ، وسندان البطالة والجوع وارتفاع الأسعار الفاحش والفساد المستشري من جهة أخرى. ويغلف كل ذلك احساس صامت بالخوف من المجهول ومن أن يصيب الأردن ما أصاب غيره من دول الربيع العربي من دمار واقتتال واحتراب أكل الأخضر واليابس أو كاد. وهكذا فإن اللعب على وتر الخوف الكامن في نفوس الشعب الأردني، واليأس من إحداث تغيير حقيقي بالوسائل السلمية والتوافقية، وجبروت الأجهزة الأمنية ومن لف لفها ، قد أدى إلى خلق حالة من فقدان التوازن وخوف عدد كبير من الأردنيين من المجهول وما قد يحمله من خراب ودمار.
تتجه الدولة الأردنية الآن وعلى رأسها مؤسسة الحكم في ردة ملحوظة نحو النهج التقليدي المحافظ في إشارة واضحة إلى نية الحكم الابتعاد بشكل كامل ومعلن عن النهج الاصلاحي واعتباره شيئاً من الماضي. وقد ساعد الحكم على تبني هذا المسار عدة عوامل أهمها الإصرار الأناني والمتسلط للحركة الإسلامية في الأردن على تصدر الحراك الشعبي من أجل الإصلاح ، واستعمالها كافة الأساليب للهيمنة على الشعارات والمطالب والمسيرات الشعبية ، حتى لو تطلب ذلك شق تلك الحراكات من الداخل وخلق تنظيمات تنافس بعضها البعض.
كل ذلك أدى إلى ربط مصير حركة الإصلاح في الأردن بمصير الحركة الإسلامية في ذهن الكثيرين. وكان لهذا الموقف الأناني من الحركة الإسلامية آثار مدمرة على حركة الإصلاح في الأردن، إذ تمت محاسبتها من قبل النظام وبعض قوى المجتمع المدني على اعتبار أن مواقفها منسجمة مع مخططات الحركة الإسلامية المعلنة والباطنية . الأجهزة الأمنية من جهتها قامت بتضخيم تلك العلاقة بشكل عزز شكوك الكثير من الأردنيين بنوايا حركة الإصلاح في الأردن باعتبارها مهيمن عليها من قبل الحركة الإسلامية ، وهو أمر غير صحيح.
وهكذا عندما وقعت الواقعة في مصر وتم على أثرها هدم مخطط دولة الخلافة وتقطيع أوصال فكرة حزام الدول الدينية الممتد من تركيا إلى تونس مروراً بمصر وليبيا واليمن والأردن، انقَضّت الدولة الأمنية الأردنية على حركة الإصلاح برمتها. وهذا أمر لا يمكن اعتباره خطأً أو هفوة غير مقصودة ، بل على العكس فهو مخطط مدروس عن سبق إصرار وترصد بهدف القضاء على حركة الإصلاح في الأردن رغم أنها حركة سلمية إصلاحية في جوهرها وأهدافها.
وما نشاهده الان من كيفية تعامل الدولة الأردنية مع شباب الحراك وايداعهم السجون ورفض إطلاق سراحهم بالكفالة أو العفو عنهم ، هو ترجمة لسياسة القبضة الحديدية المخطط لها والمنوي تنفيذها لوضع حد نهائي لحركة الإصلاح .
نوايا الحكم في الأردن أصبحت ، إذاً، واضحة سواء تجاه حركة الإصلاح ومطالبها، أو بالنسبة للإصلاحيين وقادتهم . والحكم الأردني في مسعاه هذا إنما يعبر عن رغبة حقيقية في الاستمرار في النهج السابق الذي منع وفَتْحْ ملفات الفساد إلا عبر المحاسبة والمساءلة المؤسسة الأمنية مما أدى إلى التسيب والفساد المالي والسياسي والإداري الذي ميز الأردن في العقود الماضية وأدى تفاقمه إلى إفلاس الدولة من نواحٍ عديدة تجاوزت المالية والسياسية إلى باقي نواحي الحياة. فعندما يتحول الفساد من جريمة يعاقب عليها القانون إلى شطارة تدعو إلى الأعجاب تكون الدولة قد شارفت على الإفلاس الأخلاقي والحقيقي.
إن عودة الحكم في الأردن إلى النهج المحافظ والمعادي للإصلاح لا يشكل فقط نهاية لحقبة الحراك المطالب بالإصلاح ، وإنما أيضاً بداية لحقبة جديدة من تقييد الحريات وتكريس الدولة الأمنية ، وتصفية الحسابات مع كل رموز الاصلاح ، ومكافئة القوى المعادية للإصلاح، وإغلاق ملفات الفساد بشكل نهائي ، وإعادة الأمور في الدولة إلى المربع الأول مع إبقاء العنوان الإصلاحي قائماً لغايات التسويق الإعلامي الخارجي تحديدﴽ .
الأردن إذاً مقبل على مرحلة جيددة بعد أن تعلم النظام درساً من مرحلة الحراك الشعبي بأن لا يترك نفسه للمفاجئات مرة أخرى . والطريق لذلك على ما يبدو ليس من خلال مزيد من الإصلاح ، وإنما من خلال مزيد من القمع السياسي والإنهاك الاقتصادي للمواطن الأردني، بشكل لا يعطيه وقتاً للتفكير بأي شيء سوى لقمة العيش٬ والتعامل بقسوة مع قوى الإصلاح حتى يجعل الثمن باهظاً لكل من يفكر تفكيراً إصلاحياً.
ولكن هل ينجح النظام بمخططه هذا؟
يعتمد النظام الأردني في تنفيذ مخططه على الدعم الإقليمي والدولي أكثر من اعتماده على الدعم الداخلي. وسياسته تجاه الخارج هي المحاباة وتنفيذ ما هو مطلوب منه من قبل شركائه الخارجيين، في حين أن سياسته تجاه الداخل تخلو من مفهوم الشراكة وتعتمد مبدأ فرق تسد وتكرس مبدأ المنافسة السلبية، على أساس أن من سيفوز بمكرمات النظام هو الأكثر خضوعاً وقدرة على دعمه وتلبية مطالبه. فالولاء يجب أن يكون للنظام أولاً وقبل أي شيء آخر. وأي مخالفة لذلك سوف تُخرج الشخص المعني من دائرة الضوء والبريق السياسي إلى الظلام والنسيان.